مجد كيّال:”هي الأخت الصغيرة لبيروت.. بس حيفا أحلى”
ولكن بيروت، ولبنان عمومًا، مكان يشبهنا بشكل غريب. وتشعر لأول مرة أن شعور الغربة ليس سببه أنك غريب، وشعور أنك وحدك، ليس سببه أنك وحدك. الجميع غرباء، والجميع وحدهم.
|خاص قديتا – حاورته: رشا حلوة |
عند لحظة اعتقاله، مساء الثالث عشر من نيسان 2014، من جسر الشيخ حسين، عند الحدود الأردنية- الإسرائيلية، تداولت صحف ووسائل إعلام عديدة ومن ثم صفحات مواقع التواصل الاجتماعي ما كتبه الكاتب والصحفي الفلسطيني مجد كيّال عبر صفحته في موقع فيسبوك، حين وصل إلى بيروت في الخامس والعشرين من آذار الماضي. حيث تمحور الستاتوس حول “تحقيق الحلم” بالوصول إلى مدينة تبعد عن حيفا مسافة 167 كم، لكن ممنوع على فلسطيني من الأراضي المحتلة عام 1948 زيارتها بسبب الاحتلال. لكنه وصل، وشارك في مؤتمر “السفير 2054″ إلى جانب زملائه في الجريدة التي يكتب فيها بانتظام منذ عامين. تحدثت الصحف ووسائل الإعلام عن اعتقال مجد، عن تمديد الاعتقال، من ثم توقف قسم منها بسبب أمر منع النشر، لكن قسم من وسائل الإعلام من خارج فلسطين كتبت، وبعد إزالة منع النشر كتبت الصحف عن ظروف الاعتقال والتحقيق الذي دار لخمس أيام متواصلة بلا أن يلتقي بمحاميه. وبعدها، كان لمجد الوقت كلّه لأن يحكي لأصدقائه وصديقاته عن بيروت. عن تفاصيل أيامه هُناك. عن الموسيقى التي سمعها والأماكن التي زارها والقصص الطبيعية التي عاشها. لدرجة أنه استبدل جملة “عنا في حيفا” التي كررها في حديثه مع أصدقائه في بيروت، إلى جملة “عنا في بيروت”، حين عاد إلى حيفا.. وعند الإصغاء لهذه القصص، والتفكير فيها فيما بعد، يتحوّل صوت جدتك الذي سرد لك يوماً حكايات بيروت، من صوت أبيض وأسود إلى ألوان. فتعيد القصص تعريف المكان من جديد وعلاقتنا مع الطريق إلى بيروت.. وأن الفكرة قابلة لأن تكون حقيقة حين تكون الشجاعة محورها، وأن المسألة ببساطة هي، كما قالها مجد كيّال مرة: “الشجاعة شرط الفرح الدائم”.
من خلال هذا الحوار الخاص بموقع “قديتا.نت” الثقافي، تحدثنا مع مجد كيّال عن بيروت، الأفكار التي رافقته قبل السفر، عن كيف التقى بالمكان الذي يعرفه من القصص والأغاني.. عن مخيم شاتيلا وزيارة ضريح الشهيد غسّان كنفاني.. عن الناس والبارات… المقارنة بين حيفا وبيروت.. وعن كيف تستقبل المدن ابنائها الممنوعين عنها.
قبل أن تصل بيروت، وفي اللحظة التي عرفت بأنك في الطريق إليها.. ما هي الأشياء الأولى التي فكرت بها؟ والمكان الأول الذي أردت زيارته؟
مجد: “واجهت بعض الإشكاليّات في الدخول إلى لبنان، بالأساس بسبب السفر طريق عمّان وكل ما يتعلّق بأمور ختم الجوازات، حتى أني اضطررت لتأجيل الطائرة. القلق، قلق أن أصل، كان الشيء الوحيد الذي يشغلني. أردت أن أدخل وكان كل تفكيري يتركز بهذا. لكن ما كنت أنتظرته بالأساس هو الناس، الأصدقاء الذين أعرفهم وأحبهم وأعمل معهم وأتعلم منهم منذ عامين. حتّى أصواتهم غريبة بالنسبة لي. قبل يوم من السفر حدثت اشتباكات في محيط المدينة الرياضيّة. ربما أول ما سألت عنه كان المدينة الرياضيّة. الأزمة السياسية وما تتضمنه من أحداث عنف هي جزء أساسي وإلزامي من المشهد العام لما تعنيه بيروت اليوم. وسألت عن شارع الحمراء، هذا الشيء الذي نسمع عنه دائماً”.
