مازن/ حمزة غنايم
وكلما برطع مازن، يُقرع طبل جيبي المقعور أكثر فأكثر، لكن لا بأس، أقولها وكلّي فتور، ففي كلّ صباح كنت أصبّح عليه بالخير وبالمزيد من الوعد بمزيد من الزاد
.
|حمزة غنايم|
وجهة نظر العصفور: حكمةُ ما قبل الموت بـ “حياة وجب عيشها”
مازن من أعظم من أطربني. صادني من داخل القفص في متجر العصافير وأقفاصها، صفنت فيه قليلاً جداً إلى أن اتُخِذَ القرار، فحين فاض بي كيل الطرب فضلتُ مبدأ الحبّ على مبدأ الحرية، وقلت في نفسي: “لم لا أصطحبه حتى غرفتي؟ لا يتعدّى كلّ المشوار 30 شيكلاً، كلّ هذا الكيان البديع وزنه بنظر ابن آدم 30 شيكلاً، ونعم التناسق مع غباء البشر”. فاصلتُ البائع على القفص، واضطرني ذلك لإخراج 40 شيكلاً أخرى. يا للإحراج، القفص أثمن ممّا فيه. أي أنّ فقص مازن أغلى من جماله وصوته ولحظات صمته وتكوينه في ذات الحملة.. أو القفص.
مازن مِن “أجمد” المغرّدين من الطيور… على الأقل من وجهة نظر صاحب العصفور- أنا. لم أملك أن أعطيه متعة اصطحاب عصفورة تواسيه في سجنه الجديد، حيث عبد الوهاب لا ينفك عن التأوّه من حوله… إلى أن قرّر بعد محاولة تأقلم فاشلة أن يحرمني من صوته في “أجمل إيقاع دخل لولبة اذني في الشهور الأخيرة”، وأقتبس ما يقال فيه الحكي مش زي الشوف: “زكزكزك زكزكزك”.
هكذا، وعلى غفلة من غبائي اللحظيّ، لم يتبقّ من حنجرته سوى بعض الغرائزيّات والكثير من النّواح.
مازن أصبح نوّاحاً كالشّمعة إبان ذوبان الرمق الأخير منها. ولأنه حظي بطِباع النشيط من المخلوقات، فإنه لا ينفكّ عن الحركة- وإن شذّت عن قاعدة الأحرار. وبالتالي توقّعتُ لجيبي أن يتقعّر أكثر صرفاً لفضلاته التي كنت أشتريها حَبًّا (مرة واحدة… منعاً لتزييف أرشيف الصراحة) فيلتقطها بمنقاره الـ “ما بين أحمر وبرتقالي”، ليبدأ بتأجيج عملية “البرطعة” (وهي حركة ما بعد الشبع الوافي اللا مبالغ فيه… كالبقرة في المزرعة ما بعد الهضم). وكلما برطع مازن، يُقرع طبل جيبي المقعور أكثر فأكثر، لكن لا بأس، أقولها وكلّي فتور، ففي كلّ صباح كنت أصبّح عليه بالخير وبالمزيد من الوعد بمزيد من الزاد. الوهم في أوجِه. وحين كنت أعود إلى البيت كان مازن لا شيء سوى “تطبيق عمليّ” للانتظار للوفاء بالوعد. فقط لا غير. فيبدأ هزّاته المعهودة في جوف القفص الحقير متنقلا ما بين نقطتين، الأولى حيث الغصن البلاستيكي السخيف، والأخيرة هي الهدف- علبة البذور التي لا تنفك تتناقص. بلكنة الذي يحبّ قدر ما استطاع، كنت أجدّد عهدي بوعدي لمازن بالمزيد من الزاد غداً قبل بعد غد. فجيبي كان قد استقال بعد أن طال اليوم، عن الطاعة العمياء لأوامر رغباتي المادية الشاملة لزاد مازن… وخرافات أخرى.
