ما هو الطبيعي في التطبيع؟/ عزيز أبو سارة
حركة مناهضة التطبيع تصبّ في ملعب سياسات الفصل العنصري في دولة إسرائيل. لذلك فإنّ رفض الفلسطينيين المشاركة أو حتى التعاون، لحدّ ما، مع الإسرائيليين ما هو إلا قبول منهم لهذه السياسات ■ وجهة نظر مغايرة تجاه التطبيع
ما هو الطبيعي في التطبيع؟/ عزيز أبو سارة
.
|عزيز أبو سارة|
|ترجمة: ساندرا أشهب- خاص بـ “قديتا”|
تشكل مناهضة التطبيع أحد أكثر المواضيع الشائكة في المجتمع الفلسطيني، رغم أنّ هناك أقلية قليلة يمكنها فعلا تحديد ما يعنيه المصطلح بالضبط. وقد اكتسب هذا المصطلح صيتًا شائعًا في الثمانينيات من أجل التصدي لقبول الوضع الرّاهن الذي خلفه الاحتلال. كان دعم المناهضين للتطبيع حينها نابعًا من قلقهم بصدد تحوّل الاحتلال إلى قضية ثانوية في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. كما كانت هناك مؤشرات أخرى، مثل تزايد عدد الفلسطينيين العاملين في المصالح الإسرائيلية، وغياب رؤية سياسية أو إستراتيجية لإنهاء الاحتلال وغياب القضية الفلسطينية عن الخطاب الدولي، وكانت كلها باعثة على قلق النشطاء الفلسطينيين.
ومع ذلك، ومنذ اتفاقات أوسلو، غدت كلمة تطبيع “دقة قديمة”، وباتت حجة “من هبّ ودبّ” ضد أيّ جهود تعاون عربي-إسرائيلي، بل أصبحت الغطاء الذي يجري بواسطته تدمير السياسيين معنويًا وحضورًا في السياسة الفلسطينية.
عندما يتعلق الأمر بالدول العربية وإسرائيل، يُفهم التطبيع على أنه أيّ علاقة أو صلة بين هذه الدولة وبين دولة إسرائيل. بيد أنّ البعض سيتهم أيّ عربي يزور القدس بالتطبيع، وإن لم يلتقِ بأيّ إسرائيليّ خلال رحلته. وهذا يعني أيضًا أنه يمكن اعتبار زيارة القدس الشرقية (المحتلة) تطبيعًا. الشيء نفسه ينطبق على الاجتماع بالإسرائيليين لأيّ سبب كان، في أيّ مكان في العالم، ما يمكن أن يؤدّي إلى وصم العربي بأنه مُطبِّع.
توجد في فلسطين تعريفات عدّة للتطبيع، وقد يتساوى عدد هذه التعريفات مع عدد الفلسطينيين أنفسهم. بعض الفلسطينيين يعرف التطبيع على أنه أيّ اتصال، أيًا كان نوعه، مع الإسرائيليين أو اليهود، بغضّ النظر عن مواقفهم السياسية. فهم يعتبرون المظاهرات المشتركة في الضفة الغربية ضدّ الجّدار الفاصل أو المستوطنات تطبيعًا، ويرفضون المشاركة فيها. البعض الآخر يعرّف التطبيع على أنه اتصال مع المؤسّسات الرسمية في إسرائيل، أو أيّ تعاون مع العاملين فيها. يمكن كذلك لعمل مشترك، أو لحضور حدث يضمّ أكاديميين إسرائيليين مُصرِّحين بمناهضتهم للاحتلال، أن يُتّهم بالتطبيع.
ولعلّ أكثر التعريفات المحيّرة للتطبيع هو “أيّ صلة بالإسرائيليين الذين لا يعترفون بالاحتلال، وغير العاملين في نشاط من أجل حرية الفلسطينيين”. ويشكل هذا التعريف إشكالية لأنّ تفسيره قد أدّى إلى استنتاجات مختلفة.
