حين كانت الأرض وطن الأغنية/ مجد كيّال
من مرحلة شكلت فيها الأرض مركزًا قويًا لانسجامها الكامل مع التراث الفلسطيني، مرورًا بتراجعها وتحوّلها إلى رمز فضفاض حين تركزت الاغنية في الثورة والبندقية، وحتى تلاشي المصطلح لدرجات كبيرة من قاموس الأغنية في الانتفاضة الأولى، وانهيارها الأغنية السياسية تماما في الانتفاضة الثانية
حين كانت الأرض وطن الأغنية/ مجد كيّال
|مجد كيّال|
لا أدعي في هذه المادة المتواضعة نقدًا موسيقيًا، ولا عرضًا شاملا للأغنية الوطنية-السياسية الفلسطينية، إنما الغرض من هذه المادة، وقد كتبت على شرف يوم الأرض، محاولة اقتفاء أثر تطوّر مفهوم الأرض في سياق الأغنية الوطنية-السياسية الفلسطينية.
هنا أدّعي انتقال “الأرض” من مرحلة زمنية مبكّرة تشكل فيها مركزًا قويًا في تكوين الهوية الفلسطينية لانسجامها الكامل مع التراث الفلسطيني، وفي هذا المكان سيلاحظ القارئ الدور المركزي لفرقة “الفنون الشعبية”، ثم نتابع تراجع مفهوم “الأرض” وتحوّله إلى رمز فضفاض حين تتركز الأغنية في الثورة والبندقية، وسيلاحظ القارئ دور فرقة “العاشقين” في هذه المرحلة، وتلاشي مصطلح “الأرض” لدرجات كبيرة من قاموس الأغنية في الانتفاضة الأولى، وسنشير إلى دور “فرقة اللجنة المركزية” لننتهي باختصار، بانهيار الأغنية السياسية تمامًا في مرحلة أوسلو.
اِنطلقت فرقة “الفنون الشعبية” في العام 1979، بعد يوم الأرض بثلاث سنوات، ولا يمكن أن نفصل انطلاقتها عن حالة الحراك والنشاط السياسي والثقافي (على أرض الوطن) الذي بدأ يتسع ويتصاعد ليشغل حيزًا هامًا مساهما في انفجار يوم الأرض، ثم ليكتسب هذا الحراك من يوم الأرض قوة زادت وتيرة تصاعده.
فرقة الفنون الشعبية فرقة فلكلورية صرف، مصدر موادها الأول التراث الفلسطيني، تراث مجتمع فلاحيّ تدور حياته حول الأرض. قصص الحب، العلاقات الاجتماعية والمادية والروحانية، كلها تدور حول طبيعة أرض فلسطين، كما نلاحظ في أغاني مثل “يا زارعين السمسم” و“شوربنة“ وهي صلاة استسقاء، و“واردات” وغيرها.
إلا أنّ هذا الفلكلور البسيط، الذي يحكي قصص الفلاحين البسيطة، استطاع في السياق التاريخي أن يلعب دورًا هامًا لأنّ الأرض موضوعه الأول والأخير. لقد ألهبت فرقة الفنون الشعبية جمهورها من دون أن تلفظ اسم أبي عمار ولا منظمة التحرير ولا جمال عبد الناصر، بل قدّمت عملا موسيقيًا يفيض بالملامح الدرامية، لأنه عمل يعي أنّ المشاهد والمستمع الفلسطيني، الذي تشكل الأرض الجزء الأكبر من هويته، من سليقته، من رؤيته للصراع، من لا وعيه ووعيه بالوقت ذاته- لا يحتاج إلى أكثر من استعراض هذا الجزء بحلته النقية والطبيعية لكي يخرج من ساحة العرض منتفضًا. لقد صوّرت الفنون الشعبية كذبة، كذبة الأفراح الفلسطينية على “أرض” الوطن، وكذبة الشاب والشابة اللذيْن ينتظران الحصاد ليتزوّجا، وأكاذيب وأوهاما كثيرة أخرى تنغزنا، وتذكرنا أنّ الأرض التي لها أفراحنا وأفراح الراقصات على المسرح، غابت، وغاب معها فرحنا.
