قصة قصيرة: التكريم/ ماجد عاطف
ثم اصطفّوا لأخذ صورة تذكاريّة. في تلك اللحظة أو لعلّني أعيد تصوّرها، حانت مني التفاتة إلى الشباك الغربيّ، المُطلّ على المستوطنة
>
|ماجد عاطف|
سأخبركم كيف أراكم، أنا الذي بلوتكم في محطات كثيرة. حاولت كتابة القصة من قبل بعنوان “التكريم” لكني لم أنجح. شيء ما كان يعيقني ولعلّه سيعيقني مجدّداً. لا أستطيع أن أكتب من دون فكرة هي نفسها بنية القصّة. أحيانًا تضغط عليّ المشاعر وأكتشف دلالاتها أثناء الكتابة فأترجمها لأفكار ومشاهد وشخوص. لكن في الغالب هذه هي طريقتي في الكتابة: الفكرة وبنية القصة أو -إن شئتم- حبكتها، معًا.
لكن هذا ليس نصًّا بالضبط.
الفكرة أتت من مشهد رأيته في تكريم “مثقّف” ومناضل هو الدكتور (ع). أعرفه منذ نهاية الانتفاضة الأولى وتابعت الكثير من كتاباته ولعلّني نشرت في مجلته شيئًا. لا أحبّ أبحاثة التي تنتمي لديناصورات الاقتصاد السياسيّ والماركسيّين أو المتقومجين. لغته تبلغ من الرداءة أنّها عاجزة عن التكثيف أو التوصيف الدقيق ناهيك عن الأخطاء. وأنتم تعرفون أنّ اللغة ليست مجرد أداة وظيفيّة، بل هي أيضًا طريقة تفكير وشخصيّة ومحتوى.. الخ.
غير أنه كان متراسًا في زمن التراجعات والاستدخال والتطبيع. وعلى عيوبه فله وقفات نادرةلم يقفها إلّا القلائل مثله من بينهم جماعة “بيان العشرين”، الذين قُمعوا كلهم. أهمله حزبه منذ عقود، ويقول إنّه ممنوع من المحاضرة في الجامعات، وحين يُسأل كيف يعيش يدّعي أنّ له أملاكًا ومزارع زيتون. ربما، لكن قناعتي الشخصيّة أنّ زوجته هي التي تتولى المسؤوليّات الماليّة، ولعلّه بين الفينة والأخرى يُحرز تمويلاً لمركزه البحثيّ أو يصيب محاضرة مدفوعة أو تبرّعًا.
//
رأيت الدعوة وتضايقت، لا لأنه لا يستحقّ التكريم، بل بسبب الذين يكرّمونه. إنه معروف في أوساط ضيّقة مهمّشة عن قصد، ولا يعرِف بالمقابل الأوساط الثقافيّة/ الأدبيّة واستدراجاتها المختلفة. يحسب أنّ التكريم تكريم، أو أنّ التقدير والاعتراف كذلك.
لا نيّة لي على الاطلاق لأكون شخصيّة في نص. قليلًا ما تكلّمت عن نفسي فعلاً، وإذا لجأتُ لذلك ففقط للإيهام بالواقعيّة أو لأستدرج ردّات فعل يقتنصها بعضهم وهم يعتقدون أنّهم ينالون مني، في حين أريد تمرير أشياء لا يعُونها- أشياء أهمّ من آراء الآخرين بي.
وكشخصيّة في هذا النص، بحسب رؤيتي لواقعه، كنت أتسلّل دائمًا للصفوف الخلفية لأخفي نفسي ولأراقب ما يحدث ولآخذ صورة شاملة. لا أحد يعرف قيمة أن تكون خفيًّا، إلّا الذي جرّب معنى أن يكون تحت الضوء، يلتفون حولك وقد تقودهم في مظاهرة أو اجتماع، لكنهم في أوّل منحنًى سيؤذونك بشدّة. على أقل تقدير أن تكون التوقعات منك مرتفعة وبالكاد تلبّي نصفها، وذُقْ طعم الخيبة. من الأفضل أن تكون انسانًا هامشيًّا لا يلحظك أحد ولا يطالبك بشيء أو يزعجك.