وصلت المطار. خرجت منه.. ما هي الأشياء الأولى التي فعلتها فور وصولك بيروت؟
مجد: “كان من المفترض أن أصل المطار عند التاسعة صباحاً، وبسبب تأجيل الطيارة وصلت عند الخامسة والربع مساءً. كان الأصدقاء بالانتظار. كنت قد مزحت بأني أريد زجاجة بيرة على مدرج الهبوط، والمزحة تحوّلت إلى جدّ. لكن اللقاء الأول كان مثيرًا. وعلى الفور انطلقنا إلى الجريدة. كانت د. نهلة الشهّال هناك وباقي الأصدقاء والزملاء. لحظات شخصيّة عظيمة”.
بعيداً عن القلق والخوف المألوف، ما هو الشيء الذي كنت تخشاه بعدما تصل بيروت؟ على مستوى الفكرة التي عاشت معك عن المدينة قبل زيارتها.
مجد: “كنت أخشى الفكرة التي لدينا عن أن الناس غير محتضنين، أن الفردانيّة متجذّرة في المدينة وكذلك النفور من الغرباء. أيضًا كنت أخشى أن أواجه طائفيّة تعطّل مجرى الحياة على الصعيد الشخصي. أنا قادم من مكان مختلف تمامًا. شعور المدينة التامّة ليس قائمًا لدينا في فلسطين. حتى في حيفا أو في القدس، يبقى دائمًا شيء ما على حدود القرية والقرابة بين الناس، بغض النظر إن أعجبنا أو هذا الأمر أو كرهناه، لكننا لا نمتلك هذه المدينة الكبيرة، بما تحمله “المدينة الكبيرة” من معاني. لذا فأنت حين تسير بحيفا مثلا تشعر بثقة، تعرف الناس، تعرف الأماكن كلها، تستطيع أن تتدبر أي شيء. هذه أمور أقرب للحياة في قرية عرّابة منها في بيروت أو القاهرة. لا أعرف إن كان ذلك أفضل أو أسوأ، ليس هذا السؤال، لكن بالنتيجة أنت في مكان جديد، مدينة عربيّة كبيرة، والتجربة بشكل طبيعي، تثير أفكار كثيرة. كذلك الأمر بالنسبة للطائفيّة، خاصةً في حيفا. الطائفيّة منبوذة وهامشيّة، موجودة؟ موجودة. لكنها مستهجنة ومستنكرة ومنبوذة. أعيش في مجتمع يخاف فيه الإنسان أحيانًا أن يفصح عن هويّته القوميّة، لكنّي لا أعرف كيف تكون الحياة في مكان يخاف فيه الإنسان أن يفصح عن هويّته الدينيّة. والفرق أن الهويّة القوميّة تظهر في فروقات أوسع، مثل اللغة. أما بالهويّة الدينيّة فالفروقات أضيق. أخيرًا، كنت قلقًا من العنصريّة ضد الفلسطينيين والسوريين والعمال الأجانب. تخيلت أني سأمشي في الشارع وأواجه أمامي مظهر عنصري ضدنا كل خمس دقائق، وكنت قد بدأت أسأل نفسي كيف سأتعامل مع هذه المواقف. لكن الاستنتاج المهم من هذه المراقبة السريعة والشخصيّة، هي أن العنصريّة الحقيقيّة والوحشيّة موجودة على مستوى آخر غير الشخصي؛ في البنية السياسيّة والاجتماعيّة والعمرانيّة للمدينة. تظهر على المستوى الشخصي، لكن حضورها الأساسي والأعنف ليس هناك”.
