جدلية الدمية-الجسد في أعمال رندا مدّاح/ نصر جوابرة
تنفتح القراءة التأويليّة لنصوص مداح البصريّة بحضور الجسد الإنسانيّ كثيمة جوهريّة من خلال جسد الدمية بكلّ محمولاتها التعبيريّة والدلاليّة، أو من خلال لغة منطوقة لاستكمال رسالة العرض، منذ معرضيْها الأولييْن: “مسرح دمى” و”بلا بشارة”
>
|نصر جوابرة|
تؤشر تجربة النحاتة الشابة رندا مدّاح، ابنة الجولان المحتلّ، على عمق الانتماء لوطنها سوريا، ليس كجغرافيا فقط، بل كحاضرة تاريخية شهدت أولى إرهاصات فنّ النحت على أرضها منذ الألفيّة العاشرة قبل الميلاد، وتؤكد تجربتها الفنية على إصرار المرأة العربية على خوض غمار هذا النسق الفنيّ –النحت- بكلّ ما يكسوه من مخاطر ومتاعب وجهد وبكلّ ما يمتلكه من ممكنات تعبيرية وجمالية، بهدف إيصال رسالتها الفكريّة، مرتكزة على الجسد البشريّ وحضوره كبنية مشهدية وعلامة ومادة للتعبير في سياق بحث معاصر في الفضاء، كمُكوّن أساسي وفاعل في صياغة المنجز النحتيّ.
الفضاء النحتيّ كبنية مشهديّة
تقترب تجربة مدّاح من حيث المعالجة لموضوعاتها النحتيّة من فنون التجهيز في الفراغ، والتي تتجلّى في شروط العرض، سواءً من حيث حجم كتلها النحتيّة المُشيّدة من مادة البورسلان وإشغالها لفضاء القاعة من أرضية وأسقف وجدران، أم من حيث طريقة التنظيم التي توفر علاقة تفاعليّة ما بين المتلقي وعناصر العرض
يشكّل الفضاء نسقًا إظهاريًّا فاعلا في تحقق المنجز النحتيّ، سواءً أعلى صعيد الجنس كنحت جداريّ يستمدّ حضوره وإظهاريته من خلال علاقته كمسند على الجدار، أو نحت مدوّر يشترط الفضاء كمُكوّن فيزياويّ يشكل تفاعله مع الكتلة النحتية شرطًا أساسيًّا في ذلك الإظهار وتحقق الأثر النحتيّ، وعلى وجه الخصوص البنى المشهديّة-الدراميّة للمنجز النحتيّ المدوّر، والتي تأسّست في الكثير من تمظهراتها كنظائر وتجليات إنجاز لأنساق تعبير مجاورة كالأسطورة مثلاً بوصفها نسقًا أدبيًّا، إذ اتّسعت طاقة النحت التعبيريّة في الحضارات القديمة لتجسيد نصوص الأسطورة بما حوته من شخوص وكائنات شيّدت بنًى دراميًّة وحدثيًّة جسّدها النحات القديم لأكثر لحظات الأسطورة أهميّة، أو محاولة محاكاة النحت المدوّر مؤخّرًا للفنون التشكيليّة المجاورة في ما بات يُسمّى بالحداثة العليا (High art) واتجاهاتها كفن البوب (Pop Art)، حيث النحت ما فوق الواقعيّ (Superrealism)، كأعمال الفنان George Segal الذي جسّد محاولة لإعادة انتاج الحقيقة بدقّة تضاهي آلة التصوير وما تمخّض عنها من إنجازات نحتيّة لأشكال بشريّة مُمَسْرَحة فتحت الفضاء النحتيّ لتسجيل مشاهد وثائقيّة من الحياة اليوميّة للمدينة في لحظات آنية اختارها الفنان، وأخيرًا انصهار فنّ النحت مع أحد أشكال الفنون البصريّة الما بعد حداثيّة، وهي فنون التجهيز (Installation art) التي تشترك مع المنتج النحتيّ بعلاقتهما التلازميّة مع الفضاء كشرط لتحققهما.
