إنهم يفشلون… دائمًا/ نائل بلعاوي
إما الاحتفاء بريشة علي فرزات وحنجرة إبراهيم القاشوش، وغيرهما من رموز اللحظة السورية العالية هذه، وإما التورط في عار أولئك الفائضين عن حاجة الأرض: شبيحة النظام واكتشافه الأقبح
إنهم يفشلون… دائمًا/ نائل بلعاوي
|نائل بلعاوي|
حين تذهب هذه الأنظمة المتوحشة، تباعاَ، الى جحيمها المنتظر، وتبدأ الحياة العربية عندها باسترداد نفسها.. جوهرها الكوني، وحياكة غدها بإبرة الحرية الآسرة، سيكتشف المثقف، حينها، فداحة ما خسر. سيعرف أن الربيع العربي قد مرّ مرور الخريف من امامه، من دون أن يمنحه وردة او فكرة. من يزرع يحصد، ومن يسقي الأشجار يعليها ويقطف من ثمارها. ومن يقف، الآن، على قارعة الطريق وينتظر، بحيادية مريبة، ما ستؤول إليه الأمور، لن يقطف ثمرة واحدة… لن يدخل به الربيع إلى صيفه وشموسه القادمة. بل سيقذفه الخريف الى برودة الشتاء ومرارة ليله… حيث، لا شيء، إلا العزلة هناك، وصرامة اللاجدوى.
حين ينتصر السوري على جلاده، غداَ، سيخسر المثقف. لا لأنه النقيض لذلك النصر المنتظر، وليس نتيجة لتحالف البعض من الكتبة مع الجلاد.. فتلك مجموعة لا تمثل في نهاية المطاف غير نفسها، حيث انحدار المعنى هو الدليل.. وابتذال الصفات هو الهدف. وحيث اللاثقافة: بدعة الأنظمة القائمة، هي الثقافة، وحدها، وهي النتاج المريب، الوحيد، لفكرة الحط الأثيرة، شرقية اللون واللسان، من كل شيءٍ صائبٍ وجميل.
سيخسر المثقف (المثقف، وليس كاتب ديوان السلطة) كنتيجة حتمية لتراجعه، خطوات وخطوات، عن المشاركة الفعلية في تعبيد الطريق إلى النصر، والوقوف الغامض، موقف المتفرج الحيادي حيناَ، أو الناقد، بخجل وحذر، أحيانًا أخرى، في وقت يسقط فيه السوري دفاعاَ عن حقه المقدس في الحياة والنجاة من عسف أشرارها، وهو الدفاع الذي يجدر بالمثقف أن يدرك معناه وقدرته على استعادة ما فاته. هو المثقف تحديداَ، وما خسرته الثقافة العربية برمتها عبر تاريخها الطويل من الابتذال.
يسقط السوري الآن دفاعاَ عن الحياة بأقصى معانيها. عن حريته المطلقة بالعيش كما يشاء.. تحت سقفه الذي يختاره ويرفعه، وليس سقف الحزب الفاشي وتعاليم الطغاة. يسقط السوري دفاعا عن الهواء والماء والغذاء والقصيدة والرواية وفنون بيع الخضار والقماش في اسواق البلاد. عن كل ما هو انساني بعبارة اخرى، ذلك الذي يجتمع، ليشكل معاَ، نواة اولى لكل ما هو ثقافي… كل ما نتفق على انه المحرك الفعلي لعجلة انتاج الثقافة وتجلياتها المبدعة برمتها. فمن على هذا الكوكب، وحده، تمتص الثقافة أفقها وأسبابها، وليس عبر كواكب بعيدة اخرى. هنا الحياة بكامل فوضاها، بجمال دروبها وقباحة بعضها، وما على المثقف الا أن يكون هنا: في قلب الحياة تماما.. إلى جانب الجميل من دروبها، وضد ذاك القبيح منها. ذاك القبيح الذي مثلته وتمثله انظمة الشر العربية الذاهبة اليوم -او غداَ- إلى الجحيم.
يخسر المثقف الآن، وسيخسر اكثر في القادم من الايام والمحن، فالذاكرة الجمعية للشعوب تحفظ، عادة، ما يشكلها من تجارب ومواجع، قد تغفر أو تتناسى، ولكنها لا تنسى؛ فالوقائع الآن اكبر من أن تُمحى وتُنسى، إنها اللحظات المفصلية التي قليلا ما تمرّ بها الأمم، وغالبا ما تعمل على اقتناص جدواها واشاراتها العميقة، وها هي الآن، عبر هذا الثمن الباهظ من الدماء والعذاب، تقتنص اللحظة العظيمة في سوريا وتعلي من شأنها، في وقت يدفن فيه المثقف رأسه في الرمل وينتظر، أو ينظًر، في احسن الاحوال وأقساها ايضاَ، لباقة غريبة ومريبة من الافكار التي تبدأ بالتحذير من “مؤامرة” شيطانية ما، تسعى للاطاحة بروائع الجنان السورية. ولا تنتهي عند تكرار النشيد البليد عن “المقاومة والممناعة”. فقد ذهب المثقف لمسافة ابعد من نظامه الوحشي، حين اعاد، ويعيد الآن، انتاج الفزاعة العربية الرسمية التي ترى في الانظمة القائمة حصنا منيعاَ يسد الطريق على مشروع الدولة الاسلامية المتطرفة وشرورها المنتظرة.
