في “القِيمة” التي تدلّ على غيابها!/ مرزوق الحلبي
إن قياس حال مجتمعنا بمعيار عدد حفلات التكريم التي يُنتجها من المفروض أن يُفضي بنا إلى نتيجة واحدة وهي أننا مجتمع تجاوز مرحلة تحقيق الرفاه وجودة الحياة نحو مرحلة التفوّق! لكن عندما نقيس كل هذه “الثقافة” من تكريم وجوائز ومسارات لإنتاج قيمة مفقودة من خلال حال مجتمعنا لاكتشفنا مدى البؤس والهشاشة و”الرُخص” ـ عكس القيمة ـ التي يتّسم بها مجتمعنا.
| مرزوق الحلبي |
يقول ماركس في إحدى تجلياته أن تسليع كل تفاصيل الحياة والعلاقات وإخضاعها للبيع والشراء سيُفضي حتما إلى تسطيح الكون من حولنا. بمعنى أنه لن يظلّ هناك أي فارق في القيمة بين الأشياء وبين الظواهر لأن بمقدور المال أن يسوي الأشياء ببعضها. وأمكننا أن نخطو خطوة أبعد منه بالجزم أن التسليع إذا تطوّر يُمكن أن يقلب الموازين تماما فتصبح القيمة الأعلى من حصة عديم القيمة بينما تهبط قيمة الأشياء الثمينة حدّ الغياب. وهو ما قد يسري على السلع والأغراض المحسوسة الملموسة وقد تسري على القِيَم والرموز، أيضا. نسوق هذا في معرض تناولنا لما نسمّيه “حُمّى الجوائز” التي شهدنا قبل أسبوع إحدى تجلياتها في احتفال اختيار شخصية السنة وتسابق المتوجين شخصيات السنة إلى التباهي بما “كسبوه” أو “غنموه” من “قيمة”. قد يعكس الأمر هذا، بحسب أبسط نظريات علم النفس، ذاك التعطّش الطبيعي إلى تقدير أو اهتمام أو اعتراف. لكن عندما نعرف هوية مانح “القِيمة” و”القيمة الحقيقية” للحاصلين عليها، سيصيبنا الغم والهم ونكتشف أن هذا التطويب “شخصية السنة” ـ لا يُساوي قشرة بصل ـ كما نقول بالمحكي!
لكننا لسنا بصدد هذا “المسار” السنوي فقط من إنتاج قيمة من العدم لمجرّد أن تدفع 1500 شيكل أو ضعفها لمانح اللقب فلا يبخل عليك لا بلقب ولا بعشاء ولا بصورة مع شخصيات بينها وبين الأشياء النبيلة أو بينها وبين “القَيمة” مسافة تُقاس بالسنوات الضوئية. فهناك مسارات مشابهة يجدّ الجادون في الانخراط فيها طمعا في “قيمة” ما. ومنها السباق المعروفة نهايته مسبقا المسمّى جائزة الإبداع التي تمنحها وزارة الثقافة. نقول السباق المعروف نتائجه مسبقا لأن الجائزة صارت تُعطى محاصصة لممثلي الطوائف ـ لا الإبداع ـ وعادة ما ترشح أسماء الفائزين بها قبل تطويبهم “مُبدعين”. وفي السياق نفسه يفاجئنا أخوان وأخوات لنا عبر صفحاتهم في الفيسبوك وعبر إلميديا الاجتماعية أنهم إنما فائزون بجائز “د. عبدالله الخرّاط” مثلا للإبداع. أو أنهم فازوا بجائزة أدبية من جهة أجنبية وقّعها صاحب لقب كبير أو أن جامعة ما في بلد شقيق منحتهم درجة أكاديمية أو لقبا تقديرا على إبداع ما لا نعرفه عنهم. ولن أتفاجأ أن يعلن أحدهم أنه فاز بجائزة نوبل للأدب ونحن في غفلة عنه! وليس هذا فحسب بل هناك ظاهرة التكريم التي تفشّت في كل الشِلَل والجماعات. تكريم على مدّ النظر وشخصيات تنتظر دورها أو تحرّك “بكّاياتها” لانتزاع قرار بالتكريم هنا أو هناك. بل هناك مؤسسات تفرض التكريم على هذا أو ذاك بمسوّغات مبتذلة أو كاذبة. فكأنها تكرِّم حتى تحظي هي أو الواقف على رأسها، أيضا بـ”طرطوشة” تكريم. (استدراك: هناك أشخاص من مختلف المجالات يستحقون التقدير أو الاعتراف بصنيعهم لكنهم يُكرّمون أحيانا من مؤسسة كرّمت قبلهم شخصية فاشلة وستكرّم بعدهم “مُبدعة” تافهة فيذهب تكريمهم سُدى).