فلنفترض ناشطاً فلسطينياً يلتقي بالإسرائيليين ليصف لهم تأثير الاحتلال على حياته. هل هو مُطبّع؟ ماذا لو كان هذا الاجتماع بيمينيين، أو حتى بجنود؟ ماذا عن عقد اجتماع مشترك بين إسرائيليين وفلسطينيين يؤيدون قيام دولة ثنائية القومية أو كونفدرالية؟ سيُوصف العديد من هؤلاء على أنهم مُطبعون أيضًا.
وفقا للتعريفات الواردة أعلاه تُوصف جمعيات مثل “منتدى العائلات الثكلى” و“مقاتلون من أجل السلام”، كغيرهما ممّن يتحدثون إلى صفوف المدارس في إسرائيل لتعريف الطلاب بآثار الاحتلال على المجتمعات الإسرائيلية والفلسطينية، على أنها مُطبّعة. ويبدو أنّ وزارة المعارف الإسرائيلية لا تتبنى فكرة مقاومة التطبيع هذه، ولذلك منعت مؤخرًا منتدى العائلات الثكلى من إدخال فلسطينيين ليتحدثوا في المدارس الإسرائيلية.
مثال آخر هو مجلة+972 التي تتعرض للانتقاد أحيانا لقلة المدوّنين الفلسطينيين فيها. فالعديد من المدوّنين الفلسطينيين يترددون في الكتابة لموقع يكتب فيه إسرائيليون خوفا من نعتهم بالتطبيع، حيث لا يرغبون بأن تقوم حملة مناهضة التطبيع بتلطيخ سمعتهم.
ليس هناك ما هو تطبيعيّ في أنشطة “التطبيع” هذه. الكتابة عن الحياة تحت الاحتلال في مجلة مع كُتاب إسرائيليين ليست تطبيعية؛ تعليم طلاب المدارس عن الحياة في المدن الفلسطينية ليس تطبيعيًا؛ الاجتماع بالإسرائيليين في مجموعة للحوار لمناقشة كيفية تغيير الوضع الراهن ليس تطبيعيً؛ ليس التطبيع إلا وصفًا ملائمًا للنقاد الواهمين الذين يشتكون من الاحتلال من دون اتخاذ أيّ إجراء ضدّه. التطبيع هو التظاهر بأنّه بإمكان الفلسطينيين إنهاء الاحتلال من خلال تجاهل الإسرائيليين.
من المحزن أن تتمركز طاقات بعض الناشطين المناهضين للتطبيع في الاحتجاج على نشاطات “التطبيع” لدرجة نسيان التظاهر ضدّ الاستيطان المتزايد في القدس. بدلا من تنشيط الفلسطينيين للاحتجاج على فعاليات إسرائيلية-فلسطينية مشتركة، من الأحرى تنشيطهم للاحتجاج في الشيخ جراح وسلوان. فمن المفارقة اعتبار العديد من الفلسطينيين الحاضرين باستمرار في هذه الاحتجاجات، مُطبّعين.
القدس الشرقية ومعضلة مناهضة التطبيع
كنت ناشطاً جداً في حركة شبيبة فتح حين نشأت في القدس الشرقية. حينها لم أكن معارضاً لأيّ تعامل مع الإسرائيليين فحسب، بل هاجمت الآخرين لكونهم مُطبّعين وقد استخدمت كتاباتي لتلطيخ سمعتهم لعملهم مع “العدو”. مرّت سنوات قبل أن أستوعب أنّ هذا الموقف كان ينمّ عن قلة نضوج وقلة بصيرة؛ فمدرستي، الرشيدية، وهي المدرسة الوحيدة التي كان من الممكن لوالدي تحمل نفقاتها، كانت مُموّلة من بلدية القدس. كان على والدي دفع الضرائب للحفاظ على إقامتنا في القدس. كما عولج والدي في مستشفى إسرائيلي لمشاكل في قلبه. كل هذا وأنا أقول للآخرين إنّ الحديث مع الإسرائيليين خطيئة لا تُغتفر.