في النص الذي نشرته في جريدة السفير حول زيارتك لبيروت، وبعنوان “صورة تذكاريّة لصبيّة تُطعم أختها”، ذكرت بأنك لست بسائح في بيروت. لكن هل من لحظات شعرت بها بأنك غريب؟
مجد: “هنالك مسألة أساسية تكمن بأننا مدينتنا، نحن الفلسطينيين، مفقودة. مدينة بالمعنى الأبسط؛ أن يكون الفرد فيها مجهولاً، لا يعرفه ولا يسأل عنه أحد. ببساطة. لا زال هنالك شعور قروي دافئ في قلب مدننا، في حيفا ويافا وعكا والقدس، هذا يظهر بالعلاقات بين الناس. وفجأة تعيش تجربة جديدة تغرّبك. لكني سألت: العمى، هل هذه أول مرة أزور فيها مدينة جديدة؟ لماذا هنا بالذات؟ لأنها قريبة بقدر ما هي بعيدة. عندما تزور أمكنة تختلف عنك من حيث اللغة والثقافة والمزاج والطبيعة، فأنت تشعر أن غربتك كفرد تنبع من أنك غريب عن الثقافة واللغة والمزاج والطبيعة. حتى في القاهرة، لا يزال هناك شيء غريب من حيث اللهجة وإيقاع الحياة والطبيعة. ولكن بيروت، ولبنان عمومًا، مكان يشبهنا بشكل غريب. وتشعر لأول مرة أن شعور الغربة ليس سببه أنك غريب، وشعور أنك وحدك، ليس سببه أنك وحدك. الجميع غرباء، والجميع وحدهم. هناك لا أحد بحاجة أن يعيد ويذكّر نفسه بأن سكّان المدينة ليسوا من المدينة. كل مدن العالم أهلها ليس منها. لكننا في وضع سياسي يحتّم علينا أن نذكّر أنفسنا دائمًا أن أهل حيفا ليسوا من حيفا. أن أهل المدينة لاجئين الآن، وأننا في المدينة لاجئين فيها- جزء منّا لأن قريتنا هُدم في 1948، وجزء آخر لأن الأرض صودرت وانتاجنا الزراعي قُتل- لذا فهناك ظروف موضوعيّة تفرض علينا أسئلة كثيرة غير مطروحة في تلك المدينة. لدينا الجلسة في المقهى وفي البار مُستهجنة. كلنا نعرف عندما يريد هذا أن يذم ذاك، خاصةً في العمل السياسي، يقولون “قاعد في قهاوي حيفا”. لأن المقهى في المدينة نقيض ديوان مختار الحمولة في القرية. ونحن نخاف، نخاف من هذا الانفصال، لأننا أبناء نكبة، ولا عيب في أننا نخاف، لكننا بحاجة للتفكير في تجاوز الأمور، وتجاوزها هو في تغيير الواقع السياسي قبل كل شيء، التحرر منه”.
وهل من لحظات شعرت فيها بأنك في البيت؟
مجد: “لا أذكر، لا. لكن أيضًا في يافا وعكّا لا أشعر بأني في البيت. أشعر في البيت في البلد الذي كبرت فيه، حيفا. الموضوع ليس شخصي تجاه بيروت. فيهاش زعل القصّة. ولكن لا أشعر بالبيت في الناصرة ولا في الجديدة. شعرت بالدفء أكثر عندما زرت بيوت الأصدقاء.. وشعرت بالألفة أكثر حين كان كل من يحطيك هو غريب عن المدينة. فحين تكون ألفة غرباء، تشعر بأنك في البيت أكثر”.
“لكل من يسأل، آه، شربت بيرة بالحمرا..”، كانت هذه الجملة ضمن الستاتوس الذي نشرته فور وصولك بيروت. الحمرا والبارات التي زرتها.. ما هي الموسيقى التي سمعتها هناك؟
مجد: “يتعلق بالمكان. لكن الوضع مشابه لما عندنا. لا أعرف الكثير عن الموسيقى، أنا مستمع عادي وليس أكثر من ذلك. لكن هناك شيء مزعج في المساحة التي يشغلها فنانون يعرضون كلاسيكيّاتنا العربيّة وموادنا التراثيّة بقوالب سهلة الهضم للمستمع الأوروبّي. هذه المواد التي تخرج من عندنا تُستهلك في أوروبا ثم تدور وتصلنا من جديد. هناك شيء مزعج في أن أسمع، أنا، عبد الوهاب، في سياق ما يسمى بالـ world music. لكن بالمحصّلة أنت، العربي، تتعرف على الموسيقى المغربية، العربيّة، من انتاج روك وريغيي أوروبي. لكن في النهاية، في مرحلة ما في الليل، كلنا نعرفها جيدًا، يعود كل شيء لأصله. والكل يريد أن يعود لسيّد مكاوي وأم كلثوم أو جوزيف صقر. كلّه برجع لأصله”.
