هشام الجخ في فلسطين: عندما تصير الثقافة مجرّد منزلقات لفظية!/ مرزوق الحلبي
جولة الجخ، كما أمسية محمود درويش في حينه وزيارة الفنان لطفي بُشناق وزيارة محمّد عسّاف، ليس لها أيّ علاقة بأيّ تطبيع لأنها جاءت لهدف يناهض سياسات إسرائيل واحتلالها، وهي الأهداف ذاتها لحملة المقاطعة
.
|مرزوق الحلبي|
كي نفهم مسألة التطبيع علينا أن نفهم المقاطعة كاستراتيجية سياسية للتأثير ـ وهنا على إسرائيل. المقاطعة في السياق الفلسطيني أتت على خلفية تعثّر المفاوضات وازدياد الحاجة إلى استراتيجيات نضالية للضغط على إسرائيل لجهة إنهاء الاحتلال ووقف مشروع الاستيطان وإحقاق مطالب الشعب الفلسطيني بالاستقلال. وأساس تفعيلها اتجه إلى إقناع المحافل الدولية بمقاطعة الاحتلال ومنتوجات المستوطنات ومؤسسات رسمية ومالية وأكاديمية إسرائيلية تدعم الاحتلال والاستيطان. واتسعت الحملة لتدعو إلى مقاطعة إسرائيل الدولة والمؤسسات أو أي نشاط تدعو إليه خاصة تلك الثقافية حتى لو كان المنظمون مدنيون أو من القطاع الخاص. وأعتقد بناء على دراستي أن حملات المقاطعة بدأت تؤثّر سيما أن المقاطعين لإسرائيل في كل الحقول مجتمعة في اتساع. وهي تجربة تحاول محاكاة تجربة المقاطعة لنظام الميز العنصري في جنوب أفريقيا والاستفادة من دروسها.
بمعنى، أن فعل المقاطعة يرتبط بهدف أو أهداف محددة ولا تأتي لغرض المقاطعة أو الرياضة السياسية. لكن يحدث أن يركّب البعض على الهدف الأساس أهدافا غير معلنة أو لا تتفق مع الهدف الأساس. وهنا نقطة البيكار. ففكرة المقاطعة الفلسطينية التي كبرت منذ انطلاقها تقصد اضطرار إسرائيل إلى تغيير سياساتها لا سيما عدوانها الدائم متعدد الأشكال على الشعب الفلسطيني. ومن الفلسطينيين في إسرائيل مَن يُريد أن يركّب على الفكرة أهدافا تتصل بوضع الفلسطينيين داخل إسرائيل ـ وهذا شرعي. وهو ما تستدعيه السياسات الإسرائيلية تجاه المواطنين العرب الفلسطينيين لا سيما في النقب حيث يتم اقتلاع وتشريد قرى بكاملها. لكن يظلّ هدف الحملة الفلسطينية والدولية لمقاطعة إسرائيل هو إنهاء الاحتلال بالأساس.
مِن هنا فإن السؤال الذي ينبغي أن يُسأل حيال كل حدث على هذه المساحة من الشرط السياسي ـ ما مدى ارتباط الحدث بأهداف حملة المقاطعة ونقطة ميزانها؟ وحتى نوضح سأطرح بعض الأسئلة الجدلية ـ لو أن أدونيس الشاعر مثلا وصل إلى إسرائيل في إطار زيارة خاصة لصديق يهودي ـ هل سنعتبر ذلك تطبيعا؟ لو أن أحلام مستغانمي وصلت إلى حيفا كداعمة وراعية لأمسية تنظمها جمعية نسوية مهتمة بتمويل إصدارات لمُبدعات محليّات ـ هل ستكون خطوتها تطبيعا؟ لو حضر نوعم حومسكي مثلا إلى البلاد لتقديم سلسلة محاضرات تنظمها مجموعة “يش جبول” مناهضة للاحتلال ـ هل سيكون مُطبعا مع إسرائيل؟ وإذا حضر فوج من ألف متطوعة ومطوع من إسبانيا لنُصرة مخيّم طولكرم طيلة الصيف مرورا عبر مطار بن غوريون ـ هل سيكونون من المطبّعين؟ ونتابع هذه الأسئلة لنجعلها حقيقية ـ هل زيارة الشاعر المصري هشام الجخ إلى الضفة والجليل تندرج في إطار الفعل التطبيعي؟ وهل مِن داعٍ لحملة ضد زيارته أو لبيان يُصدره حزب ممثل في الكنيست والحركة الإسلامية في الناصرة يحثّانه على التراجع عن زيارته “التطبيعية”؟ (وكان سبق هذه الحملة حملة أخرى قبل أكثر مِن شهر ضد استقدام فرقة أردنية إلى الجليل عدلت في نهاية الأمر عن جولتها هنا خشية أن تُتهم بالتطبيع). أين يبدأ التطبيع وأين ينتهي؟ وما هو الفارق بين فعل تطبيعي أو قد يُفسّر كذلك وبين فعل غير تطبيعي؟
