بين الحياة والموت/ محمد تيسير
تذكر كيف أحبّ سعيد البحر وكيف ألف هديره كما يألف الجنين نبضات قلب أمه؛ يستجدون البحر أن يغدق عليهم كنوزه من حيّ وجماد وأن يصرف عنهم عذابه وأن يتلطف بهم كما لو أنّه إله
.
|محمد تيسير|
في الثلاثين من عمرها كانت حين ركب زوجها البحر في رحلته الأخيره. تذكر ريّا جيدًا تضاريس المكان والزمان؛ كان الشاطئ على غير عادته قد طغت أصدافه على حجارته والموج اعتلاه الزبد، وفي السماء تهدلت الشمس من قبتها ومن حولها أطراف العنان.
وهي تذكر كيف أحبّ سعيد البحر وكيف ألف هديره كما يألف الجنين نبضات قلب أمه؛ هناك على أطرافه كان يلقى زملاءه، ثمانية ممّن تقاسموا القارب والقدر، يغيبون ساعات في غياهب البحر يصارعون أمواجه في ملحمة أبديه، ملحمة الحياة والموت، فيها يستجدون البحر أن يغدق عليهم كنوزه من حيّ وجماد وأن يصرف عنهم عذابه وأن يتلطف بهم كما لو أنّه إله.
“لم يسمِّ الإغريق للبحر إلها، بوسيدون، عبثًا” يقول سعيد ثم يُتبع مازحا: “بوسيدون بوسيدون, آتنا من لدنك سمكا طيبا، سلطانا وسلمون”, ويغتبط لذلك الجميع وتتعالى قهقهاتهم فيهوج البحر ويموج.
هم كذلك حتى ترث الشمس مملكة السماء, يديرون الدفة يبتغون الشاطئ إلى أن يبلغوه, ثم يتساقطوا على حدوده بأنس ومرح محتفين بما غنموه. يأخذ كل منهم حقه من الغنيمه قبل أن ينصرف إلى زوجه تشاطره أسرارها ويشاطرها.
في تلك الليله سرت الرياح غربية، والسماء اكفهرت فما تركت للنجم من منفذ، ثم أخذ المطر بالهطول. قطع هزيم الرعد أنس السكون في الكوخ العتيق فانتفضت ريّا في وجل وألقت بناظريها نحو الباب الخشبيّ. “ما هذا؟” همست لنفسها وهي ترقب أطيافا تتكسر على الباب كما الدمى في مسرح العرائس, وفي جفلة الأيلة حسرت بصرها وأولته صوب القنديل المعلق, يكاد ينخلع كلما عتت به الريح.
بدأ الشك يساور ريّا, يذكيه تكسُّر الأطياف: “تُرى ما أنت فاعل يا سعيد؟ ربّي, الرّحمة الرّحمة”. يلتهب نفسها بالدعاء ويهيم فكرها بالمجهول. تمضي ريّا تعد الدقائق فالساعات, كلّما فركت ساعتها نبّهتها بانقضاء هنيهات معدودة كأنّ الزمن أصابه الوهن!
الآن منتصف الليل, أهداب ريّا الطويله تنسدل من على جفنين أثقلهما التعب وقد تكشفت شفتاها عن حليّ أبيض رُصّ بانتظام, أمّا وجنتاها فبدتا شاحبتين كوجه امرأة انجبت للتوّ. صبغ السكون ملامح وجهها بصبغة الموت, إلا من شيء بدا من خلال شق صغير حال بين الرمشين. كانت عيناها تتحركان كالبندول, كانت تحلم.
- عدت يا سعيد؟ انتظرتك دهرًا!
- انتظرتني دهرًا يا ريّا وما أحسبني تركتك إلا سويعات؟” يبتسم سعيد ويردف: “ما رأيت منافقا كالزمن, يطول للوجدان وإن قصر ويقصر وإن طال, لن تعلمي له ثبات. ثباته بثبات هواك وما ثبات هوى الإنسان إلا بموته.
- أخطأ كان أن انتظرتك؟ أكان الانتظار سرابا والزمن وهما؟
- كان الزمن ما أنت, فهو مرآة فكرك. إذا حسبتني غائبا طال الزمن وإن حضرت؛ وإذا حسبتني حاضرًا قصر وإن غبت.
- أأحسبك حاضرًا وإن غبت إذًا؟
- نعم, حريّ بي الحضور في وجدانك… الحضرة في حضرة الوجدان لا في حضرة المكان!
- المكان!… أيكون كالزمان؟ أيكون على ما أنا كائن؟
- هو كذلك, وليد وجدانك!
- أين أنت بحق المعبود؟
- الآن بين يديك, ألا ترين؟
- أخشى أن تكون أنت الآن طيفا في الوجدان تتلاشى إذا غفلت عنه.
- أنا كذلك, فلا تغفلي عني…
على أنين مفاصل بابها الواهن تستيقظ, ثم ترنو إليه تعالجه فتلفت نظرها أضواء تتسلل من بين شقوقه. تفتح الباب فإذ بزمرة من الرجال يطوفون الشاطئ بمصابيح ومشاعل. كانت مشاعلهم تلفظ دخانا أسودَ, يتطاير في الهواء فيبدو على وهج النار كملك الموت المتربّص. “ما بكم”؟ تهيب بهم ريّا وقد اقتربت من الشاطئ على عجالة. “القارب” همس أحدهم ولم يستطرد. أما هي فلم تنبس ببنت شفة ثم أحالت ناظرها إلى السماء فوجدت القمر بدرًا يصارع الغيم. عندئذ شعرت ريّا بتثاقل, زيغ بصرها ثم هوت.
عند عتبات البحر يتربص الموت. أمواجه المتهشمة على الصخور, أصدافه الخالية من كل حيّ والحجارة المثقوبه كلها توحي بذلك. منذ ذلك اليوم لم تبرح ريّا اليمّ تجالسه, ترقبه بعينين ناقمتين كما الشاة ترقب ذابحها قبل أن ينضب وريدها من دم. فكرت مرارًا بالرحيل لكنّ شيئا ما منعها من ذلك. عجبي, كيف يألف الأسير جدران زنزانته؟
في الرابعة والثلاثين من عمرها الآن. المكان ذات المكان, ذات الكوخ, ذات المصباح المعلّق وذات الأشباح المتكسره؛ أمّا الزمان فقد تعطل عند عتبات الذكريات.
“سعيد, لماذا تلازمني وقد فارقتني؟ كأنك لم تمت!”
يمتقع وجهها لوهلة وتفقد الشعور بذاتها ثم تردف:
“لم يمت؟! لا بل مات, مات, مات!”
سرعان ما يتراءى لها شريط حلم عتيق عتيد يمرّ في الوجدان كلمح البصر, ثم يسكن فكرها فتسكن نفسها وبين الفعليْن صوت عميق يناجيها:
“أينضب الماء إذ يحيي الزهور؟ لّا ومُحي النفس في القلوب!”
9 نوفمبر 2013
لا فض فوك دكتور.. رائع في مجازك ووصفك