تقترب تجربة مدّاح من حيث المعالجة لموضوعاتها النحتيّة من فنون التجهيز في الفراغ، والتي تتجلّى في شروط العرض، سواءً من حيث حجم كتلها النحتيّة المُشيّدة من مادة البورسلان وإشغالها لفضاء القاعة من أرضية وأسقف وجدران، أم من حيث طريقة التنظيم التي توفر علاقة تفاعليّة ما بين المتلقي وعناصر العرض، والتي ربما فرضته موضوعاتها النحتيّة منذ معرضها الأول “مسرح دمى” في قاعة “جاليري المحطة” في مدينة رام الله عام 2008، حيث انشغالها بتجسيد هياكل نحتيّة تحاكي دمًى في فضاء عريض يقترب من فضاء العرض المسرحيّ، يسجّل لحظة سكون تلك الدمى المشدودة إلى حبال تصل إلى أسقف القاعة، وكأنّها لحظة إقفال للعرض.
الدمية كجسد: مقاربة سيسيو-إنثروبولوجية
بقراءة تأويليّة لفكرة الدمية بوصفها جسدًا في تجربة مداح النحتيّة، تتجلى ثنائية الحضور/ الغياب بالارتكازعلى فرضيّة ومنطق الأنثربولوجيا الثقافية، الذي يرى الدمية والقناع في سياق اللاوعي الجّمعيّ كمعادلات طقوسيّة للجسد الإنسانيّ، وعلى سند فلسفيّ يرتكز على مقاربة تأويليّة لفكرة المضحك في الرؤية (البرغسونية) -المضحك كفعل وممارسة مسرحية والمضحك كقرين للنحت وكفعل يشترط الإنسانيّ أيضّا- بالإضافة إلى القراءة التاريخية لنشأة الدمية في الممارسة المسرحية كحالة استدعاء دائمة لفكرة الجسد الانسانيّ. كلّ ذلك يدفعنا إلى استبعاد أيّ تناظر سطحيّ محاكاتيّ لأعمال الفنانة مع المسرح كنسق معرفيّ وجماليّ، بقدر ما يمثل المسرح وعناصره في عملها هذا حالة استحضار واعٍ مُحمّل بدلالات وأنظمة تعبير لا تخلو من بُعد تهكّميّ مُبطّن ناقد وساخر، يعكس الواقع الإنسانيّ المُعاش.
على هذا التأسيس، تنفتح القراءة التأويليّة لنصوص مداح البصريّة بحضور الجسد الإنسانيّ كثيمة جوهريّة من خلال جسد الدمية بكلّ محمولاتها التعبيريّة والدلاليّة، ابتداءً بآليات اشتغالها في فضاء المسرح بالاعتماد على محرّك خفيّ يرسل إشارات ودلالات تكشفها فصاحة الجسد-الدمية، أو من خلال لغة منطوقة لاستكمال رسالة العرض، بما يسمح لنا بتلخيص تجربتها منذ معرضيْها الأولييْن “مسرح دمى” و”بلا بشارة”. كأنّها إعادة إنتاج لصورة الجسد في المنظومة الفكرية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبمقاربة أنثروبولوجية ذكيّة تؤكّد ارتهان الجسد الإنسانيّ لتلك السياقات كمستقبل، لا كمنتج فقط، تأسيسًا على المنظور الما بعد بنيويّ في القراءة الأنثروبولوجيّة والمتجّسدة في أطروحة ميشيل فوكو التي ترى في الجسد ظاهرة عبر-ثقافيّة وعبر-تاريخيّة يُعاد تشكيلها من خلال الخطاب، في إطار إعادة قراءته للعلاقة ما بين المعرفة والجسد والسلطة.
بمتابعة تجربة مدّاح النحتيّة بإمكاننا تتبع معالجة الفنانة لواقع الجسد الإنسانيّ، بوصفه موضوعًا لا ذاتًا فاعلة تحكمها إرادتها؛ فكما يرى شوبنهاور (أنّ حركات الجسد وانفعالاته هي ترجمة دقيقة لأفعال الإرادة)، تحيلنا دمى مداح المسكونة بالصمت في معرضها “مسرح دمى” إلى الإحساس بانكسار الجسد وهزيمته وعجزه، حيث أجساد مثقلة بالخوف والرعب… مسلوبة الإرادة، لا تقوى على الحركة، في حين رفعت الفنانة من مستوى الطاقة التعبيريّة لشكل الدمية من خلال تبنّيها للمعالجات التشكيليّة لا الحركة فقط، كما بدا ذلك واضحًا في معرضها الثاني “بلا بشارة”. فالمعرض يحيلنا إلى مشهد ملحميّ مشحون بدلالات وقيم تعبيريّة، تبثها شظايا أجساد بشريّة متناثرة: جسديْن مشوّهيْن لطفل وامرأة؛ زوجيْن ملتحميْن؛ رأس امرأة ويدين تحمل رأسًا، عكست في مجملها واقع المراقبة والممارسة القمعيّة والقهريّة على الجسد الإنسانيّ.
