نشيد الخطيئة/ نذير ملكاوي
لم أختبر شعورًا مثل هذا مطلقًا، فيّ رغبة طفل يرى أمامه الحلوى ولا يستطيع امتلاكها. في الوقت الذي كان فيه الرّهبان يمرّون بين المقاعد، ليباركوا على المؤمنين ليلتهم، رأيته يقترب من مقعدنا
.
|نذير ملكاوي|
“أنا نرجس شارون سوسنة الأودية
كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات
كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقي”
(نشيد الأنشاد – الإصحاح الثاني)
>
(1)
الأحد / 24 كانون الأول 2000
العاشرة والنصف مساءً
بيروت
ريتّا
مضت نصف ساعة ولم تتزحزح ريتّا من وراء المرآة، كانت تنتظر شبيهتها في ذلك العالم الهلامي أن تتكلّم، أن تقول لها إنّها جميلة، أن تخبرها بأنّ ذلك النمش الذي يكسو وجنتيها لم يكن بسبب الحصبة الّتي ألمّت بها في صغرها كما تقول زميلاتها في المدرسة، كانت تنتظرها.. أن تقول أيّ شيء. لكنّها لم تكن تعلم أن تلك التي في المرآة، كانت تنتظرها لتقوم بذات الأمر.
- ريتّا لا تؤخرينا عن القدّاس كعادتك، عشر دقائق وسنغادر المنزل. قالت والدة ريتّا.
- أنا جاهزة منذ الأزل، أنتِ الّتي تصرّين كلّ مرّة على عكس ذلك.
- لا تكثري الكلام والبسي شيئًا يليق بالمناسبة.
نظرت مجددًا صوب المرآة، لوهلة شعرت بأنّ تلك الّتي في الصّورة أشدّ قوّة منها، تمنّت لو أنّهما تتبادلان الأدوار، ولو لهذا اليوم لا أكثر.
■ ■ ■
في أحشائي مشاعر مختلطة كلما ذهبت إلى القدّاس، رهبة مختلطة بشعورٍ بالمسؤوليّة. لكن اليوم أشعر بشيء مختلف. في طريقنا للكنيسة أحسست بيدٍ تمسك بيدي لكنّها ما تنفكّ تنزلق، وكأنّ حاجزًا خفيًا يحول بيني وبينها، إنها يدُ أبي، أستطيع أن أتميّز شعيرات يده النّاتئة، ها هوذا يناغيني بصوته الرّخيم: “ريتّا، يا حلوتي.. لمَ العبوس؟” تسود لحظة من الصمت لا أدري كم طالت: “لماذا تركتنا؟ كنت تقول لي إنّ الآباء الجيدين لا يموتون؛ أنت أسوأ أبٍ في العالم” لو أنّ أمّي الّتي التقته لما توانت عن إخباره بمحاولتي الانتحار مرّتين بعد هجره إيّانا. أمّا أنا فلن أخبره، لعلّه يعلم ذلك.. لا أدري. أفلتّ يده هذه المرّة رغم توقفها عن الانزلاق، ورحت أطوي الرّسالة في جيبي بعيدًا عن أنظار أمّي.
(2)
الأحد / 24 كانون الأول 2000
السادسة مساءً
كنيسة مار الياس – بيروت
الراهب إيليا
منكبًّا على ركبتيه الّلتين بدأت علائم الكبر تظهر عليهما، حانيًا ظهره بخشوع تام، وضع الرّاهب إيليا قبضتيه على الأرض أسفل صليب كبير في صدر الكنيسة، ثمّ تمتم دعاءً بصوته الخفيض: “أيّها الرّب، تقدّس اسمك في السّماء، باسم جسدك الّذي دقّ بأسافين من حميم ولم يتأوّه لحظةً؛ ها هو عامٌ آخر ينجلي، ليتكشّف لنا في ليلة ميلادك العظيم كم ضللنا الطريق، وكم سوّلت لنا أنفسنا الخطيئة، وكأن كل واحدٍ منّا يصرّ أن تظلّ “الخطيئة الأصلية” لصيقة بنا نحن بني البشر. أسألك باسمك الأجلّ في هذا اليوم، باسم مريمَ القدّيسة، ويسوع ابنك المسيح، أن تنشر السّلام بيننا؛ أبناؤك في الأرض… آمين”.
