سائق الكرين رقم 101/ نديم عبد الهادي
خرج ميديك من حجرة القيادة الأمامية، ووقف على عتبة الباب، يستعد لنزول الدرج الحديدي. اكتشفت أنه قصير، وجاف، ومنحن، ومجوف كلحاء مقشور. يرتدي بنطلونا فضفاضا من قماش بني، وكان القماش يروح ويجيء كستارة نافذة مشرعة
سائق الكرين رقم 101/ نديم عبد الهادي
.
|نديم عبد الهادي|
في جداولي اسمه: ميديك؛ جنسيته: فلبيني؛ مهنته: سائق معدّات ثقيلة. وحسب جداولي أيضًا، لم يتسلم الكرين العملاق، القادر على رفع 90 طنا، منذ أن جمّعت الشركة قواها المالية واشترته قبل 5 سنوات، أحدٌ سواه. إنه الوحيد المخوّل قيادة الكرين رقم 101، بتعميم صادر عن المدير العام مباشرة. أما بالنسبة لمشرف الموقع المصري فليس ميديك سوى “واحد نمرود وابن ستين كلب”!
كنا نستعرض الكشوف معا، فلما وصلنا لاسم ميديك انفعل هكذا يسبّه. استغربت مستفسرا:
“بيقولوا إنه زلمة في حاله!”
فأوضح بغضب واشمئزاز:
“ده سكّير ما بيصحاش! قزازة العرق دايمًا في جيبه!”
ولما سألت:
“من وين بيجيب الخمرة؟ لا يكون بيهّربها من البحرين؟!”
قال:
“إنت فاكره بيشرب ويسكي؟ ده بيشرب عنب معفّن!”.
كنت قد وصلت الموقع في الظهيرة وقت الاستراحة، والأرض ما تزال رطبة من مطر ليلة أمس. عندما تكون الأرض جافة، يستلقي العمال على الرصيف تحت أيّ شجرة، متوسّدين أحذيتهم، ولا يمرّ وقت طويل حتى يعلو شخيرهم على زقزقة العصافير في الأغصان. هذا اليوم، تلطخت أحذيتنا بالطين، ولم يجد العمال مكانا يصلح للنوم. الشارع محفّر، وعمليّة استبدال شبكة المجاري تحت الأرض بلغت مراحلها الختامية. في آخر الموقع كان الكرين العملاق يقف بجوار حفرة عميقة وقناة اسطوانية ضخمة مصبوبة من الإسمنت. كنت موظفًا جديدًا في الشركة، غالبية العمال لا تعرفني. جئت للتوّ من مبنى الإدارة، الواقع في وسط المدينة. مهمتي هذا الأسبوع أن أزور مواقع العمل واحدًا واحدًا لأتأكّد من حالة المعدات، ومن مطابقتها لواقع الجداول والكشوف. كنت أرتدي بنطلونَ جينز أزرقَ، وسترة خفيفة تحتها فانيلة قطنية إذ لم يكن البرد شديدًا. وكانت تتدلى من كتفي الأيمن الكاميرا التي أستخدمها لتصوير المعدّات، مضبوطة إعداداتها لتبرز التاريخ والوقت أسفل الصورة، لأغراض التوثيق.
مررت على أغلب المعدات مرورًا روتينيًا، ولم أجد فيها مشكلات تذكر. عندما وصلت إلى الجرّافة، وكانت آخر ما يفصلني عن الكرين، وجدت سائقها باكستانيا. يجلس على الكرسي الجلديّ المرتفع، بزيّ بلاده التقليديّ: السروال الواسع، الذي يعلوه ثوب قصير مشقوق من الجانبين. نزل السائق الباكستاني ببنيانه المتين قفزا فور أن رآني، ورحّب بي بحرارة. عزم على أن يضيّفني، وفعلا أسرع إلى كافتيريا عند طرف الشارع واشترى لي وله كأسيْ شاي. سألني عن نفسي وتحدّث إليّ كما يتحدث إلى أخ بعربيته المكسّرة. لم يشكُ من عيب في مُعدته، ولم أجد بدوري مشكلة ظاهرة فصوّرت المُعدة كما فعلت بسابقتيها. أخيرًا سألته بصوت منخفض عن سبب العداوة بين ميديك ومشرف الموقع، فضحك كالأطفال. قال:
“ميديك يحب شُرُب..”
ونقل كأس الشاي إلى يده اليسرى، ثم فرد كفه اليمنى وأشار بإبهامه أمام فمه كمن يشرب. قال:
“ميديك مخ ما في مزبوط إذا ما يشرب” وضحك متابعًا: “بس مستر حمدي مخ ما في مزبوط، دايما سوّي مشاكل مع مديك عشان شرب. ميديك ما يسمع.”
لكنه استدرك قائلا:
“بس احترام لمسلم، ميديك في خبّي قزازة جوا جاكيت، وما يشرب الا جوا كرين.”
كنت أسمع مندهشا. سألت:
“وهل عرف المدير العام؟”
قال: “مستر جمال يعرف ميديك كويس. ميديك أحسن سوّاق كرين في شركة! في كتير حمدي ما في غير واحد ميديك!!”
وكان سعيدا بما يقوله، حتى أحسست أنه لا يحبّ مشرف الموقع. وهذه مشكلة، لأنّ مشرف الموقع هو الحبل السُّري للعمال، هو من يسجل عدد الساعات التي يقضونها في العمل، هو من يسلمهم الرواتب أول الشهر، هو من يرفع حاجاتهم إلى الإدارة. سلمت شاكرا، ومضيت باتجاه الكرين.
