في تذكّر أدونيس/ نائل بلعاوي
نائل بلعاوي يذكر أدونيس وهو يتحدث عن ضرورة رحيل الأنظمة العربية كي تتحقق الحرية في البلاد العربية، لكنه لا يستطيع التوفيق بين ما كتبه وقاله أدونيس عن الحرية وبين مقالتيه الأخيرتين حول ما يحدث في وطنه سوريا ■ هل هي كبوة أو أكثر؟
في تذكّر أدونيس/ نائل بلعاوي
|نائل بلعاوي|
هي الأيام الأخيرة من صيف العام 1997، حين حطّ أدونيس رحاله ضيفًا على “دائرة الثقافة النمساوية”، ولمدة أسبوع كامل، ترافقه مجموعة صغيرة من الكتاب والشعراء العرب الذين تم اختيارهم بطريقة خبيثة تتيح المجال أكثر أمام أدونيس ليبقى سيدًا مطلقًا في الاحتفالية الثقافية، النادرة عربيًا، آنذاك. وكان أدونيس، كما هو مُعدّ ومُنتظر، نجمًا بلا منازع أو منافس، تدور من حوله الأفلاك الحاضرة.
لم تكن نجومية أدونيس خلال الأسبوع الفييناوي المميز ذاك، وليدة الإعداد، غير البريء، للجهة الداعية، فحسب، بل هي، كما يمكن للمرء أن يحدس: مجرد متابعة منطقية للحضور الكبير الذي حققه الشاعر، صاحب المشروع الفكريّ، على امتداد تجربته الإبداعية الطويلة؛ فأينما حلّ أدونيس أو حضر، من بيروت إلى مراكش، كان لا بدّ لتلك النجومية أن تتبعه وترافق خطاه، فهو، بمعنى أو بآخر: أحد الآلهة القليلة المُعمّدة، بجدارة، في معبد الإبداع العربي الكبير.
انسجامًا مع دوافع تلك النجومية الطبيعية وأغراضها المتوقعة، كان الشاعر نجمًا بلا تكلف أو ادعاء… بسيطا، متواضعا، وشديد القدرة على بثّ الدفء، بتلقائية عالية، وخفة ظلٍ مكتسبة لا يتورّع صاحبها عن توظيفها، في كلّ وقت، ليجلد بها من يحبّ أن يجلد من نقادٍ وزملاء- وهم كُثر بطبيعة الحال. فمن يعرف أدونيس يعرف صراحته في الحديث عن هذا وذاك من الأشياء والأسماء. ويعرف أيضًا أنّ الرجل لا يجامل، كثيرًا، حين يتعلق الأمر بمواقفه الفكرية والسياسية، ناهيك عن رؤيته الشخصية للشعر بشكل عام، والعربي منه بصورة خاصة، وهو يعرف بالطبع ما يقول والى أين يريد أن يصل.
ونديمًا من طراز خاص كان أدونيس أيضًا؛ فحين يمتدّ السّهر ويحضر الجّيد من النبيذ الأحمر، والقديم من أغاني أم كلثوم، ينطلق الرجل على سجيّته، فيحكي ما لا يُسمع منه في كل وقت، وما لا يُعثر عليه من أقواله المنشورة في صحيفة هنا أو كتاب هناك. فهناك تمامًا: في تلك الأجواء الحميمية والخاصّة جدا، تخرج النفس البشرية، عادة، ما لديها من مواجع وأفراح، وتبوح بها، بلا خشية من رقيب ما، أو حدود بعينها. وكذلك فعل أدونيس: تحدّث بأريحية خالصة؛ قال الكثير وساجل مطولا حول القضايا المطروحة عربيا، ثقافية أو سياسية كانت، ولم يترك، بين هذا وذاك، فسحة صغيرة للتأويل والتخمين، فقد كان واضحاَ تمامًا، يوجّه نقده اللاذع لهذا الاسم أو ذاك “حتى الأسماء المُكرَّسة في معبد الثقافة إياه” ويمدح، بتواضع أنيق، تلك الشاعرة التي صدر ديوانها الأول قبل قليل، أو ذلك القاص، شبه المجهول في الريف المصري.