■ ■ ■
حين كنت طفلًا صغيرًا، كنت أخشى النوم ليلة عيد الميلاد؛ كان النّوم بالنسبة لي وحشًا بفمٍ كبير سيلتهم اليوم التالي لذا حرصت على الإفلات من براثنه بتخيّل الهدايا التي تنتظرني في الصباح، لكنّي لم أفلح في ذلك ولو لمرّة، بل دائمًا ما كنت أغطّ في نوم عميق. ارتبطت ليلة الميلاد في ذهني بالكنيسة، كان والداي يصطحبانني كل عيدٍ إليها لأداء الصلاة. لم أحبّ الكنيسة في صغري كثيرًا، كان يصعب على عقلي الصّغير فهم القدسية في صورة فتاة جميلة أو شابٍ جميل. أو حتّى بجلوسنا في صفوفٍ نستمع فيها لشخصٍ يعتمر قبّعة بثوبه الفضفاض يتهدّل عن جنبيه، كم كان يذكّرني ذلك بالمدرسة. ثم ماذا عن كون الله حمامة*؛ لقد كنت أهش الحمام بيدي حين يتغوط على حافة شبّاكي، وأرميه بأقذع الشتائم، كيف لي أن أعبد إلهًا يتغوّط أو يُشتم؟
لكنّ والديّ كانا محبّين لي لدرجة السذاجة، لذا كنت أخجل من نفسي لتفكيري بتلك الأشياء. في أحد الأيّام، حلمت بأني أقبّل صورة السيّدة مريم بطريقة غير لائقة، وبينما أنا على تلك الحالة ضبطني أبي. لم أستطع التفكير في نهاية للمشهد، لأنّ فمه كان قد اتّسع كموجة عاتية، والتهمني. عاهدت نفسي أن أدفن تلك الأفكار في بطني وكلّما ضبطني أحدهم متلبّسًا بها، تقيّأتها بسرعة. ظللت أقنع نفسي أنّ صغر سنّي هو ما يحول بيني وبين فهم تلك الأمور، لذا اعتقدت بحماقة كبيرة أنها طريقة ناجعة. تكرّرت الأحلام، وهاجمتني الأفكار كوحوش ضارية، شعرت بأنّني غريب أمشي في العراء وحدي، رغبت بوجود شخصٍ أشاركه أفكاري، لكن.. لا أحد. في أحد الأسابيع رفضت أن أذهب لقدّاس الأحد؛ ضربني أبي لأول مرّة في حياتي. أمي لم تنبس ببنت شفة، وكأنّما كانت تتوقّع مجيء تلك اللحظة، في اللّيل سمعت صوت بكائها، كان كأزيز أظفار على لوح خشب. لم يطل بقائي في البيت، بعد أن ظلّ أبي يردّد الكلمات التّالية كما لو أصبح محمومًا “بمن تسخرون وعلى من تفغرون الفم وتدلعون اللسان. أما أنتم اولاد المعصية نسل الكذب“**، أمّي كانت الغصّة الوحيدة في حلقي، لكن هل كان باستطاعتي تجنّب ما حدث؟
■ ■ ■
السّاعة الثانية بعد منتصف الليل، الشّارع ضيّق وحجارته بارزة. أشعر بأنّني مررت هنا من قبل، تحسّست جسدي لكنّه كان فراغًا. على الطّرف الآخر من الشّارع عجوزان يتوكّأ أحدهما على الآخر يهمّان بقطع الشّارع، أحاول الصراخ في محاولة لمنعهما لكنّ صوتي يرتد إلى جوفي، ليزيد الفراغ هوّة. تعبرهما سيّارة مسرعة، لا أحد يلقي بالًا في الشّارع وكأن شيئًا لم يحدث. تهبط حمامةٌ بيضاء عملاقة من السّماء.. تلتقط الجثتين بجناحيها بارتباك بادٍ.. ثم تصعد بهما باكيةً إلى السّماء.