من الصور التي نشرتها عبر صفحتك الفيسبوك، كانت صورة ضريح الشهيد غسّان كنفاني. هل قلت له شيئاً؟ بماذا كنت تفكر وأنت تقف أمام الضريح؟
مجد: “أحيانًا، بين العاطفة الصادقة والابتذال شعرة صغيرة، وتجاوزها مقلق. لكن لم يكن سهلاً استيعاب الأمر. أنك تقف فوق قبر هذا الرجل الذي يعني لي وللكثيرين أكثر من أي شخصيّة فلسطينية أخرى. هناك قيمة دُفنت مع هذا الإنسان. وهي قيمة أن يكون المناضل مثقفًا والمثقف مناضلاً. لماذا مات؟ تسأل، ثم تتذكر أن هذا الموت هو ما يكمّل القصّة. لأنه موت يحمل فكرة. الاستشهاد يعيد صياغة كل ما كان قبله بقالب آخر، يعطيه وزن آخر، وزن الدم، التضحية حتى النهائية. هذا هو النموذج: نموذج الكاتب الرائع والعالمي الذي أنتج أعمالاً لا تضاهى في زمانه ومكانه دون أن ينفصل للحظة عن العمل السياسي بأدق تفاصيله. كثيرًا ما يُسأل حول الكفاح المسلّح اليوم (وكأن من يعارضون الكفاح المسلّح يعبّئون الشوارع بالنضال الشعبي) ويكون الإلحاح بهدف حسم قضيّة الكفاح المسلّح، وكأنها السؤال الأساسيّ. إلا أن السؤال الحقيقي هو سؤال فلسطيني طُرح منذ سنوات طويلة وأهملناه: من يقف وراء السلاح؟ من يقف وراء الحجر؟ من يقف وراء القلم؟ أعطونا إجابة أولًا على هذا السؤال، ومن ثم ناقشوا الكفاح المسلّح. القضيّة ليست نوع النضال، القضيّة نوع المناضل. بين المثقّف والموظّف، بين الصادق والتاجر. وهذه الأسئلة هي أسئلة تحضر وتعصف بقوّة دائمًا، فتخيّلي عندما تقف فوق قبر هذا الأديب الكبير الذي اغتالوه لنضاله البارز في الجبهة الشعبيّة. وإلى جانب كل هذه الأسئلة، تركت عند القبر برتقالة حملتها من حيفا. اشتريتها من السوق في وادي النسناس. أتمنى فقط أن لا تكون شغل مستوطنات”.
زرت مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين.. لا من سؤالي يراودني، ولربما ليس من أسئلة، عدا عن رغبة بأن تحدثنا عن المخيم.
مجد: “سألتني صديقتي، كيف المخيم؟ زي ما توقعته؟ أجبتها: إنه آه.. مخيم لاجئين. أحياناً المشكلة أن كل ما هو غير طبيعي أصبح طبيعي. البؤس والفقر والقهر والبشاعة ليست أمور طبيعية وهي مفروضة ومستهجنة وحقيرة. ولكنك ذاهب إلى مخيم لاجئين. ما الأمر المفاجئ؟ مثلما الاعتقال وحشي ومستهجن أن تجلس في غرفة مغلقة بلا أن ترى الشمس وتقع تحت تحقيق حقير. لكن حين يسألوك عن التحقيق، تجيب بأنه عادي. تستخدم كلمة عادي. وبعد بضعة أسئلة تفهم بأن الأمر ليس عادياً. ليس من الطبيعي أن تعيش الناس في مثل هذه الظروف، لكن هذا هو المخيم. هذه هي مأساتنا”.
كيف استقبلك أهل المخيم؟
مجد: “التقيت بشكل طبيعي ببعض الناس. والمشترك بين من التقيتهم هو رغبة أن يعرفوا. قابلت أشخاص من حيفا. جيراننا. هناك من لا زال محافظاً على أصله، فيقول أنه من حيفا.. لكن التفاصيل تضيع مع الوقت. أي تقريباً لا أحد يعرف من أي مكان في حيفا تحديداً. مع أنه من المفروض أن تعرف الناس أين كانت بيوتها وفي أي شارع.. فتغيب التفاصيل وتبقى الفكرة الكبيرة. فكرة العودة. وربما، ربما، يكون ذلك أفضل. فلا نعرف التمسّك الماديّ بالتفاصيل كيف يمكن أن يتطوّر في حالة العودة، وفي التركيبات الاجتماعيّة الغريبة التي يمكن أن تنشأ.”