ومع هذا، يمكننا أن نلاحظ بسهولة كيف بدأت فرقة الفنون الشعبية تقدم أعمالا أكثر صلة بمقاومة الاحتلال كلمة تقدّمت مسيرة النضال الفلسطينية (حرب لبنان بشكلٍ خاص)، خاصةً مع عمل “وادي التفاح“ (1984) الذي حافظ على الطابع التراثي مضيفًا إليه أغانيَ ذات طابع أكثر ثورية مثل “طلّت الباروده“ الأغنية التي أداها كثيرون (غناها أبو عرب في رثاء جهاد جبريل بكلمات مختفلة، كحال معظم الأغاني الفلكلورية.) وأيضًا “من مزرعتي ومن تلي“ وأغنية “وادي التفاح“ وغيرها.
في العام 1987 اندلعت الانتفاضة الأولى، لكن الانتفاضة لم تندلع في يوم، بل هي تراكم لحال شعبي يتهيأ للانفجار. أين الأرض إذًا في الأغنية الوطنية الفلسطينية في هذه المرحلة؟ لقد تركناها ومضينا للحرب، تجيب فرقة الفنون الشعبية قبل اندلاع الانتفاضة بشهور. حين قدمت لنا عملها الثالث: “مشعل” قصة شاب يترك قريته وأرضه وحبيبته عائشة، ويبيع أساورها ليشتري بندقية، ويذهب إلى المدينة، إلى “حيفا عروس الأبطال“ تحديدًا، ليقاتل. لكن الوهم لا زال مستمرًا، فقصة مشعل مستوحاة من الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الإنجليز، إلا أنّ الوعي الفلسطيني يعرف ما الذي يجب أن يفهمه. في هذه النقطة، برأيي، يبدأ إقصاء الأرض عن جوهر الصراع، كما ينعكس في الأغنية.
فرقة العاشقين الفلسطينية، التي بدأت طريقها في العام 1977 في دمشق، مرّت تقريبًا بالمراحل ذاتها، فقد قدمت العاشقين أوّل أهم أعمالها مثل “والله لزرعك بالدار يا عود اللوز الاخضر” من دون أن تنفصل عن مركزية الأرض في تركيب الأغنية كمرآة للهوية. لكن ظروف الثورة الفلسطينية وذروتها -حرب لبنان- دفعت فرقة العاشقين (بسرعة فائقة) لمنح سلاح التحرير حصة الأسد من الأغنية، فلم تعد الأرض إلا رمزًا يُستعمل في بعض الأغاني والمواويل مثل “لكتب على جبين المرج“، وتغيب في أغانٍ أخرى. لكنّ الألحان الفلكلورية المستمدّة من علاقة الفلسطيني بالأرض، ظلت أساسية في أغانٍ طابقت كلماتها للأحداث السياسية الجارية. مثلا: “على دلعونا“ و“يا ظريف الطول“ و“جفرا”، وفي الأخيرتين نلمس تشابهًا كبيرًا بين مسيرة الفنون الشعبية والعاشقين باستمداد الاغاني من ثورة 1936، فنرى أعمالا كثيرة للعاشقين مثل “من سجن عكّا” و“أبو ابراهيم“ و“الشوملي“ و“يا ديرتي“ تحاكي هذه الثورة المجيدة.
لطالما كنت أشعر بالانتقال من مناجاة الأرض والتراث إلى مناجاة البندقية يتجسّد واضحًا جليًا في أغنية العاشقين “كنّا نغنّي” وفي مطلعها: “كنّا نغني في الأعراس/ جفرا عتابا ودحيّه/ واليوم نغني برصاص/ ع الجهادية الجهادية”.
ليس في حرب لبنان فقط، بل أيضًا عند الانتفاضة الأولى نلاحظ في الضفة ظهور أغنية سياسية يخرج مصطلح الأرض من دائرة ضوئها. فنرى أغاني “الفرقة المركزية” التي ظهرت بقوة في الانتفاضة الأولى تحيّد فكرة الأرض وما يتعلق بها من مصطلحات تراثية، وتتركها مخزنًا احتياطيًا للكلام مثل أغنية “محلا البيدر والدريس”.