لا تساجل هذه الكلمات القليلة حول اهمية التحذير من مخاطر تلك الدولة الدينية، بل تدعو في حالة قيامها المستبعد اصلا إلى مقاومتها ايضًا؛ فلم تندفع الشعوب العربية في ربيعها البديع هذا إلى شوارع مدنها وساحاتها، من اجل استبدال القبيح بالقبيح، بل لأجل الاطاحة الشاملة بحالة القبح الأثيرة، وبصرف النظر عن أبعادها الثقافية او الدينية.. تلك الابعاد/الاعمدة، التي قامت عليها وازدهرت تحت ظلها: فلسفة الحكم العربية منذ عرفناها في قصور الدولتين: الاموية والعباسية، إلى لحظة الاكتواء بنارها الموقدة الآن في قصور هؤلاء القتلة.
فلسفة الحكم البغيضة تلك وما انتجته من مسوخ ثقافية وأخرى دينية هي المستهدفة الآن، وهي التي وضعتها الشعوب، عبر حراكها البهي هذا، هدفاَ للزوال والتلاشي الكلي. وما على المثقف سوى التقاط المعنى الفعلي.. جوهر هذا الحراك، وليس التباكي السطحي على علمانية لم نعرفها يوماَ لنخشى عليها، ولا على دولة مدنية، لم تقم يوماَ، على امتداد الجغرافيا العربية، كي نتجند دفاعاَ عنها. فالعكس هو الصحيح تماما؛ إذ يقود الحراك الآن.. عليه ان يقود إلى قيام الدولة المدنية المنشودة صاحبة السقف الاعلى للحريات والقوانين، علمانية العمق، فهناك، فقط، يكون المثقف ملزماَ بهذا العويل، ملزماَ بتوظيف ادواته للدفاع عما يستحق، وليس الآن.. ليس الآن ابداَ، فما زلنا نعيش في عصر ما قبل الدولة، ما قبل الظروف الطبيعية للعيش الآدميّ الكريم، وها هي فرصة الانتقال التاريخية، من عصر ما قبل الدولة إلى الدولة، تلوح عبر هذا الربيع الجميل، وها هو المثقف، المعتاد على الفشل، يفشل مرة أخرى وأخرى في اقتناص الفرصة السانحة، دافنا رأسه في رمل السلطة، بلا وازع أخلاقي، وبلا قدرة تذكر على ادراك التراتبية، الصارمة احيانا، للتحولات الاجتماعية الكبرى التي تنطلق، أولا، من إزاحة هذه الانظمة من الطريق، لتشرع تاليًا بترتيب ابجدياتها. فالبناء لا يبدأ من السقف، بل من الأسفل، من باطن الأرض، ونحن هناك الآن، في ذلك الأسفل البعيد، حيث تُدك الأسس وتوضع المقدمات.
يخسر المثقف، اليوم وغدا، حين لا يوظف ما لديه من طاقة وادوات للمشاركة في هذا الحراك الكبير، حين لا يقف بوضوح تام في قلب الحراك وليس خارجه.. ضد هذه الانظمة، وليس معها او إلى جانبها، وليس محايدًا أيضًا؛ فالحياد يحسب عادة لصالح تلك الانظمة وليس ضدها.. لأنّ لا حيادية ممكنة تجاه الضحية والجلاد، فإما الوقوف الفعلي إلى جانب الضحية، وإما الانحدار إلى فضيحة الجلاد؛ إما الاحتفاء بريشة علي فرزات وحنجرة إبراهيم القاشوش، وغيرهما من رموز اللحظة السورية العالية هذه، وإما التورط في عار أولئك الفائضين عن حاجة الأرض: شبيحة النظام واكتشافه الأقبح. وإما مرافقة ذاك “الذاهب إلى دمشق” ليبارك للنظام الوحشي صموده ضد الحياة، وإما الصعود البديع مع أولئك الصاعدين إلى حتفهم باسمين. فلا خيار ثالث أمام المثقف، ولا يفترض ان يكون. فإما -أخيرا وليس آخرًا- التقدم بالثقافة العربية خطوة نحو الأمام، إلى برّ امانها الانساني المفقود، وإما مواصلة المكوث الكارثي في حضن الفشل.
(فيينا)
9 سبتمبر 2011
قال النبي الكريم: “سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة.”
عاشت سوريا الاسد.