ولا أركّز كثيرًا في هذه الأعراس والمآتم والمجاملات. الكلمات كلاشيهات والخطب جوفاء والمشاعر بلاستيكيّة. تناوبوا وراء المنصة وقال كلّ شخص كلماته الطيّبة المعدّة سلفًا، وعبّر عن تقديره لهذه اللحظة التاريخيّة، كما يقول ذلك العجوز التونسيّ.
ثم اصطفّوا لأخذ صورة تذكاريّة. في تلك اللحظة أو لعلّني أعيد تصوّرها، حانت مني التفاتة إلى الشباك الغربيّ، المُطلّ على المستوطنة.
///
ولا قيمة للنصِّ من دون المكان. إنّه مؤسّسة رسميّة كان اسمها بيت الأدب وصارت الإرشاد القوميّ. عبّرتُ علناً عن ذعري من التحوّلات سابقاً في مقال، وسأعبّر عنه مرة أخرى: هل يدرك أحدنا معنى الارشاد القوميّ للأدب؟؟ ليس فقط الرقابة والتوجيه، بل والغطاء لأشياء كثيرة، من بينها السفر إلى أماكن مختلفة، كلّها مناطق مرتبكة، ومن البوّابة الفلسطينيّة يمرّ ما لا يمكن أن يمرَّ..
والآن الشيء غير العاديّ هو ما سيلي: مؤسّسو هذا البيت أو المرشدون. لا نيّة لي على الإطلاق للإساءة لأحد، لكن لا مناص من المصارحة:
- رئيسه دفن والده وجعله شهيدًا مع أنّ أحدهم أخبرني أنّ المرحوم…
- أحد المشاركين، باع ابنه الشهيد مقابل جائزة أدبيّة مناصفة مع والد جنديّ صهيونيّ.
- ثالث قيل لي أنا تحديداً على سبيل التحذير، لأنني مخطوف ومعتقل وعلى صِدام، إنّه أمن وقائيّ!
- رابع مبدع حقيقيّ تعرّض لما تعرض إليه في أمريكا، وركبوا على ظهره بداعي الابداع والتلمذة ورعاية ارثه “الأسريّ”.. حتى الاحترام الشكلي لا يتقنونه، فالرئيس المرشد القوميّ بنفسه أخبرني أنّ هذا المبدع مُجرّد صيحة عابرة، ولم يتردّد في مطالبته بكتابة مقدّمة كتاب له بل وألحّ عليه.
- خامس سحقوه تمامًا لدرجة أنهم اتهموه بالخيانة وطردوه من قريته، ثم أعادوا ترتيب وضعه بما يناسب الإبداع والارشاد القوميّ!
- سادس قدّم أوراق اعتماده “مُنكسرا” (التعبير ليس لي بل له)، ليتمكّن من العودة مع السلطة، متنازلاً عن تاريخه وقناعاته كلها.. وماذا عمل؟؟ ضابط مخابرات قبل أن يصعد للمشهد العربيّ والأوروبيّ!
وعلى هذا المنوال، وقيسوا.
///
عندما التقطوا مع الدكتور الصورة الجماعيّة مُحتفين بنضاليّته وثباته ومبدئيّته، وهو مسرور للتقدير الذي حصل عليه أخيراً كطفل رضيَ بعد حرد، تمامًا مثل كلّ اليساريّين المتواطئين في مشهدنا اللا وطني، لم أستطع فصل الصورة عن خلفيّتها المستوطنة.
كنت أشعر بالبؤس الشديد والكآبة.
هؤلاء جميعًا يستحيل أن يكونوا -من بينهم الأحمق الذي لا يعرف ما الذي يدور- من دون.. المستوطنة!
(2)
ها قد أخبرتكم كيف أراكم، فكفّوا عني. قولوا ما شئتم وافعلوا ما بدا لكم وشوّهوا أو ضعوني على قوائم المنع والمراقبة والتنصّت. أفضّل تحصيل لقمتي كعامل عاديّ. إذا ضاقت بي المدينة (وقد ضاقت) ولم أستطع سفرًا (ولا أستطيع) واستطعت الحصول على تصريح –مع أنّ الاحتمال ضعيف جدًا- فلن أتردّد في العمل في مصانعهم أو مطاعمهم. لن أذهب كمطبِّع أو كاتب أو متنازل عن أيّ قناعة. على الأقلّ عندها سأعرف أنّ عدوي أمامي لا يغطّيه وجه محليّ.
(رام الله؛ 12/4/2015)