وبعدما خرجت من المخيم.. ما هي الأفكار التي راودتك؟
مجد: “لم أفكر، كنت مصدوماً ومستغرباً. زرت المقبرة وانتابني شعور غريب. شعور لا يجعلك تفكر إنما تدمع فقط، وتسأل: شو عملوا فينا؟. هنالك شعور دائم بأنك كفلسطيني شاب لا تريد أن تعيش نفسية الضحية وأن لا تبكي ولا تبتذل الأمور.. لكن الشعور الوحيد الذي خرجت معه هو أنهم فعلياً ذبحونا. وأنه لدينا الحق أن ننتقم دموياً. صحيح، جميل حل الدولة الواحدة والأفق الديموقراطي والمواطنة وعودة اللاجئين وكل القضايا السياسية التي تتحدث عنها وتسمع فيها تنظيراً، وتحاول أن تفكّر بشكل متنوّر وطلائعي، هذا هو الصحيح وهذا ما يجب أن يكون. ولكن هناك أيضًا الغريزة الإنسانيّة، رغبة الانتقام والثأر التي تمحو كل عقلانيّة الكون بضربة واحدة. هذا شيء إنساني، لا يمكن أن نتخلّص منه. عليك أن تبحث بين بسطات بيع الأحذية والملابس الداخلية لتصل إلى ساحة ترابية مكسوة بالأخضر هي عبارة عن مقبرة. تسأل هل جثث الشهداء هي ما جعل الأرض خضراء بهذا الشكل؟ وأن الأعشاب والأزهار لم تُزرع.. إنما نبتت من الدم في الأرض؟ هل يمكن للاستعارات أن تكون بهذه الواقعية؟ لا يمكن التعامل بأساليب انسانية مع مجزرة بهذه البشاعة. لا يمكن أن تبقى إنسان بعدها. معجزة أن تبقى إنسانًا بعد هذه أن تشهد أثر هكذا مجزرة. معجزة”.
كم تشبه حيفا بيروت؟
مجد: “كثيراً. خاصة من الناحية الجغرافية؛ الجبل والبحر.. أضف إلى المساحات “غير المحافظة” التي فيها، بمعنى المساحات الحرّة، التي تستطيع الناس فيها أن تتصرف بحياتها كما تشاء. والأمور نسبية بالطبع. اهتمام الناس بالسياسة والثقافة في حيفا أكثر من غيرها.. كما بيروت، فعلياً هي الأخت الصغيرة لبيروت. بس حيفا أحلى. وأكثر هادئة. الأمر الثاني هو أن حيفا مفتوحة، بمعنى من الصعب أن تجد في بيروت مساحات خضراء، لكن في حيفا لا يمكن أن تجلسي في أي نقطة بلا أن تلمحي مساحة خضراء. أضف إلى أن انحدار جبل الكرمل أكثر حدية من بيروت. بالتالي البناء المنخفض لا يغطي على المباني الأعلى. وفي بيروت عليك أن تذهب إلى البحر كي ترى البحر، لكن في حيفا كل نقطة تقريبا تطل إلى البحر”.
كيف كنت تتحرك ببيروت؟ مواصلات؟ مشياً على الأقدام؟
مجد: “فان رقم 4، أهم شيء. هو مثل الفوردات عندنا. أضف إلى تاكسي السيرفيس. ولكن بالأساس مشيت كثيراً، أي معظم وقتي كنت أمشي على الأقدام”.
كيف كنت ترتب أيامك في بيروت؟ وماذا عن الأكل؟
مجد: “أصحو باكراً وأنام متأخراً. كنت مليء بالطاقة والرغبة بأن أرى كل شيء. أذهب إلى الجريدة صباحاً. وموضوع الجريدة هو أمر مثير.. لا نعرفه هنا. الجريدة هُنا هو ليس شيئاً تذهب إليه، إنما شيءٌ ترسله بالإيميل. هناك تحول إلى شيء مادي وجميل، بتعقيداته وسلبياته وإيجابياته. بما يتعلق بالوجبات، انتبهت إلى أن الوجبات أصغر حجماً. يجب أن نفحص سبب ذلك، هل نأكل كثيرا في فلسطين؟ واكتشفت الفتّة أيضًا، وهذا أهم اكتشاف”.