الفرقة المركزية، بوزنها وتأثيرها على الساحة الفلسطينية في أيام الانتفاضة لم تعط حيّزًا لإنتاجها في فترة الانتفاضة سوى أغان تتحدث عن تفاصيل الانتفاضة. فصنعت حالة غريبة لا يمكن إلا أن تثير الضحك: كيف يمكن أن تُدمَج في الأغنية ذات اللحن البسيط مصطلحات مثل “الفيتو الأمريكي” و”حرق عجال” وشعارات مثل “ضمن الصف الوطني منبوذ السلاح دعم الانتفاضة بتصعيد الكفاح” وغيرها من الشعارات التي يستصعب صياغتها حتى في أعقد الوثائق والبيانات السياسية.
في نهاية هذا المسار، نلاحظ مرحلة اتفاقية أوسلو وما سبقها وتلاها من تراجع في أغنية السلاح وأغنية الثورة كما رأيناها حتى الآن، وتراجعت الأغنية الفلسطينية بشكلٍ عام، كما تراجع كل شيء. ففرقة “العاشقين” انهارت في أوائل التسعينات، وفرقة الفنون الشعبية لم تنتج عملا جديدًا لمدة خمس سنوات (“مرج بن عامر” في 1989 وثم “طلة ورا طلة” في 1994)، وما انتجته كان متأثرًا بالواقع الفلسطيني البائس والتعيس، فكان العمل مضغًا للوحات قديمة وتصميم رقصات لأغاني الأخوين رحباني، وهو ما تعزوه الفرقة لـ “تجربة جديدة في تصميم الرقصات”. وقدمت بعدها، في العام 1997 “زغاريد”، وهو شريط أغاني أعراس تراثية فلسطينية، لعله يعود إلى ما حاولت الفرقة تقديمه في بداياتها، وإن كان هذا الاحتمال صحيحًا، فهذا يدل على أن هذه الفرقة كانت تعي بشكل كامل ما الذي كانت تفعله منذ يومها الأول. أما الاحتمال الآخر فهو أن يكون “زغاريد” جزءًا من نفسية الهزيمة التي نأت بنفسها عن السياسة في مرحلة وجدنا فيها القيادة التي لها وبها غنّينا وتغنينا، تساوم على الفتات.
بهذا الشأن هنالك ثلاثة أمور يجب أن تطرح لنقاش متعمق: الأول، إصدارات الفنون الشعبية الجديدة التي تُعتبر قفزة نوعية فنيًا وتحمل الكثير من الأسئلة السياسية. الأمر الثاني، هو محاولات إحياء فرقة العاشقين، وهو أمر شائك يجب أن ننتبه إليه عاجلا لما يجري من محاولات تحزيب للفرقة. والأمر الثالث هو اختفاء الأغنية السياسية في الانتفاضة الفلسطينية الثانية!
26 أبريل 2012
ملاحظة على الهامش
لم تكن هنالك فرقة باسم فرقة اللجنة المركزية، بل “الفرقة المركزية” وهو اسم مستعار ووهمي انتشر في أيام الانتفاضة .. على الأغلب كإجراء أمني استعملته “الفنون الشعبية” حتى لا يتعرض أعضاؤها للملاحقة.. كان سرا مفضوحا بالطبع، ولم يعنِ الأمر أن أعضاء الفرقة لم يُلاحقوا، بسبب غنائهم أو بغيره. وكذلك الأمر فيما يتعلق بفرقة جفرا.
على الأغلب هنالك خلط بين فرقة “جفرا” التي كان مغنيها الرئيسي ثائر البرغوثي و “الفنون” بقيادة أبي عطا.. ف”ضرب حجار ونار عجال” هي لجفرا، المتماهية مع الحزب الشيوعي الفلسطيني، بينما “بنار المولتوف” هي للـ”فنون” المحسوبة على الجبهة الشعبية.