كنت أتقدم وعندي رغبة بالتعرف إلى ميديك. ولكني لم أكن متحمّسًا؛ فالفلبينيون ليسوا كالباكستانيين، ولا تقع الألفة بيننا وبينهم سريعًا. فكّرت هل حقا يمكن القول إننا أقرب إلى شعب دون شعب آخر؟ قلت لأسباب كأخوّة الدين وتشابه القيم والاشتراك في احترام العادات نفسها، نعم. ألا يكفي ذلك لتأكيد الفكرة؟ تذكّرت صداقات عقدتها مع موظفين وعمّال من مختلف الأصول والديانات فتردّدت بتثبيت الحكم. إن مجرّد إبداء الاحترام للشخص المقابل كان يكسر الحواجز ويبني الجسور. ولكن ذلك يعتمد على طبيعة العلاقة، أيّ نوع من العلاقات تقصد؟ وجّهت السؤال لنفسي. وقبل أن استرسل في التفكير كنت أمام الكرين. رأيته مهيبا، بهيكله العالي، وعجلاته الكبيرة جدا، ورافعته الضّخمة تشقّ الفضاء. كان مستقرًّا على الأرض، مسنودًا بأذرع فولاذية من زواياه الأربع، مثل عنكبوت آليّ. هممت بأخذ جولة تفقدية حوله، لكن باب الكرين فُتح فجأة.
خرج ميديك من حجرة القيادة الأمامية، ووقف على عتبة الباب، يستعد لنزول الدرج الحديدي. اكتشفت أنه قصير، وجاف، ومنحن، ومجوف كلحاء مقشور. يرتدي بنطلونا فضفاضا من قماش بني، وكان القماش يروح ويجيء كستارة نافذة مشرعة. ورأيت السترة التي يرتديها، سوداء تلمع مصنوعة من مادة نايلونية مضادة للمطر. وكانت منتفخة من عند القلب بالزجاجة إياها. اقتربت منه وهو يهبط. ظهره للكرين، وجهه لي، ويداه تمسكان بقوائم الدرج. كان رأسه مربعا، ومحاطا بطاقية صوفية. بشرته دبغتها الشموس يوما بعد يوم، حتى ماتت فبرزت عيناه كبركتين موّارتين من الزئبق. قفز من الدرجة قبل الأخيرة. واجهني بقامته المقوّسة. قال:
“!Good after noon sir “
قلت:
“Good after noon! “
بحثت عن ماء الحياة في وجهه. كانت عروقه بارزة أسفل العينين، مزرقة ومتصلبة كأنها روافد نهر متجمد. سأل:
“Are you from the head office? ” فرددت بالإيجاب.
نبض للحظة بالحياة، وقال:
“Please come and see. “. واستدار.
كان التحدب من جهة ظهره أوضح، حتى الساقان كان فيهما انحناء واضح. سرت وراءه وتوقفنا أمام إحدى عجلات الكرين من الجهة المقابلة. كان العجل مرفوعا عن الأرض لا يمسّها. أشار إلى شق في الإطار بطول مسطرة صغيرة. انتبهت لعينيه الضيقتين كيف تبرز حدقتاهما من تحت بركة الزئبق وتثبت بين الجفنين تماما عند التركيز. قال:
“It is too dangerous! “.
أومأت برأسي موافقا، وكان يبدو أنه لم ينتهِ بعد من عرض خطورة الأمر. سار نحو غرفة التحكم الثانية في مؤخرة الكرين، لحقته فأوقفني بإشارة من يده. تعلق ببروز ناتئ في جسم الكرين، ثم قفز لداخل الغرفة كضفدع. أدار محرك النظام الهايدروليكي، وبدأت الأذرع الفولاذية بالابتعاد عن الأرض. هبط الكرين ووقف على عجلاته. فرأيت بالونا أبيضَ يخرج من الشقّ في العجل. الحقّ أنني خفت أن ينفجر. عاد ميديك في تلك اللحظة، وكرّر مشيرًا إلى العجل:
“It is too dangerous, you should order new one immediately! “.
أظهرت الجدية، وأخرجت الكاميرا من بيتها. كنت أعرف أنّ المدير العام في شركة مقاولات صغيرة كالتي أعمل بها لا يغيّر عجلا ضخما كهذا بسهولة. إنّ ثمنه يفوق الخمسة آلاف ريال، والمدير يحبّ أن يحلب البقرة حتى وهي تحتضر. نقلت له شكوى مماثلة ذات يوم من سائق شاحنة نيبالي، فقال: “للشاحنة 12 عجلا، لو انفجر واحد ماذا سيحدث؟ لو أنني غيّرت كل عجل لا يعجب السائق لم تكن لتكفي كل فلوس الشركة!” لكني كرهت أن أظهر بلا قيمة أمام ميديك. فعددت زوايا التصوير، وكتبت تقريرا مفصّلا عن وضع العجل، على أن أرفعه للمدير العام.
ثم التفت إلى الوراء فلم أجد ميديك. لمحت جزءا منه يتوارى وهو مُتّجه نحو الطرف الآخر من الكرين. غيّرت موقعي كي أراه جيدا، أين ذهب. كان يمشي ويجرع من زجاجته التي لم تعد مخفيّة. ينتصب إذا جرع جرعة، ويتقوّس بعد أن يبتلعها. واستدرت معه لئلا أضيع مشهده وهو يصعد كالضفدع إلى غرفة القيادة. حيث يجلس هناك وحيدًا مع زجاجته والخطر.
4 يناير 2013
قصة جميلة جدا يا نديم. لا أذكر أنني قرأتها سابقاً. الوصف فيها جذاب واللغة سلسة ولطيفة والشخصية مؤثرة.