بدايات عدّة لامرأة واحدة/ نسرين أكرم خوري
يقولون إن أجمل ما في الحبّ البدايات.. مثل كلّ العشّاق حاولت القبض عليها، ومثلهم أيضًا ظلّت تنفلت منّي، وتتدحرج مسرعةً نحوَ النّهايات.
| نسرين أكرم خوري* |
-ولادة-
في يومٍ حارٍّ من تمّوز من ثمانينات القرن الماضي، وفي الساعة الـ10.45 ليلاً، مصعدُ المستشفى الحكوميّ كان معطّلاً. قام أبي ذو العضلات المفتولة بحمل كلّ النساء الحوامل إلى الطابق الثالث -وكأن الولادة تحتاج إلى كلّ هذا العلوّ-. على الدرج صار أبي حاملاً للحوامل. وفي غرفٍ تتعالى منها الصّرخات باتَ لي إخوةٌ لم ألتقِ بهم بعد. سحبني الطّبيب من داخل رحمِ العشرينيّة الجميلة الخجول الّتي لم تصرخ رغم مخاضها العسير، بل اكتفت بآهاتٍ خفيفةٍ انفلتت رغمًا عنها وعروقٍ نفرت من بشرتها الشّفافة، وترديد صلواتٍ لم تنسَ كلمةً منها. ثمّ قصّ حبل سرّتي ببرودِ من يقصّ خيطًا منسولاً من كنزةٍ، ورمى به في كيس القمامة بصحبة قفّازيه الملوّثَين بدمي الّذي لا أعرف زمرته حتّى اليوم. كانت أوّل صفعةٍ في حياتي تلك الّتي تلقّيتها منه، ولم أكن بحاجتها ولا بحاجة ما تلاها من صفعاتٍ كي أبكي. ما احتجته بشدّةٍ هو حملهُ لي مقلوبةً كي أرى العالم -ولمرّةٍ- على حقيقته. أخرج في ذلك اليوم ذكورًا من أرحام نساء غريبات، وفتاةً لونها أزرق من رحم العشرينيّة الخجول، وربّتَ على كتف أبي مواسيًا: “سوف أعوّضها لك في المرّةِ القادمة”. أبي الّذي فوّت لأوّل مرّةٍ في تاريخه مباراةً (ودّيّةً) كي يشهد ولادتي ويحمل حوامل بإخوةٍ لم ألتقِ بهم بعد. أنا الكرة الّتي انفلتت منه وتدحرجت بعيدًا.. بعيدًا جدًّا.
-نون-
العشرينية الجميلة حين ضمّتني أوّل مرّةٍ، ألقت بخجلها جانبًا ودثّرتني باسمي وبالنبوءة:
فتاةٌ ببداياتٍ مقعّرةٍ كثيرةٍ، تحجز بينها الأسرار.
-خروج-
بمريول مقطّعٍ إلى مربّعاتٍ صغيرةٍ بيضاء وحمراء، كنت واقفةً في صفٍّ طويلٍ من صراخ الأطفال، أبحث عن يدِ أمّي وأجدها في ظهيرة كلّ يوم.
المربّعات صارت بيضاء وزرقاء، ثمّ طُمِسَت بالكاكي، ثمّ التقيتُ الحرية بهيئة ألوانٍ عليّ.
تغيّر ملمس يد أمّي، إلى حدّ أنني لم أعد أجدها في ظهيرة كلّ يوم.
-حُبّ-
يقولون إن أجمل ما في الحبّ البدايات.. مثل كلّ العشّاق حاولت القبض عليها، ومثلهم أيضًا ظلّت تنفلت منّي، وتتدحرج مسرعةً نحوَ النّهايات.
معك تغيّر كلّ شيء:
كنتُ واقفةً في آخر طابور نساءٍ خرجنَ من قصائدك
ساهيةً بينهنّ
وهنّ يتدافعن من أجل الوصول إلى بوّابتك
حين نادى عليّ الحارسُ: أن ادخلي
ثمّ أقفل خلفي وبلعَ المفتاح.
هناك فوجئتُ بجنائن فسيحة
مزروعة بالرّجال.
أحببتهم كلَّهم.
معك لم أستطع أن أمسك بطرف البداية، فكانت منسولةً إلى خيوطٍ رقيقةٍ شديدة الوخز:
حين طاول أوّل صاروخٍ المدينة الآمنة التي لذنا بها من نيران مدينتينا المنكوبتين.
حين وصلتني منك تلك الشّتائم اللذيذة خطأً؟. أحقًّا كان خطأً؟.
حين تصادفنا في حفل تأبين “نضال”، التقت أعيننا وقالت معه: “ما عاد في أسعد خلص، أنا رح اشتقلو، بس خلص .. راح”.
حين أتيت محمّلاً بكائناتك النبيلة وضربت أوّل موعدٍ معي تحت الجسر، أنا من كنتُ قبلك جسرًا مهترئًا عبرته عجلات الأمل الثقيلة وجرَت من تحته مياه الحياة العكِرة.
لانشغالي بتطيير العصافير من قلبي، انتظرتُكَ فوقه. من يومها كلّما لمحتني، صرختَ: “وجدتها”.
كيف رمّمني حبِّكَ هذا ؟. كيف أطحنا بمفاهيم الزّمان والمكان، وصار الوقت لاهثًا خلفنا، يردِّد: حبّهما كالسّيف إن لم تقطعه قطعك، ويستدرك: ولن تقطعه.
حبّنا النّازح من مدنه المدمّرة، صارت تقصده الأماكن كي تلتقط أنفاسها، وتتابع السّفر نحو خرابها القادم، بينما نتابع تعمير أحاديثنا الشّاهقة: بدايةً.. بداية.
ليس غريبًا أن تمسك بيدنا مقدّمة “ليلة حب”، ونحن ندخل بدايتنا الكبيرة، فأنت وحدك ”اللي عمرك ما خلفت معاد”، ومعك دائمًا ” كأن أول ليلة للحب الليلة دي”.
لأن “السّت” غنّتها في حفلتها الأخيرة، ستبقى بدايةٌ مؤجّلة عالقة بيننا: أن تدعوني إلى حفلة أم كلثوم في أول خميس من الشهر القادم.
*شاعرة سوريّة