•
وكما ذوّتُّ فدوّنتُ، لم يبقَ من صوت مازن إلا النواح والردّ على عبد الوهاب إما بالإبهام أو الفزع. وهذا يتعلق طبعاً بمزاج عبد الوهاب الصعب المنتقل إلى إيقاعاته المتفاوتة. إلا أنّ إيقاع مازن السريّ-السحري الذي كان يسري بأحلامي صوبَ نَواحٍ أبعد من عالم الفنتازيا انقطع فجأة، ليُستبدل بالنُّواح. صُدَّت كل الأبواب خلف الهرمونيا المستحيلة… ولا مفتاح.
فأولا -هكذا قرر مازن- “لا زاد… لا غناء… لا طرب.”
وثانيًا -يبدو- “لا لعبد الوهاب. فيكفيني ما أنا عليه من فزع.”
مازن يكفر بعبد الوهاب على ما يبدو، هكذا استوحيت من ردود فعله المتمرّدة على الصوتِ الخارج من الكاسيت. ولترسيخ أرشيف الصراحة، خشية التصرّف الحرّ بالتاريخ، فإنّ عبد الوهاب ليس أيّ مطرب، لذلك كنت ألمح ما بين براثن عقابٍ وآخر، رضوخ مازن لخشوعه. مازن يخشع مرتيْن على ما يبدو، مرة لعجزه المفروغ منه، وأخرى كرمال صلعة عبد الوهاب اللمّاعة. أعتقد أنه وجد المعادلة التي تدمج في يومه بعض الوهابيات بأقلّ تكلفة عصبيّة ممكنة… إلى درجة يبدو وكأنه متيّمٌ ببعض النغمات الوهابية. علاقة غريبة تتطوّر تدريجيًّا ما بين مطرب الماضي المُقرَّب على القلب ومطرب الحاضر المضرب عن الطرب.
لكن مازن مُصرٌّ على معاقبتي أنا ووعودي المُملّة، إذ ما يزال عدم وجود ذلك الإيقاع الذي اشتراني فيه في المتجر فاشتريته على إثره… حاضِرًا.
•
اِكتمل العقاب.
ففي الصباح، ككُلّ صباح، استيقظتُ فأعددتُ بعض الزنجبيل المُزيّف كوعودي علّني صحوت بطريقة أرقى من سيجارة “حاف”، وإذ بي أسترق السمع لصمتٍ مُدوٍّ. حتى النّواح راح؟! (ردّدتُ بعبثيّة داخليّة). لقد انتابني إحساس غبيّ بفقدان السيطرة المتوقّع فسألت عارجًا بكلّ ما أملك من نظر صوب القفص:
“أينك يا مازن؟”
أيعقل أنه فكّ إنيجما القفص فهرب مني تاركاً إيّاي لصيق الطيز بالطيز مع لا مسؤوليتي؟ حبي لك في مهب الريح يا بن السماء؟
لكن لا… وجدران القفص تشهد بأنّ لا خرق لقوانين الطبيعة.
لكن مازن لا يرى… وهذا كافٍ لأصدّق أن ثمة خرقًا لقوانين الطبيعة.
وللتأكّد من عدم وجود جنّ في حوض الغرفة أو لاكتشاف خرق مازن لقوانين الفيزياء اعتليت كرسيًّا محاذيًا للقفص المعلق في مركز الغرفة، وإذ بمازن هائم على وجهه في قاع القفص.
لقد أشهر مازن رايته الأخيرة وودّعني بلا سلام ولا حتى آخر تغريدة.
أيّما عقاب!
وأيّما حساب ينتظرني أمام ضميري المهريّ من عدم مسؤوليتي تجاه هذا الكائن الجميل ذي المنقار الـ “ما بين الأحمر والبرتقالي”.
القفص سليم إذاً…
ومازن ودّع دونما إذن…
ملاحظة: لم أدفن مازن. أبقيته على هيئته الأخيرة: فـ “الطيور على أشكالها تقع” قلت متهكّمًا مني، وفارقتُ الغرفة… ذلك لأنّي كنت على عجلة من أمري، وشخصية كشخصية مازن، لا تودَّع على عجل.
وداعاً مازن…
ملاحظة أخيرة: العصفور القادم، بإذن المولى، سوف يُدعى “سلطان” نظراً للدّلع المتوقّع ندماً على ما وقع.