ليست ميّتةً هذه القصيدة / موسى حوامدة
ملاكُ الموت ليس شبحًا يطلُّ من عالم الخرافة،
إنّه الزّائر الغريب
يسكب ماء المهزلة في كؤوس العتمة.
>
|موسى حوامدة|
.
ليست ميّتةً هذه القصيدة؛
إنّها ترفو جواربَ السّماء
بخيطٍ من نور،
تَحبك وجهَ الشّرق بعباءةٍ فضيّة،
تمسح جبينَ الغروب
بيدٍ من ذهب.
.
ليست ميّتةً هذه القصيدة؛
إنّها حلمُ بحّارٍ أرعن،
كسر اللّيل بطرطقة خاتمِهِ على دفّة السّفينة،
خانَ البحرَ بغناءٍ شجيٍّ
عن طفلة يتيمةٍ
كانت تحتضن التّرابَ خوفًا من الذّبول.
.
ليست مصيدةً للدّود،
ليست نبتًا شيطانيًّا
في يد الحاوي،
الحاوي الّذي مدَّ يده في جحر الزّمان،
أقلع عن عادة اللّهو مع فرائسه.
.
ليست مريضةً هذه المئذنة؛
إنّها شجرةُ خرّوبٍ في كرمِ حزنٍ جاثمٍ
في كلِّ ركنٍ من المسجد..
بخورٌ يعبقُ بحفلة نُواحٍ على إثمٍ بعيد.
.
يتدلَّى من برج السّماء
قمرٌ أزرق
يتمطّى في ثيابٍ بنّيّة اللّون،
يغرق الأسى في أجراس عيد الميلاد؛
كلُّ دقّةٍ تَرفع جثّة المسيح قليلًا
كلُّ دقةٍ تبني حجرًا في جدار الخزّان،
تبكي الدموعُ،
عيون الملائكة ترحل.
.
ليست ميّتةً هذه القصيدة.
ربّما يكون القارئُ دائخًا في تعداد موبقات العدم،
ربّما يكون الشّاعر ذاهلًا في تسريح القصائد في برّيّة الملكوتْ،
ربّما يكون العَالَمُ نائمًا في نهاية التّأريخ،
مُقبلًا على تلويث الدّم بحبر الأرق.
.
عجبًا من تكيّةٍ على رأس الطّريق
تخفي زوَّارها ولا تخفي تراتيلها العطرة،
ليست خمرًا هذه الأناشيد
إنّها حباب الكحول في قلوب المريدين.
.
دُلَّهم يا معجبًا بنشيد القرنفل،
دُلَّهمْ على صحّة زعم الكناري؛
الكناري الميّت؛
الكناري، الّذي حطَّم زجاج السّكوتِ،
خربشَ على سقف السّرابِ
قصيدةَ حُبٍّ لعصفورةٍ شريدة.
.
عصفورة طريدة
عطرها نافذٌ،
ديدنها التّرنّمُ على ميقات الفصول،
تدنو من أعشاش النّعمة،
تحفرُ بريشها بؤسَ العالَمِ،
ترفع لائحةَ اعتراضٍ في وجه الطّبيعة،
تسدُّ وجه الشمس بأمنيةٍ يتيمةٍ لا يعرفها ملاك الضّوء.
.
غطِّي أحلامي بشرشف الخوف،
دثِّريني بلحاف الزّهد،
أريحي عنائي فوق وسادة الظّنون،
قلِّدي صنيع الفرسان المهزومين،
اعجني نقائصي في طحين العصيان،
عَلِّلي سبب الافتراء؛
ملايين الطّيور تحجُّ إلى بيت العقرب..
.
ليست ميتةً هذه القصيدة؛
إنّه الحبُّ يعبر شريان العالم،
إنّه الرّمز الخفيُّ في شِفرة الحلاج،
الرّمز المقدّس في ترّهات ليوناردو دافنشي.
.
لي حصّةٌ في انتباهة الثّعلب،
لي حصّةٌ في زهو السّاقيةْ،
لي ولعٌ بسرير اللّعنة،
لم يبق لي سوى عطب الشّهوة.
.
كسكّيرٍ ذاهل
ينجو الغرير بجهالة الحكماءْ،
الصّباحُ متورّمُ العينين،
الضّحى مكسور الرّأس،
لا ترتجي يومًا ميْتًا كفأرٍ ميت؛
احتكم لمخبأ الخُلد
تجوّلْ في صمت النّاي المجروح.
.
مطرٌ بلا أصابع يعبر فوق رؤوس الأشجار،
حصّتُنا من العطش لا تروي غيمةً
ولا تحفظ لنا حنطة الشّتاء.
اذهَبْ إلى التّلَّة المواربة للجبل،
اذهَبْ إلى آلام المسيح مفتوحة الطّرقات،
لا ترسل للقلعة نهارًا واضحًا،
أطعْ حكماءكَ
وانتظر (مسادا)* جديدة.
.
ليست ميتةً هذه القصيدة.
إنّه الزّمان المتورّم في معطف الدّركيّ؛
إنّه الحنين المؤجّل إلى جنّةٍ لم تُوصد أبوابها؛
إنّه النّوم المفرط من تناول عقاقير النّسيان،
الوهم جميلٌ لعذراء الخرابْ،
الوهم طائرٌ ملعون
يدفع الحزن إلى هاوية الجبل،
ادفعوا الحزن إلى هاوية الجبل،
يا ……..يا
يا هاويةَ الجبل!
.
لم يَعد للقصيدة حَمَلَةٌ لنعشها،
لم يعد للقبور ملائكةٌ عاطلون عن الموت.
اسكبوا حبر الأموات في دم السّفلة،
السّفلة الّذين يرفعون شعار الله ويقتلونه بلا سببٍ.
أيّها السّفلة المدجّجون بالخِسَّة،
استريحوا هنا تحت ظلال القصيدة؛
القصيدة الّتي لم تمت إلّا فوق سحنكم الهرمة
الرّاعفة بعنجهيّة الدّمار المزعوم؛
بسخرية القدر المنوط بمسيرة الخراب.
.
ملاكُ الموت ليس شبحًا يطلُّ من عالم الخرافة،
إنّه الزّائر الغريب
يسكب ماء المهزلة في كؤوس العتمة.
.
* مسادا أو مسعدة اسم جبلٍ غرب البحر الميّت، انتحر في قلعته الّتي بناها هيرودس أكثر من سبعين يهوديًّا بعد حصارهم من الجيش الرّوماني، وكان آخر المواقع الّتي استولت عليها الجيوش الرّومانيّة عام70 للميلاد. هذا حسب رواية يوسيفيوس المؤرّخ اليهوديّ.