في الردّ على العروضيين: نحو انتقال الشعر من المباني إلى المعاني!/ مرزوق الحلبي
عندما بدأ المحدثون بكسر المبنى من صدر وعجز والبناء على أساس التفعيلة وحدها ثارت الدنيا ضدهم وعنّفتهم على فعلتهم الشنيعة لكنهم واصلوا تحويل العروض بمبناه القديم إلى تفعيلات يقسمونها من جديد وفق أغراض القصيدة وتوتراتها.
| مرزوق الحلبي |
عقّب البعض ممن تهمهم الحالة الشعرية على ما كتبته هنا من أسبوع تحت “إلى الجحيم أنتم وعَروضكم” ـ حول ظاهرة العودة إلى العروض في الشعر الراهن. فعلوا ذلك على صفحتي في الفيسبوك وعلى موقع الرسائل الخاصة ومحادثات هاتفية ووجاهية. وقد أصغيت لمحادثاتهم وملاحظاتهم المكتوبة محاولا تبيّن مواضع الاختلاف في وجهات النظر. وقد استفدت من الملاحظات لجهة الحاجة إلى التدقيق فيما ذهبت إليه وفيما ردّوا به. وقد لاحظت أن غالبيتهم امتنع عن مناقشة ادعاءاتي تفصيليا ولا الظاهرة في تاريخيتها، بل حرص على تكرار موقفه المبدئي. ولأنني معني بحوار لا بسجال عقيم أعود إلى الموضوع مضيفا الملاحظات التالية.
ـ العروض ظاهرة شعرية وهي ليست كل الشعر ولا تختزله. وهناك مَن استخدم العروض وأبدع ضمن مبانيه من قبل ومن بعد. وهناك مَن اعتاد عليه واعتمده مينى نهائيا لنصوصه ـ صدر وعجز حتى قيام الساعة. مهما يكن فالشعر المبدع غير محرر من رؤية تحولات الظاهرة الأدبية، وهنا الشعرية، في جدليتها وتاريخيتها وإلا حصل الجمود والتقادم ـ وهو الأمر الذي قد يحصل في الفكر والسياسة والمسرح والغناء والثقافة عموما.
ـ تطوّر العروض من حقيقة تاريخية شعرية وهي أنه كان لازما في زمن كانت الغالبية العظمى من الناس فيه لا تعرف القراءة ولا الكتابة فكان الشعر فيه يُلقى على مسامع الناس ويندرج ضمن الأدب المنقول شفهيا. هكذا كانت ثقافة الناس غير مكتوبة على الغالب بل منقولة على الشفاه عبر القوافل وعبر الواحات والخيام واللقاءات التجارية أو غيرها. وكانت له وظائف اجتماعية سياسية خطابية. وقد أبقى البعض في أيامنا على هذه الوظائف خاصة مع تطور ثقافة الصورة وتحول التلفزيون والشاشات إلى منابر يطلّون منها على الناس كمأ أطلّ الشعراء في حينه على الناس في الأسواق أو من تحت خيمة القبيلة. وهو ما جعل الشعر أحيانا فنا من فنون المسرح وليس نصا في كتاب. وشعر العروض مناسب أكثر في مثل هذه الحالات لضرورة الإلقاء وتوظيف الإيقاع.
ـ عندما بدأ المحدثون بكسر المبنى من صدر وعجز والبناء على أساس التفعيلة وحدها ثارت الدنيا ضدهم وعنّفتهم على فعلتهم الشنيعة لكنهم واصلوا تحويل العروض بمبناه القديم إلى تفعيلات يقسمونها من جديد وفق أغراض القصيدة وتوتراتها. بمعنى، أن التفعيلة ليست عروضا بقدر ما هي زمنيا وعمليا كسر لهذا العروض بشكله الصارم وجعله مرِنا مطواعا. وهذا عكس ما ادعاه البعض من أن قصيدة التفعيلة هي عروض. إنها بامتياز خروج رقيق على صرامة العروض بصيغته المتقادمة.