ماذا كنت تحكي لأصدقائك في بيروت عن حيفا؟
مجد: “عن أخي ورد. أحبه وأحب أن أحكي قصصًا عنه، فهو مشاكس وبالتالي شخصيّته تحمل قصصاً كثيرة وطريفة، وأحياناً أؤلف عنه قصصاً طريفة من الخيال، لأن شخصيّته تتحمل ذلك. ولكن أهم شيء أني كنت أقول كل الوقت كنت أقول جملة – عنا في حيفا. أحياناً بجدية وأحياناً لا. هو موضوع مقارنة، لا يمكن لك أن لا تقارن. المكان قريب جداً ليس مثل أن تذهب إلى بلد أوروبي ولا يكون أي مشترك بينه وبين مكانك. كل شيء يدعوك للمقارنة. هنالك قدر من الشبه والاختلاف. كنت أتحدث عن أصدقائي، عن الناس الذين أحبهم”.
من هي الشخصيات التي أثرت بك في بيروت؟
مجد: “نهلة الشهّال.”
هل كنت تلتقي بأشخاص تعرفهم في الشارع؟
مجد: “في مرة من المرات التقيت بصديق اسمه مازن بالشارع. كانت صدمة.. كان ذاهباً لتناول الطعام وألقينا التحية على بعضنا البعض وكل واحد ذهب في سبيله، ثم التقينا بعدها. كانت لحظة جميلة وعفوية. وأيضًا زميلي نائل، كنت أعرف أنه يفترض به أن يصل في اليوم الثاني، ووجدته فجأة في الشارع”.
من الأمسيات الثقافية التي حضرتها، كانت موسيقية للفنان سامي حوّاط. ونشرت صورتك معه عبر صفحتك الفيسبوكية. حدثتني بأن الحفلة كانت مميزة بكل تفاصيلها؛ المناسبة والتي هي ذكرى اغتيال مهدي عامل، الأغاني التي قدمها حوّاط والجوّ الذي وصفته بــ “اليسار كما نعرف اليسار”. القصة لا تنتهي هُنا.. ماذا حدث خلال الاعتقال؟
مجد: “قدّم سامي حوّاط في الأمسية أغنية “كيف أنسى” وهذه أغنية أحبّها بشكل خاص. عندما عدت ودخلت التحقيق حدث شيء غريب جداً. لا أعرف إذا كان الأمر عن طريق الصدفة، ربما لأني كنت قد وضعت على فيسبوك صورتي مع حوّاط، ربما كنت قد تحدثت عبر فيسبوك أو جيميل حول الأغنية. كان المحقق يسألني عن أسماء ناس التقيت بهم، يسأل ويسأل ويسأل، ثم أمسك هاتفه الخليوي، وقال “لنسمع شيئًا”، وشغّل الأغنية. لا أعرف، أعتقد أنه رأى الصورة في فيسبوك وبحث عن الاسم في يوتيوب وضغط صدفة على هذه الأغنية. لكن هذه الحادثة أفقدتني توازني، ولو أنها تبدو بسيطة”.
لو كان لديك المزيد من الوقت، ماذا كنت لتفعل به؟
مجد: “كنت أزور باقي المخيمات؛ عين الحلوة والمية مية ونهر البارد.. وكنت أرغب لو عدت إلى قبر غسّان كنفاني مرّة أخرى”.
ستنطلق غداً حافلة إلى بيروت.. وعليك أن تنصح الذاهبين إليها بأماكن لزياتها.. بماذا كنت تنصحهم؟
مجد: “أن يمشوا في الشارع.. ممنوع زيارة بيروت بلا أن تعرف ماذا حدث في هذه المدينة. من الممكن أن تموت مللاً. يجب أن تذهب إلى المخيمات كي تدرك ماهية المأساة. كي تدرك حقيقة الصراع، لأنها موجودة في المخيمات فقط. قضية فلسطين موجودة في المخيم. هُنا، في 48 موجود الحلّ السياسي، في الضفة موجود شكل المجتمع الممكن.. لكن المأساة في المخيمات.
