إرهاب وإخراس فنّيّ! / مطانس فرح
يكفينا قيودًا سياسيّة وفكريّة ودينيّة؛ فمقصّ الرّقابة العسكريّة بات أرحم من رقابتنا الذّاتيّة (المجتمعيّة)، تلك الرّقابة الانتهازيّة، غير البنّاءة والهدّامة غالبًا، بل التّكفيريّة أحيانًا..!
>
|مطانس فرح|
لا شكّ في أنّ النّهضة الفنّيّة الثّقافيّة التّربويّة لدى أيّ مجتمع متحضّر، لا تُقاس بعدد الإصدارات والعروض والأعمال الفنّيّة؛ إنّما بنوعيّة ورسالة وقيمة وهدف هذا الفنّ. وكما هو معلوم، فالفنون جنون.. لكنّنا نجد ضمن هذه الفنون، ووسط هذا الجنون، عددًا لا يُستهان به من الأعمال الفنّيّة المُبتذلة، الآسنة، السّفيهة، والسّاقطة، قُبالة عدد آخر من الأعمال الرّاقية، الأبيّة، الرّصينة، الهادفة والمترفّعة؛ وهنا تقع على عاتق كلّ واحد منّا مسؤوليّة رفض هذا الفنّ أو قبوله، كلّ حسَب رؤيته ومعتقَده وسياسته، وتحليله (بالمعنييْن) لهذا الفنّ أو ذاك.
وبما أنّني اُؤمن بحرّيّة التّعبير المُطلقة عن الرّأي في أيّ مجال ومضمار كان، خصوصًا في ما يتعلّق بإبداء الرّأي حِيال هذا العمل الفنّيّ أو ذاك، طالما أنّ هذا الرّأي لا يقيّد حرّيتي ويحدّها؛ فمهما كان هذا الفنّ المقدَّم مُبتذلًا أو رديئًا أو ساقطًا أو حتّى مُحرّضًا (بالمعنى السّلبيّ) بنظر البعض، وبعيدًا كلّ البُعد عن المعنى الحقيقيّ للإبداع، لا يحقّ لي – كما لا يحقّ لغيري، بأيّ حال من الأحوال؛ وأْد هذا العمل والتّحريض عليه، لأنّه لا يروق لي من منطلق عَقَدِيّ (عقائديّ) أو مجتمعيّ أو سياسيّ أو جنسيّ أو دينيّ، فما لا يروق لي قد يروق لغيري ويلاقي استحسانه.
إنّ مسارحنا وساحاتنا الفنّيّة، وشاشاتنا الذّهبيّة والفضّيّة، ومواقعنا الإلكترونيّة المختلفة، تعجّ وتضجّ بألوف الأعمال، السّاقطة منها والرّاقية، على مختلف أشكالها وأنواعها وطروحها؛ فلا يمكننا تقييد المتلقّي في عصر العولمة، اليوم، وتكبيله، أو منعه من رؤية أيّ عمل فنّيّ، تكفيريّـًا كان أو تبشيريّـًا، سياسيّـًا أو اجتماعيّـًا؛ حيث يملك حرّيّة الاختيار المُطلق وجميع الوسائل لمشاهدة ما يشاء من هذه العروض الغثّة والسّمينة.
فلا يحقّ لأيّ مجموعة كانت أن تكفّر أو تمنع عرض أيّ عمل فنّيّ، لتفرض بذلك سيطرتها وأجندتها ورؤيتها السيّاسيّة والدّينيّة على فئة مجتمعيّة أخرى اختارت بشكل ذاتيّ وحرّ مشاهدة هذا العمل أو ذاك.. فكيف يمكن لتلك الفئة التّمييز بين الغثّ والسّمين وتحليل العمل الفنّيّ، بدون مشاهدته ومناقشة فحواه ورسالته، بمجرّد الاكتفاء بما قيل ويُقال عن هذا العمل، بناءً على وجهة نظر فلان أو علّان؟! فسياسة كمّ الأفواه والتّرهيب من الأعمال المحرّضة والمُسيئة والمُغرضة بنظر البعض، والعمل على وأْدها، تعمل بخلاف ذلك؛ إذ تشكّل دعايةً إعلانيّةً ورافعةً لهذا العمل.. فكلّ ممنوعٍ في مجتمعنا مرغوب بامتياز!
وعندما تتحوّل بعض الأعمال الفنّيّة إلى ممنوعات و”محرّمات”، سيدفع، حينها، حبّ الاستطلاع والحشريّة بأفراد هذا المجتمع إلى متابعة هذه “المحرّمات” ومشاهدتها عبر مواقع “الإنترنت” والـ”يوتيوب”، داخل غرف مُغلقة وفي الخفية، تمامًا كعدد كبير من الأمور الممنوعة والمحرّمة الّتي يمارسها أفراد مجتمعنا بشكل يوميّ، وفي الخفية، أيضًا!
يكفينا قيودًا سياسيّة وفكريّة ودينيّة؛ فمقصّ الرّقابة العسكريّة بات أرحم من رقابتنا الذّاتيّة (المجتمعيّة)، تلك الرّقابة الانتهازيّة، غير البنّاءة والهدّامة غالبًا، بل التّكفيريّة أحيانًا..! دعونا نشاهد ونتابع جميع الأعمال الفنّيّة، فنحن أكفاء، وعلى قدْرٍ من الوعي والمسؤوليّة، للتّمييز بين الغثّ والسّمين، ولمناقشة أيّ عمل فنّيّ بشكل حضاريّ وأخلاقيّ وثقافيّ وتربويّ، لهدف تحسين ما يمكن تحسينه أو اجتثاث ما يجب اجتثاثه.
فكيف لمجتمع “متحضّر” يستطيع نفر منه منع عرض فنّيّ، سينمائيّ أو مسرحيّ أو استعراضيّ، أن نأتمنه على أن يناقش ويقرّر أمورًا حياتيّة ومستقبليّة وعلميّة وتكنولوجيّة وسياسيّة هامّة، ويكون مسؤولًا عن أولادنا وأطفالنا؟! فمثل هذا المجتمع الّذي يخشى ويرهب مناقشة عمل فنّيّ – حتّى إنْ كان هذا العمل ساقطًا – يعيدنا بفكره إلى العصر الجاهليّ؛ إذ يُخرس ويئِد هذا العمل..!