(3)
الأحد / 24 كانون الأول 2000
الحادية عشر والنصف
بيروت
ريتّا
اللّيل يحثّ الخطى في الأفق، والطريق إلى كنيسة مار الياس طويلٌ لا ينتهي. تتداعى الأفكار على ذاكرتي بشكلٍ عشوائي وغير واضح تمامًا، أشعر كأنّي أمسك بشريط تصويرٍ لم يتم “تحميضه” بعد، صورٌ أجزم أنّها وقعت لي، لكنها بعيدة إلى ذلك الحد الذي لا يمكنني الإلمام بتفاصيلها. أقلّب الشريط الطويل بعينيّ، ها أبي تصدمه سيّارة في منتصف الطريق. وها أنا ألفّ حبلًا حول عنقي، خلته سيكسر عنقي فانكسر هو لأشرع يديّ للريح، فتطوحني كورقة شجر في خريفها الأخير. ألملم الشريط، وأنحيه عن ذهني. أتحسّس جيبي؛ ما زالت الرّسالة في مطرحها. شعرت أنه يجب عليّ إيصالها له حتى وإن تمّ فضح أمري.
■ ■ ■
سرت رعدة في جسمي حين رأيت المقاعد الأمامية شاغرة. اقتدت أمّي من يدها لنجلس، وانصاعت كطفل صغير. الرهبان في حركة دائبة، أحذيتهم تصدر طقطة كلما دبّت على الأرض الخشبية. يعملون مغمضي الأعين، فاغري الأفواه من شدة السرور. لم أختبر شعورًا مثل هذا مطلقًا، فيّ رغبة طفل يرى أمامه الحلوى ولا يستطيع امتلاكها. في الوقت الذي كان فيه الرّهبان يمرّون بين المقاعد، ليباركوا على المؤمنين ليلتهم، رأيته يقترب من مقعدنا، ادّعيت الوقوف لأبحث عن شيء وقع منّي، فهمّ بمساعدتي، نظرت في عينيه، وضعت الورقة في يده “ها هي، شكرًا لك أيّها الرّاهب”. راقبته يتلمّس موقعه على الأرض بقدميه، قبل أن يتركنا مهلهل المحيّا.
■ ■ ■
أخذ الكورال موقعه في الشطر الأيسر من الكنيسة، تتقدّمهم فيروز بوجهها المشرق كقمرٍ يسرع الخطى ليطلّ على الشّرق المظلم…
(4)
الاثنين/ 25 كانون الأول 2000
الثانية عشرة والنصف صباحًا
بيروت
الراهب إيليا
في اللحظة الّتي أمسكت الورقة بيدي، تحرّك شيء بين فخذي كنت قد نسيته منذ زمن بعيد. بعد أن غادرت المنزل، عرفت فتاة واحدة، كانت درزية، اضطرّت عائلتها مغادرة لبنان، ضمن من تركوها أثناء الحرب الأهليّة. ثم حصل ما حصل وسلكت طريق الرّهبانية، ومن وقتها اعتقدت أنّ بونًا شاسعًا بات يفصلني عن الجنس الآخر. لم يكن ذلك إكراهًا لنفسي بقدر ما كان تصالحًا معها. لكن في تلك اللحظة، شعرت بأنّ كلّ ما فعلته هو بناء سورٍ دائريٍ من الإسمنت حول نفسي، شاهدته يتعمّر عامًا بعد عام بيديّ هاتين. لم يطل ذلك الشعور طويلًا، قبل أن أعود للعمل، إذ لم يكن أمامنا سوى بضع دقائق على بداية المراسم.