ـ عندما تبعهم محدثون جدد وتنازلوا عن التفعيلة كليا أو جزئيا سعيا وراء الشعر وأخذا بالاعتبار حقيقة اتساع العارفين باللغة قراءة وكتابة وانتشار الطباعة ـ ثارت ثائرة سدّنة القديم ضدهم واتّهمتهم بالزندقة الشعرية الأمر الذي لم يمنع ولادة قصيدة النثر وتطوّرها ومُبدعيها. هذا بينما أصرّ البعض على حالة بينية بين العروض وبين العزوف عنه من خلال الحرص على مواصلة الكتابة الشعرية في مساحة قصيدة التفعيلة.
ـ عندما أخرج ضد العروض أعتبره بُنية متقادمة تحدّ الشاعرية وينزع إلى ظاهرة الشعر المنبري ذي الوظيفة المحدودة. وهي وظيفة اجتماعية ـ سياسية تنتقص في كثير من الأحيان من الوظيفة الفنية والجمالية للشعر. ومن هنا ملاحظة النقاد التي تستند إلى التجارب القائلة بأن الشعر المنبري إنما تحضر فيه مكونات الخطابة وتقلّ فيه مكونات أخرى. لكن حملتي بالأساس هي ضد مبتذلي الشعر من خلال المبنى العَروضي التقليدي وإصرارهم على أن العروض هو الشعر ـ علما بان قسما منهم يكسر ويلحن ويحشو ويغتصب المفردات والمعاني والشعر ولا يقول شيئا سوى “ها أنا أُجيد العروض فخذوني شاعرا إليكم”! بالنسبة لي هي مرحلة الشعرية الطفولية عشتها شخصيا مع زملائي طيلة المرحلة الثانوية نحاول أن ندخل الشعر من باب العروض، على اعتبار أن لا وجود للأوّل إلا بوجود الثاني لأكتشف سريعا أن العلاقة بين الشعر وبين العَروض غير ضرورية وأن العروض قد يكون شرطا لكنه ليس الأهم ولا هو كاف لوجود الشعر.
ـ أخرج ضد العروض لأن هناك مَن جعله قدس أقداس الشعر فحضرت الرتابة وغاب الشعر ـ فما رأيكم مثلا في بيت: “ضفدعة مرّت عليها فارة/ يوما، وقالت مرحبا يا جارة”! أو “عجبٌ عجبٌ عجبٌ عجبُ/ قِططٌ سود ولها ذنبُ”! أو “رأيت أمس نحلة/صفراء مثل الذهب” ـ هذا عروض بامتياز لكنه أبعد ما يكون عن الشعر!
ـ الإغراق في التزام العروض يُفضي بالضرورة إلى ظاهرة النظم. وهي تنضيد المفردات وفق وزن وقافية وطوابير دون أن يكون فيها معنى أو معنى يُذكر.
ـ العودة إلى العروض كحركة ونشاط هو نكوص عما تحقق في الحركة الشعرية، العربية والعالمية مع انتشار الطباعة والكتاب وانتقال محور الشعر من المباني إلى المعاني، ومن البثّ على موجة السمع إلى البث على موجة البصر. وهي توازي ـ من حيث شاء العائدون إلى العروض أو لا ـ حركة النكوص الفكري في الثقافة العربية وعودة موهومة إلى الجذور الأصلية. ومن هنا كون الظاهرة مصحوبة بمعاداة كل جديد ومتجدّد وتفضيل الاتبّاع على الإبداع. هذا فيما الإبداع عموما في أي ثقافة عربية كانت أو غير عربية لم يحصل إلى نتيجة كسر مبانٍ سابقة متقادمة وتوليد مبانٍ جديدة والأهم، تجاوز المألوف من معانٍ نحو معانٍ جديدة ولغة جديدة ومساحات جديدة. وما ينطبق على المعرفة الإنسانية ينطبق على الظواهر الأدبية لا سيما الشعر. لم يكن للشعر أن يتطوّر لو بقي ضمن الإطار العروضي الموروث. ولم يكن للشعر أن يرقى لولا الانتقال من بُنيته الصارمة إلى قصيدة التفعيلة التي مرّت هي أيضا بمراحل وتحولات. أما تقديس هذا الموروث واعتباره ركيزة الشعر فهو بالنسبة للعارف كتكريس لنص تقادم واهترأ واعتباره ركيزة للحقيقة أو مُنتهاها. فإذا قُلنا إلى الجحيم أنتم وعروضكم فقد قُلناها مجازًا وقصدنا بها تحديدا هذا الشكل المُطلق من التعامل مع العروض وشعر العروض.