الواقع في القدس أكثر تعقيدًا من أن يستوعبه بعض الناشطين. عندما قتل جنود إسرائيليون أخي تيسير توجّب علينا استصدار تصريح من الحكومة (الإسرائيلية) لدفنه في القدس. مع هذا، كان بعض الناشطين المتطرفين ليتهمنا بالتطبيع مع مؤسسة إسرائيلية.
يتجاهل نشطاء مناهضة التطبيع الواقع في أماكن كالقدس. معظم الفلسطينيين في القدس الشرقية يعملون مع أو لصالح إسرائيليين من القدس الغربية. ولو أنهم كانوا يعملون في الضفة الغربية لتهدّدوا بفقدان إقامتهم في القدس بحجة أنّ مركز حيواتهم انتقل إلى خارجها. أينبغي عليهم ترك وظائفهم وتعريض إقامتهم للخطر؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يطرح الموضوع من طرف حركة مناهضة التطبيع في القدس؟
يستخدم معظم الفلسطينيين في القدس الشرقية نظام الرعاية الصحية الإسرائيلي، ويدفعون الضرائب لإسرائيل، كما يحصلون على مزايا الضمان الاجتماعي. تجهل حركة مناهضة التطبيع هذه الحقائق وتظلّ غير قادرة على تعريف نفسها بسبب الآثار المترتبة على ذلك. يتركني ذلك متسائلا عن عدد المتظاهرين ضد تجمع الحلف الإسرائيلي-الفلسطيني في فندق الأمباسادور أو حدث مجلة فلسطين-إسرائيل في فندق الليچاسي، اللذين يحصلان على هذه الخدمات؟ هل يجعلهم ذلك من مظاهراتهم نفاقاً؟
نشطاء مناهضة التطبيع وسياسة الفصل العنصري
اِستقلّ بعض النشطاء الفلسطينيين والدوليين، منذ بضعة أسابيع، إحدى الحافلات الإسرائيلية في الضفة الغربية لتسليط الضوء على سياسة الفصل التي تفرضها دولة إسرائيل. كانت رسالتهم تتمحور في رفض معاملتهم على أنهم أدنى مكانة من اليهود المستوطنين في الضفة الغربية وأرادوا أن يبيّنوا رفضهم لاحتكار الشوارع والحافلات على اليهود فقط. تعتبر أفعال هؤلاء النشطاء وفقا لكثير من التعريفات الواردة سابقا على أنها تطبيع، لأنهم أرادوا استقلال حافلات إسرائيلية تمولها الحكومة، وأرادوا استقلالها مع مستوطنين صادروا أراضيهم. كان ممكن تصوير هؤلاء النشطاء على أنهم داعمون للاختلاط بالمستوطنين، وبالتالي فهم مُطبّعون. وبالرغم من أنّهم سعوْا لتسليط الضوء على سياسات الفصل العنصري في الضفة الغربية إلا أنّ المسلك الذي اتخذه هؤلاء النشطاء لتحقيق غايتهم كان من خلال عمل تطبيعيّ.
حركة مناهضة التطبيع تصب في صالح سياسات الفصل العنصري التي تتبعها دولة إسرائيل في الضفة الغربية. وعلى هذا فإنّ رفض الفلسطينيين المشاركة أو حتى التعاون، لحدٍّ ما، مع الإسرائيليين، ما هو إلا قبول منهم لهذه السياسات.
هذا لا يعني أنّ كل تعاون مع الإسرائيليين مُحبّذ، بل تتجلى إحدى طرق النضال السلمي أحيانًا بمقاطعة هذا التعاون. ولكن يستوجب رسم خطة واضحة لذلك، وليس الاتكال على سلوك عاطفيّ وردّ-فعليّ يُفسح المجال واسعًا ومبهمًا لتعريف مقاطعة التعاون والتطبيع على حدّ سواء. أنا شخصيا أمارس بعض استراتيجيات مقاطعة التعاون إلا أنني ممنوع من طرحها بموجب قانون إسرائيليّ.