الأمر الثاني هو أن تذهب إلى ما يُسمى – الداون تاون – هذا مكان يلخّص لك كل ما تكرهه في الحياة. الحداثة المعاقة والمشوهة التي تُبنى دون أي أساس، لا معرفي ولا اجتماعي ولا أصلاني. وإعادة بناء لمكان بلا الأخذ بعين الاعتبار لأي شيء عدا على أن تعجب الغرب والسائحين بلا أن تفكر بالناس”.
هل من أمر ترغب مشاركته بخصوص زيارتك لبيروت؟
مجد: “نعم. هنالك أمر في المشهد العام يتطلب أو يتوقع منك كفلسطيني من الداخل أن تكون بمنأى عن النقاشات الداخلية. بالنهاية أنت من فلسطين وعليك أن تحافظ على حب الجميع ولأن قضيتك تجمع الكلّ. ولكن بنفس الوقت تجد نفسك جزء من هذه المساحة ولا يمكن أن لا تحكي عنها، وإن لم تقل رأيك ستجد نفسك تافهاً وسطحياً وجزء غير عضوي في محيطك الذي أنت جزء من نقاشاته الداخلية. خاصة بما يتعلق بالموضوع السوري، هذا أصعب وأهم شيء في زيارة بيروت كلّها. بيروت هي أقرب نقطة للأزمة في سوريا. وأنت تعرف بأن هنالك جرائم ترتكب باسمك كفلسطيني.
هناك من يدافع عن النظام باسمك وباسم قضيتك. لا يمكن أن تقف على الحياد صامت. أنت لا تحتاج لمن يقول لك ما هي فلسطين ويحكي لك عن أهمية فلسطين وإلخ.. وبنفس الوقت أنت تفهم الإدعاءات كلها ضد الأصولية الظلامية.. لكن في نهاية اليوم أنت كفلسطيني لا تستطيع ولا لأي لحظة أن توقف إلى جانب نظام نسف بلده. ممنوع. ولا يمكنك أن لا تستوعب أن مأساة اللاجئين السوريين هي مأساتك أنتَ. هي نفسك. لا يمكن أن تلتقي بلاجئ سوري في لبنان ولا ترى وجهك في المرآة. إنك ضد داعش وضد من يقاتل بدوافع طائفيّة هذا أمر محسوم، لا نقاش عليه. النقاش هو على من يقتل باسم تحرير فلسطين. وأنت ترى الناس يُقتلون وكأنك تُقتَل مرة أخرى. إنها قصتك، وذات قصة اللجوء والتهجير والمقاومة التي في أحيان كثيرة نجحت وفي أحيان كثيرة انحرفت إلى مكان آخر. أنت ضد النظام وضد الميليشيات الظلامية، لكن لا يمكن أن تقف جانباً. التوقع بأن تكون فلسطينياً وتنأى بنفسك عن قضيّة تشبهك، فهذا مرفوض. والتوقع أن تحكي عن كل شيء؛ عن بيروت وحيفا والحرية وأن لا تلتفت لقصة كقصتك ووجع كوجعك وتفاصيل كتفاصيلك بلا أن تقول بأن كل هذه الحرب بدايتها النظام، عندها تفقد دورك في هذا المكان الذي تدعي بأنك جزءاً منه، وتصبح دون معنى، فلسطين تصبح أيقونة فارغة على الحائط، بدلاً من أن تكون حالة سياسيّة تحمل مواقف وتفعل في محيطها الطبيعي وتؤثر عليه وتتأثر منه. عندها لن تكون جزءاً من وطنك العربي، عندها تصبح سائحاً.”
هل ستعود إلى بيروت قريباً؟
مجد: “نعم.. ما الذي يمكنه أن يردعنا؟”
قبل أن ننهي حوارنا، هل من أمر وحيد أخافك أثناء مكوثك في المعتقل؟
مجد :”الخوف من أن تضيع الذكريات والصور واللحظات المثيرة والرائعة والغريبة بلا أن تشاركها مع أحد. أن تجلس عاماً كاملاً في المعتقل بلا أن تشارك وتكتب عن هذه التجارب وتضيع منك. لأن التجربة إذا لم تُشارك مع الناس سوف تُنسى. تنطفئ. في مرحلة ما أردت أن أطلب منهم أن يخرجوني لأسبوعين كي أحكي لأصدقائي عن الرحلة، ومن ثم أعود إلى السجن قدّ ما بدهم”.