■ ■ ■
بعدما خف الضغط عليّ، تداريت خلف الأنظار. شعرت بالهدأة تحوطني كما لو كان العالم كلّه أنا. فضضت الورقة وأخذت أقرأ:
“ربّما من العيب أن أفعل ما فعلت، أو أن أقول ما سأقول. لكنّي أعتقد أن مثاليتنا لن تجعلنا أكثر من نقطة ساكنة، وأنا أودّ أن أكون كونًا يدور حول تلك النقطة. في كلّ مرّة آتي لحضور القدّاس أظل أراقبك، حتّى بات وجهك منقوشًا في ذاكرتي. لا أريد الإطالة، فكلّما طالت هذه الرّسالة أكثر، أشعر بالتقزّز، فالكلمات تظلّ جوفاء، ما لم تخرج من فم قائلها. أتمنّى أن تفرغ من وقتك قليلًا، لنلتقي غدًا عند ساحة النجمة، برج السّاعة تحديدًا، الساعة الثانية ظهرًا. أعلم أنكم معشر الرّهبان لا تخرجون كثيرًا، إلّا أن الشمس ليست بذلك السّوء – ريتّا”.
أنهيت قراءة الرّسالة، وصوت في البعيد يردّد “وا حبيبي.. وا حبيبي.. أيّ حال أنت فيه”. توحّدت والمكان، وباتت نبضات قلبي مسموعة لدى كل من حضر اليوم، ذاك البناء الذي شعرت به يلفّني، أراه الآن يتقوّض أمام عينيّ، لكنّني قرّرت التماسك وعدم فقدان السيطرة، ظاهريًا على أقلّ تقدير.
(5)
الاثنين / 25 كانون الأول 2000
الثانية ظهرًا – ساحة النجمة
بيروت
الرّاهب إيليا
تعلّلت برغبتي باستنشاق الهواء، وخرجت من الكنيسة قبل الموعد بساعة. الليلة الماضية، اختلقت الكثير من الحوارات، اعتمدت ضحكة معيّنة، غسلت ملبسًا كنت قد ابتعته منذ زمن بات الآن منسيًا، غسلت أسناني أكثر من مرّة. عادت لذاكرتي ليالي العيد القديمة، فخفت أن أنام، فيسرق اللّيل غدي الذي لم يأتِ بعد. لكنّي لم أفلح في ذلك، وغططت في نومٍ عميق.
وصلتُ إلى المكان على الميعاد تقريبًا. وقفت على مدخل السّاحة، أناظر السّاعة واقفة هناك كجنديّ عاد من أرض المعركة، تنتظر أن يقف النّاس تحيّة لها. يتلامس عقربا الدقائق والساعات، فيدقّ جرسها، أتطلّع حولي فلا أجد من انتبه لذلك سواي. مددت بصري، فوجدتها واقفة هناك حقيقة لا يمكن ضحدها. هممت بالمشي صوبها، قبل أن أشعر بتفاهة الموقف برمّته. لماذا أنا هنا؟ ما الّذي يعيد تلك المشاعر القديمة لتطفو على السطح مجددًا؟ كانت غلطتي أن تركت النافذة مفتوحةً ليلة أمس، وكانت غلطتي أيضًا حين فتحت الباب فتشكّل مجرى للهواء كاد أن يعصف بحياتي. الآن، أدرك حجم ما أنا مقبل عليه، فأغلق الباب والنافذة بهدوء، وأعود أدراجي من حيث أتيت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) : إنجيل متى الإصحاح الثالث، الآية السادسة عشر: “وتعمد المسيح وخرج في الحال من الماء. وانفتحت السماوات له، فرأى روح الله يهبط كأنه حمامة وينزل عليه”.
(**) : سفر إشعياء، الإصحاح السابع والخمسون، الآية الرابعة.