لعلّ أكثر الحجج المناهضة للتطبيع إرباكا هي تلك الصادرة عن أنصار حلّ الدولة الواحدة والمعتبرين أنفسهم مناهضين للتطبيع. من يدعم قيام دولة ثنائية القومية للإسرائيليين والفلسطينيين ليعيشوا معًا ويتمتعوا بحقوق متساوية، يعلم أنّ أفضل طريقة لتحقيق ذلك تكمن في زيادة الاتصال بينهم وليس في الحدّ منه. دولة ثنائية القومية تحوي شعبين منفصلين هي دولة فصل عنصريّ. لذا، ليس مناهضو التطبيع ومناصرو الدولة الواحدة إلا مناصرين للفصل العنصريّ. فأنصار الدولة الواحدة يضرّون أنفسهم برفضهم خلق نموذج يُحتذى به، والأجدى لهم تبيين كيف يمكن للدولة الواحدة أن تنجح بتحقيق أهدافهم عن طريق العمل المشترك، عوضًا عن انفصالهم عن الإسرائيليين.
في الواقع، يقوم بعض نشطاء مناهضة التطبيع بتعزيز إستراتيجية الفصل العنصري لحكومة إسرائيل. وإذا كان الفلسطينيون على قناعة بأنّ حكومة إسرائيل الحالية ستجعل من الضفة الغربية “چيتو”، فعليهم أن يتحدّوا هذه السياسات عوضًا عن تعزيزها. التعاون بين الإسرائيليين والفلسطينيين المدركين لغاية إنهاء الاحتلال مهم. علينا ألا نحصر مقاومتنا ضد الجمعيات المشتركة مثل “IPCRI” وغيرها، كما تفعل بعض الحملات في الضفة الغربية، بل يجب أن نقاوم الاحتلال. وعلينا كفلسطينيين أن نعيد التفكير بما هو طبيعيّ لنستطيع أن نقاوم التطبيع الحقيقي الذي يرضخ للأمر الواقع من دون محاولة تغييره. الإسرائيليون الواقفون جنبًا إلى جنب مع الفلسطينيين من أجل الحرية وحقوق الإنسان هم أخوة في النضال وليس في ذلك ما يمكن تسميته بالتطبيع، اللهم سوى الإنسانية المشتركة.
(الكاتب صاحب عمود في صحيفة “القدس” ومدير تنفيذي شريك في المركز الدولي للديانات والسياسات وفض النزاعات في جامعة جورج ميسون؛ عن مدونة +972)
3 يناير 2012
اضافة لكل ما قالته دعاء واوافقه تماما..
ارفق ردا على مقالك هذا ومقالك حول منتدى الدوحة في قطر
http://meetareej.com/ma/2012/01/aziz
3 يناير 2012
أوافق التعليق السابق، وأضيف أنّه من المحبّذ ترجمة ونشر الرّد على نص أبو سارة في الرابط التالي:
http://972mag.com/co-existence-vs-co-resistance-a-case-against-normalization/32076/
2 يناير 2012
أدعو قراء هذا المقال لقراءة الردود عليه في النص الأصلي بالإنجليزية هنا http://972mag.com/what-is-normal-about-normalization/31262/comment-page-1/#comments والتي أرى أنها في مجموعها فنّدت طرح أبو سارة كاملاً.
أما أنا، فلن أقول سوى أن السبب الوحيد الذي يمكن أن يدفع فلسطينياً لكتابة كهذا المقال هو رغبته في دفع وصمة التطبيع بعيداً عنه، بل تحويلها إلى نيشان إن أمكن. وفي هذا ما يغني عن كثير الكلام عن أحقية الكاتب في التنظير للسبيل الأفضل لمقاومة الاحتلال.