الشاعر الجخ ـ حسب ما نعلمه ـ لن يأتي إلى تل أبيب ولن يُشارك في مهرجان الشعر في المطلّة ولن يلتقي طلاب قسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة العبرية بل سيأتي إلى الضفة الغربية ـ جزء أصيل من فلسطين التاريخية ـ وإلى الجليل ـ جزء لا يقلّ أصالة. وسيزور الفلسطينيين الذين هنا ووفق برنامج فلسطيني ولأغراض فلسطينية. ومن هنا، فإن زيارته لا تشكّل في أي جزئية منها تطبيعا أو ما يقاربه لأنها زيارة لنا نحن لا لـ”الكيان الصهيوني” ولا للاحتلال. أما مروره في نقطة عبور إسرائيلية (النقطة نفسها التي نمرّ منها نحن خروجا إلى العالم العربي أحيانا أو العالم عامة، سنعود إلى ذلك لاحقا)، فهي أمر تقني ـ رمزي يصير جزئية غير ذات أهمية البتّة طالما أن الغرض من الزيارة هي التواصل مع أجزاء من الشعب الفلسطيني على أرضها وضمن حراكها الثقافي الإبداعي ـ اتفقنا مع مستواه أو لم نتفق. وكذلك الأمر في حال زار أدونيس صديقه اليهودي أو زارت أحلام مستغانمي حيفا. لكن يبدو أن المشكلة ليس في الزيارة ولا في ظروفها بل في موقف هذا الشاعر الشاب المؤيّد لنظام الرئيس السيسي! يُضاف إليه، أن هناك نقدا على السلطة الفلسطينية وأدائها وهي الجهة الداعية بالتنسيق مع جهات في مصر، يبدو أنها هي كذلك لا تحظى برضا سدّنة المقاطعة ومناهضي التطبيع. وهذا ما يُذكرني بالحملة ضد زيارة الراحل محمود درويش إلى حيفا ـ يومها، أيضا، وبسبب من خلاف سياسي لجهات محددة مع درويش ومع المنظمين لأمسيته تم التشهير به وبزيارته وأمسيته وبالمنظمين وإذ بالقاعة تغصّ وتفيض بشعب درويش وأهله. بمعنى، أن حسابات سياسية بائسة هي التي كانت وراء الهجوم مثلما هي اليوم ضد الجخ. أي إن خطاب المقاطعة ومناهضة التطبيع يقوم في حالات حصلت وتحصل الآن على موقف سياسي جِهوي مُعارض لهذا الحدث أو لهذا الوافد وليس من حرص على المقاطعة ولا من موقف ثابت من التطبيع ولا من فهم عملي للمصطلحين المتلازمين. وهذا صحيح إذا أشرنا إلى مجيء الفنان المقتدر لطفي بشناق وتلاه محمد عساف دون أن نسمع ولو كلمة أو نصف كلمة عن “تطبيع” و”مقاطعة”. وكان من الخطأ أن نسمع!
إن جولة الجخ ـ كما أمسية محمود درويش في حينه وكما زيارة الفنان لطفي بُشناق قبل ثلاثة أشهر وكما زيارة محمّد عسّاف ـ ليس لها أي علاقة بأي تطبيع لأنها جاءت: أولا ـ لهدف يناهض سياسات إسرائيل واحتلالها، وهي الأهداف ذاتها لحملة المقاطعة. ثانيا ـ جاءت إلى جمهور هدف فلسطيني قد نتفق معه أو مع مواقفه أو نختلف، لكنه فلسطيني خالص. ثالثا ـ جاءت إلى فلسطين مكانا وإن كانت تخضع في جزء منها لسيادة دولة إسرائيل وفي جزء آخر لاحتلالها.