الآن، على عكس رغبتي تمامًا، لا استطيع الكشف عمّا سمعته من أدونيس في تلك السهرات (ما أعلن عنه من آراء حول الكتاب والشعراء العرب تحديدًا)؛ فمن قواعد تلك الليالي الثابتة ألا يبوح المرء بما يدور فيها. ولكنني لا أكشف الآن سرًا -هكذا أرجو على الأقل- حين أورد القليل من آراء الرجل، التي سمعتها ودوّنتها أيضا، حول النظام العربي، وكنت قد دوّنتها فعلا في دفتر صغير، على أن أعود إليها لاحقا لكتابة مادة ما، تجمع ما بين الحوار والسّرد مع الشاعر وعن حضوره في فيينا. ولم أفعل؛ وها أنذا أعود اليوم إلى تلك الجمل المتفرقة التي نقلتها حرفيا عن لسان أدونيس وأقرأ: “…الحديث عن سقف منخفض للحرية في العالم العربي هو مجرد هراء، فلا حرية هناك ليعلو سقفها، أصلا، أو ينخفض… لقد تمكّنت الأنظمة المستبدة من تسخيف مفهوم الحرية تمامًا. صارت الحرية وفقا لسلوك الأنظمة تلك مصدرا لتهديد وجودها.. أو هكذا تعتقد”.
وفي السّياق عينه يضيف: “يعجز المثقف العربي عن مواكبة أقرانه في الغرب لكثرة ما يحيط به من حواجز أخلاقية مفروضة بلا أسس، ومن تعاليم دينية سطحية عادة.. ولكنّ الحواجز هذه لم يكن لها أن تترسّخ كما نراها اليوم لولا وجود الأنظمة الشمولية السائدة”؛ و”الحرية شرط أساسي لعالمية الشعر العربي”. ثم يخلص أدونيس إلى الحقيقة التالية: “… لن يتمكّن العالم العربي من التقدّم خطوة واحدة إلى الأمام مع وجود هذه الأنظمة الظلامية… تجاوزها هو الذي سيفتح الباب أمام مستقبل أفضل”.
لم يفصح الشاعر يومها، كما تبين الأوراق التي بين يدي، عن وسيلة بعينها تيسر عملية التخلص من تلك الأنظمة الظلامية، ولكنه يشير، في جلسة أخرى، على صفحة ثانية من دفتر الملاحظات إلى الحقيقة التالية: “رفعت الثورة الفرنسية جدارًا عاليًا بين عصر الانحطاط الذي سبقها، وهذا العصر الأوروبي المتطوّر الآن… كانت مثالا للقطيعة الكاملة بين مرحلتين..”.
تبدو الرسالة التي تحملها الكلمات الأخيرة واضحة تمامًا؛ فالقطع الفعلي مع ما هو قائم: “عصر الانحطاط” لا يتحقق إلا من خلال فعل شموليّ وهادر، هو: “الثورة الفرنسية” مثلاَ. وهو الفعل الذي انشغل أدونيس طويلا باستقصاء معانيه وتحليل آلية عمله، في القصيدة أولا وتاليًا، وفي حفرياته النظرية الكثيرة أيضًا.
ثوريًا، كان أدونيس الذي رافقته ليلَ نهارَ في فيينا، وثوريا ومتمردا كان الرجل الذي تابعت بلا كلل أو ملل نتاجه الشعري والنظري على امتداد الوقت…
ألم تكن الرؤية العميقة للإرث الثقافي العربي في “الثابت والمتحوّل” فعلاً ثوريَّ المعنى والهدف؟.. ألم تكن عذابات وأحلام مهيار الدمشقيّ شكلا من أشكال الرفض المطلق لعصور الظلام؟.. و”وقت”، قصيدته الرائعة التي أحبّ: “حاملاَ سنبلة الوقت ورأسي برج نار”، ألم تكن بيانًا شديد الفاعلية والجمال، يتحدّى عبر طاقته الشعرية المكثفة كلّ ما هو سائد وباعث على الانحطاط..؟
هو أدونيس الذي عرفت وأحببت… هو ذاك الذي يتقدّم مظاهرة صاخبة في بيروت العام 1982 رفضًا للحصار. هو الذي لم يكفّ يوما عن التغني بالأمل والغد وارتفاع شأن الضحية. وهو بين هذا وذاك، الشاعر الكبير الذي فاجأني بالردّ على رسالتي الأولى إليه العام 1986 في الأردن.
في مقتبل العمر والتجربة كنت آنذاك. وكان إعجابي الشخصيّ بالمشروع الشعريّ والنظريّ لأدونيس قد تجاوز حدّ الاكتفاء بدور القارئ إلى رغبة بمحاورة الشاعر، وكان لي ما أردت… تبدو مفردة: “محاورة الشاعر” في غير موقعها الصحيح الآن، فالحقيقة أنني كنت أوجّه الأسئلة، وكان الشاعر، بسخاء أبويّ وتواضع رفيع، يجيب ويجيب، لتتواصل الرسائل، الحاملة في كلّ مرة، شيئًا من شخصية صاحبها، وما تحمله تلك الشخصية المتنوّعة، من فكر كونيّ وشموليّ البُعد.