تترسّخ المقاربة الأنثروبولوجيّة في أعمال مدّاح الأخيرة، والتي اقتربت في معالجتها البصريّة بشكل أكبر من الفن الانشائيّ-التركيب النحتيّ (Sculpture Installation) من حيث توظيفها لعنصريِّ الإضاءة والصوت؛ الأول نفذته الفنانة في قاعة مركز خليل السكاكيني في مدينة رام الله عام 2011 وأسمته داخل المساحة، وتكوّن من 106 قطع من القطع النحتية صغيرة الحجم لا يتعدّى ارتفاعها 12 سم اقتربت من حيث المعالجة من أشكال الدمى النذريّة في فنون الشرق القديم، وضعتها في مساحة صغيرة على صفيح مربّع الشكل من الألمنيوم وباستخدام الإضاءة المسلّطة على المساحة، وعملها الآخر “بلا عنوان”، والذي تكوّن من مجموعة قطع نحتيّة من الجبس المعتق لأجساد جنود صغيرة الحجم أيضًا، عُلّقت بحبال إلى سقف القاعة.
تؤشر تجربة مداح النحتية إلى مستوى عالٍ من الإحساس الإنسانيّ والنّضج الفكريّ في تناول موضوعة الجسد الإنسانيّ، ضمن استعارات ومجازات بصريّة واعية، واستثمارات ذكيّة لما آلت إليه الفنون البصريّة اليوم
يناور الجسد-الدمية في كلا المنجزيْن ليشكّل حضورًا مخالفًا لتلك العلاقة التاريخيّة المتأسّسة على الموت والتصفية والفناء وفعل الإقصاء، في سياق العلاقة الجدليّة ما بين الجسد والسلطة، وكأنّ الفنانة تعيد قراءتها للجسد من منظور أنثروبولوجيّ أيضًا وبنسخته الأكثر معاصرة وبمقاربة تستدعي المنطق الفوكويّ في سياق تأصيله لتلك العلاقة المتأسّسة على المعرفة ضمن مقولاته ومفاهيمه المركزيّة: التشريح السياسيّ للجسد والبيولوجيا السياسيّة للسكان بوصفهما تقنيات معاصرة تمارسها السلطة في إطار الهيمنة على الجسد، حيث مساحة مكتظة بالأجساد-الدمى، ممسوخة الملامح، ومتشابهة في البنية، تحترم المساحة ولا تقوى على الحركة، وكتلة من الجنود المشدودة بحبال إلى سقف القاعة بدت كدمى منضبطة في وقفة عسكرية تستحضر ما يمكن تسميته بمأسسة الجسد، وهذا ما تؤكّده مدّاح في معرض تعليقها على عملها الأخير: “الفرد في المنظومة الاجتماعيّة ليس إلا رقمًا، لا يحدّد أو يختار علاقته الأضمن مع تلك المنظومة؛ لا قيمة ولا دور له خارج إطارها.. هي منظومة الجيش التي أفسدها الحاكم.”
تؤشر تجربة مداح النحتية إلى مستوى عالٍ من الإحساس الإنسانيّ والنّضج الفكريّ في تناول موضوعة الجسد الإنسانيّ، ضمن استعارات ومجازات بصريّة واعية، واستثمارات ذكيّة لما آلت إليه الفنون البصريّة اليوم، وما منحته للفنان من حرية في التعبير والطرح خارج المفاهيم التقليديّة للعمل الفنيّ والنحتيّ، على وجه الخصوص. وتقدّم الفنانة منجزًا إحضاريًّا ناقدًا لواقع الجسد الإنسانيّ وخطابًا قابلا للقراءة المتعدّدة ضمن اشتراطات حضور الجسد في جميع مستويات الوعي، وإن كان الجسد السياسيّ هو التفسير الأقرب تأسيسًا على مستويات القهر والقمع الممارسة على كينونته كمادّة، وكأنّ لسان حال الفنانة يقول إننا دمى على خشبة مسرح.
(د. نصر جوابرة فنان وباحث وناقد تشكيليّ من فلسطين)
.
.
.