إن تأشيرة الدخول الإسرائيلية على المعبر ـ إذا حصلت فعلا ـ هي نقطة التماس الوحيدة للجخ مع إسرائيل الدولة الرسمية. وهي نقطة التماس بين آلاف المتضامنين المتطوعين الدوليين الذين وصلوا أو سيصلون إلى الضفة الغربية وغزة، دخلوا من مطار بن غوريون أو من المعابر في غور الأردن. وهي جزئية غير ذات أهمية البتّة. لكن هناك مَن يُريد أن يفهم الأمور بحرفيتها كما يفهم بعض أخوتنا في الأقطار العربية جواز السفر الإسرائيلي الذي بحوزتنا على أنه نوع من التطبيع فلا يقربون منا أو أنهم يتشاطرون علينا ويتطهرون وطنيا على حسابنا. ومنهم مَن اعتبر عزمي بشارة مطبّعا ومِنهم مَن اعتبر ويعتبر كل الفلسطينيين في إسرائيل مجموعة من الخوَن! وليعذرني هؤلاء كلهم ـ أنها وطنية طفولية ومزايدة ليس إلا، تخلط بين جواز السفر وبين الهوية، بين الشرط السياسي المرفوض والمفروض علينا وبيننا، بين الهوية القومية وبين المواطنة! وفق هذا المنطق، ومن فرط مناهضة التطبيع، صار العربي الوافد إلى فلسطين وأهل فلسطين لأهداف فلسطينية مُطبّعا، وصار الفلسطيني من داخل إسرائيل الخارج إلى قُطر عربي، فضاؤه الثقافي والتاريخي، مُطبعا! أو بلُغة شاعرية ـ صار الوافد إلى ذاته مطبّعا والخارج إلى ثقافته هو مطبّعا!
وسأذهب خطوة أخرى من التخوم الفلسطينية لهذه المسألة. وسأفترض جملة أسئلة تتصل بالاشتباك ـ بمعناها الطيّب ـ بالمجتمع اليهودي. فهل مشاركة مثقفة فلسطينية في مؤتمر أكاديمي في الجامعة التي تدرّس فيها هو فعل تطبيع؟ وهل وصول طبيبة عربية إلى منصب مديرة مستشفى في تل أبيب تطبيع؟ وهل فوز شركة عربية بعطاء لبناء ألف وحدة سكن في كرمئيل تطبيع؟ وهل استعمالنا العبرية في جزء واسع من يومنا هو فعل تطبيعي؟ وهل ترجمة الأدب الفلسطيني الراهن للعبرية، فعل تطبيعي؟ وهل الانتخاب للكنيست والتمثّل فيها عملية تطبيعية؟ أسئلة ليست بريئة وإن كانت تمثّل واقعا يوميا نعيشه وأفعالا نقوم بها كجزء من المألوف وتتصل بنقاط التماس المكثّفة بيننا وبين المجتمع اليهودي كحقول نشاط وكبشر ومؤسسات ودولة. سأفترض أن ليس لهذه الأسئلة إجابة واحدة صحيحة بل للفرد أن يُجيب عليها بما يشاء. لكنها تؤكّد أننا في حالات كثيرة لسنا مُقاطعين لكننا لسنا مُطبّعين ولا متواطئين وإنما أناس يتعاملون بشكل عملي مع شرطهم السياسي ومع واقعهم الذي لم يختاروه بإرادتهم. هذا، علما بأن منّا مّن يمتنعون عن هذا وذاك من أفعال أو أعمال يعتقدونها تجاوزا لخطوط حمراء وضعوها لأنفسهم. لا غضاضة في هذا بل من المفضّل أن يكون للإنسان خطوطه وضوابطه!
أعتقد أنه صار لزاما علينا أن نتبيّن تفاصيل المعادلة بوجهييها ـ المقاطعة والتطبيع ـ بوصفها منظومة فكرية وأخلاقية وسياسية آخذة بالتشكّل في ثقافتنا. وذلك كجزء من الحاجة إلى تنقية المناخات التي ننشط فيها من مظاهر العطب المتمثّلة في مزايدة ووطنجية اقتربت بنا كثيرا من تحويل المقاطعة من استراتيجية سياسية إلى موضوع للتندّر أو إلى حقل لفتاوي لا تختلف عن فتاوي المتدينين الأصوليين في شأن من الشؤون. وكان بعضنا حوّل الهوية القومية، من فرط توكيدها، إلى نوع من “الخلطات” السحرية النافعة لكل شيء بما فيها طرد الكوابيس ومنع تساقط الشعر والعنّة! إنها المغالاة مرة أخرى التي تجعل من السياسة حقلا منفّرا ومن الثقافة مجرّد مُنزلقات لفظية ومن الوقت حيزا ضيّقا للعيش والحديث.
(دالية الكرمل ـ شباط 2015)
13 فبراير 2015
التعليق اتمنى يوما ان اسمع ان احد ابطال التطبيع اعلن مقاطعته لموؤسسة التامين الوطني الاسرائيله ,فكل مواطن في اسرائيل من ساعة ولادته يتقاضى مستحقات الولاده من موؤسسة التامين الوطني الاسرئيليه مرورا بمستحقات الاولاد وفيما بعد مستحقات التقاعد وصولا الى ساعة الوفاة ,عندها تؤخذ مستحقات الدفن ايضا من موؤسسة التامين الوطني الاسرائيليه ,فان كان فعلا بطل تطبيع فليقاطع التامين الوطني مثلا