اليوم أعود إلى تلك الرسائل القليلة التي حملتها معي من الزرقاء إلى فيينا، وحافظت عليها من التلف والنسيان، على امتداد ربع قرن كامل، لأعثر فيها، أيضًا، على الكثير من الآراء ووجهات النظر التي تتفق، بمجملها، مع مواقفه الفكرية والسياسية المُشار إليها أعلاه، حيث الحرية، في ثنايا الرسائل كما هي في جلسات وليالي فيينا: “قاعدة مقدسة”، وحيث: “لا حياة ولا إبداع بدونها”.
هو أدونيس إذاً في رسائل العام 1986. وهو النديم والمحاور الجميل في العام 1997. وهو… أود لو أقول: “الآن أيضًا”.. ولكن..؟؟
الآن.. في هذا الصيف من العام 2011، بعد مرور القليل من الوقت على انطلاق رياح التغيير التونسية، ثم المصرية.. “تغنى الشاعر بريادة الفعل التونسي وعبقرية المصري”، ها هي نار التغيير، بعد أن مرّت بليبيا واليمن والبحرين، تشتعل في عقر الدار الدمشقية.. دار مهيار وقاسيون، وها هو أدونيس الحامل “سنبلة الوقت” يطيح بفكرة السنابل وشروط الوقت ويبتعد، بلا وجل يبتعد، عن جماليات الانتماء إلى “برج النار” الموقدة.
حين قرأت للمرة الأولى فكرة أدونيس الغريبة عن ثنائية الجامع والتغيير (لماذا تخرج المظاهرات من الجوامع دائمًا؟)، لم أصدّق ما قرأت، فأعدتُ القراءة مجددًا عازمًا على النظر بتجريدية أكبر إلى النصّ الذي بين يديّ، من دون أن أسقط أنا عليه ما أحمل من أفكار، وما كنت انتظره، أصلاَ، من فكر الرجل الذي يساوي، عادة، بين الحرية والحياة، والى حدّ تقديس الأولى، كما هي الثانية مقدسة سلفاَ. ولم أجد، لم أجد ما يبتعد بي عن حالة التلقي الأولى للنصّ.. ولم أعثر على تلك الصورة الجميلة المخزنة للشاعر عندي. ولكني انتظرتُ. لم أفكر بكتابة ما أكتبه، بمرارة، الآن، ولم أتبنَّ موقفا جديدا من الرجل. قلت أنتظر، فربما يعود الفارس إلى صهوة جواده من جديد، لعلها كبوة مؤقتة لا أكثر، فالكبار لهم سقطاتهم أيضا، على خطورتها، ولكنها تبقى قابلة للتعديل.. إن شاء أصحابها..؟
لم انتظر، وننتظر طويلا، حتى أطلّ أدونيس علينا للمرة الثانية، عبر جريدة “السفير” اللبنانية هذه المرة، معلنًا ما لديه من اقتراحات قديمة وناعمة ـللسيد الرئيس؛ قديمة هي، لأننا سمعناها مرارًا وتكرارًا منذ تولى الوريث عرش أبيه. وقديمة هي أيضًا لأنها تجيء في غير زمانها ومكانها. فلعلّ رسالة الشاعر تصلح، إن صلحت، للنشر في العام 2005 مثلاً وليس الآن… ليس الآن أبدًا؛ فهناك، في هذه اللحظة، في اللحظة التي خط أدونيس رسالته إلى الرئيس، وفي لحظة نشرها، ولحظة تلقيها الصادمة، تتساقط الجثث على طرقات الشام، وترتفع، مع كل شهيد جديد درجات الألم.
وناعمة رسالة أدونيس بقدر ما هي بالية.. مربكة قليلاً.. تلتفّ من حول الحقيقة ولا تصيبها. تلمس الجروح أحياناَ وتخفف على الفور من حدّة أوجاعها. تقول بالإصلاح والتغيير، وتنتظر من النظام الذي يعرف أدونيس جيدًا أن صلاحيته كنظام حاكم، منتهية منذ أمد بعيد، وأن قدرته على التغيير بالتالي لا تنسجم بأي حال مع بنيته العقائدية السّائدة، وأن الشعار المرفوع الآن في سوريا هو إسقاط هذا النظام وليس تجميله المضحك من الخارج؛ ليس النزول بسقف وحشيته قليلاً، بل التخلص الكُليّ من تلك الوحشية، وليس، قبل هذا وذاك، الوصول إلى مخرج توافقيّ، يبقى الراعي بموجبه راعياَ والأغنام أغنامًا. فعن أيّ ممكن ومُنتظر يتحدّث الشاعر؟ وإلى أي رئيس يوجّه صيغة الرجاء هذه: “سيدي الرئيس”؟؟
صدمة من العيار الثقيل هي الرسالة الثانية لأدونيس.