كلّها محاولات جارية بتسارع لانتزاع “القيمة” الرمزية أو الاجتماعية أو الأدبية. واللافت أنها تحصل على الغالب لأشخاص أو شخصيات عديمي القيمة في كل هذه المجالات (مع استثناء هنا وهناك يضيع بريقه في معمعان التكريم المبتذل والمرائي). وقد تصل حمّى تحصيل القيمة المفقودة حدّ طلبها افتراضيا. بدلالة أن أكثر من شخص خبّرني أنه حصل على جائزة كذا وكذا للشعر. وبحثت في كل مكان فلم أعثر لها على أصل أو فصل سوى في صفحة الذي خبّرني! بمعنى أنه من شدّة السعي وراء “قيمة” ما فإن الشخص المعني قد يصل حدّ اختلاق أو إبداع جائزة إبداع ذاتية يمنحها لنفسه فيشعر بقيمته التي لا يشعر بها عادة لدى النظر إلى نفسه في المرآة! بل تطوّر التواصل الحميمي عبر الميديا الجديدة إلى خلق روابط لا تتسع الشبكة لأسمائها اعتادت هي أن تمنح أعضاءها من الناس خاصة ألقابا وتسميات وجوائز وترقيات تذكّرني بتلك التي كطنا نحصل عليها ونحن نلعب “لُعبة الجيش” في الحارة قبل وصول المخيمات الصيفية إلى حارتنا. يومها كان واحدنا يبدأ نهاره برتبة نفر ويُنهيه برتبة جنرال أو عميد في أقلّ تقدير!
إن قياس حال مجتمعنا بمعيار عدد حفلات التكريم التي يُنتجها من المفروض أن يُفضي بنا إلى نتيجة واحدة وهي أننا مجتمع تجاوز مرحلة تحقيق الرفاه وجودة الحياة نحو مرحلة التفوّق! لكن عندما نقيس كل هذه “الثقافة” من تكريم وجوائز ومسارات لإنتاج قيمة مفقودة من خلال حال مجتمعنا لاكتشفنا مدى البؤس والهشاشة و”الرُخص” ـ عكس القيمة ـ التي يتّسم بها مجتمعنا. قد تُعطينا تنظيرات ماركس وغيره من مذهبه حول القيمة وإنتاج القيمة تفسيرا لهذه الظاهرة. لكن في التنظيرات المتصلة بالمجتمعات المقهورة أو المجموعات المُستضعفة تفسيرا إضافيا. فمثل هذه المجتمعات والمجموعات تعيش حالا من الشعور بالدونية وفُقدان المعنى مقابل القاهر أو الأقوى. وهي تحاول أن تستعيد توازنها الوجودي بالسعي إلى إنتاج قيمة ذاتية موهومة غير حقيقية كما في حالتنا هذه. وقد تبدأها بألقاب تضخّم الملقّب ونعوت تفخّم المنعوت وتنهيها بشهادات تقدير مدفوعة الثمن أو بشهادات فيسبوكية أو بجوائز خاوية من كل إبداع أو بابتداع جوائز مفصّلة على مقاس مُبدعها مصكوكة باسمه! في هذه وتلك إنها “القيمة” التي تدلّ على غيابها!