صدمة شخصية وثقافية وإنسانية عامة ترفع من ضغط السّؤال الجوهري: إلى أين يريد أن يصل.. وماذا يُخفي في جعبته، إن أخفى؟ وهل هناك ما هو غامض وعلينا تفسيره في موقف المفكر الواضح عادة، والشاعر الذي لا ينزلق بسهولة وخفة في حُفر السلطة ومكائدها.. وها هو ينزلق؟؟
عدتُ إلى الرسائل القليلة القديمة مجددًا. إلى ما دوّنته نقلا عن الشاعر في دفتر العام 1997، وعدتُ إلى الكثير ممّا لديّ من أعمال تحمل توقيعه، لأبحث عن قاسم مشترك بين كل ما ذكرت، وهذي الرسالة الأخيرة الكارثة، فلم أجد… هل هناك ما هو موجود ولم أعثر أنا عليه؟ هل قدم أدونيس لمثل هذه المواقف الصادمة سلفًا.. ولم أنتبه؟ أم أنّ النار حين تقترب من عقر الدار تأخذ في طريقها كلّ ما هو ثابت، وتفتح الطريق إلى كل ما هو متحوّل وباعث على الألم، وهل وصلت النار حقًا إلى دار الشّاعر، وما اسم تلك الدار أصلا التي يخشى عليها أدونيس من التلاشي.. هو القاطن أبدًا بعيدًا عن الدار بمعناها المجازيّ؟ بعيدا عن العشيرة بمعناها الضيق؟ وبعيدا عن المقدس السطحي وما يشير إليه أو يحيل عليه؟؟
إلى أين يريد أن يصل أدونيس فعلاً؟ ماذا يودّ أن يقول، وعن أيّ شيء يدافع؟.. وكيف أقرأ أنا الآن رسالته الأخيرة، وأساويها بمقولته الجميلة الآتية، بهية الحضور في الذاكرة.. رفيعة المعنى، والتي أكرّرها للمرة الثانية، واختم بها: “لن يتمكن العالم العربي من التقدم خطوة واحدة إلى الأمام مع وجود هذه الأنظمة الظلامية… تجاوزها هو الذي سيفتح الباب أمام مستقبل أفضل”…
(فيينا 2011)
13 يوليو 2011
لقد وصف أدونيس الرئيس (الوريث) بشار الأسد بالمُنْتَخَب في رسالته فهل هناك أسفه من هذا الوصف وأشد تحريفا للحقيقة؟
يبدو أن بعض “المثقفين” قد امتدت غفوتهم حتى ظنوا أن الشارع بات ينسى، وأنه لا يستطيع نبش تصريحاتهم بأبسط من كبسة زر.
12 يوليو 2011
في الحقيقة، السيد نائل (على وزن مُنازل-الشخصية في مسرحية مجنون ليلى(التعيسة) لشوقي) يبدأ بوصف تقديره العميق، وبـ”تصفيط كلام” يبرز علاقة شخصية مع الشاعر، ليصل حدّ التباهي بأنّ أدونيس اتخذه نديمًا…ثمّ ينهال بنقد ذي نكهة انفعاليّة عير موضوعية، في النهاية، على الشاعر وعلى كتاباته الأخيرة.
أدعو القراء الكرام إلى قراءة النصوص الأخيرة لأدونيس، وهي موجودة ومجموعة في موقع جهة الشعر، ورسالته المفتوحة إلى بشار في السفير، ولا يستطيع القارئ -برأيي- سوى أن يحترم جرأة وحكمة التوجّه. أدونيس لا يداهن الرئيس ولا يتقرب منه، بل يمارس دوره كمثقف كبير في الإضاءة على الفشل الكبير للنظام البعثيّ، والدعوة إلى تغيير الدستور وإنهاء دور الحزب. وإن كانت الرسالة إلى “السيد الرئيس” رئيس حزب البعث، الذي يحكم باسم الحزب، فستتوقع أنت وأنا وأدونيس ردّ يشار(يعني مش راح يحلّ الحزب ويردّ عالشاعر). ولكنه تسجيل موقف من الواقع، وتأييد واضح لتغيير النظام والثورة عليه(دون أن يخفي وجله-وهو مثل وجلنا- مما قد يحلّ بعد سقوط النظام). وتبعًا لذلك، لم يخرج أدونيس عن مواقفه التي عرفتها يا نائل وهي مواقف حاسمة وواضحة مع كلّ ثورة وضد أيّ نظام متقوقع، وعلى كافّة المستويات.
7 يوليو 2011
لا احب ادونيس
لان من يكتب لكي يكون هدفه جائزة نوبل
لا يكتب بصدق
كل من اخذ جائزة نوبل اخذها دون ان يحلم او يفكر فيها حتى
ادونيس شخص مريض لديه مرض الانا والايغو – لديه جنون عظمة رهيب