أزمة ثقة/ ليانة بدر
هناك أزمة ثقة بين المثقفين والسّلطة… وغياب هامش الحرية المطلوب كي يتحرك المثقف بداخله، وقلة ثقة تواجه بها السّلطة المثقفين، بحيث تهمّشهم وتغيّبهم عن الصّورة العامة
أزمة ثقة/ ليانة بدر
.
|ليانة بدر|
حفل هذا الأسبوع بمظاهرات احتجاجية قام بها فنانون ومثقفون وصحافيون وكتاب من شتى أنحاء فلسطين، توزعوا بين الاحتجاج على اعتقال الصّحافي يوسف الشايب، وبين التظاهر أمام المقاطعة للاحتجاج على عدم كشف قتلة جوليانو خميس، الفنان المسرحي الرائد الذي اغتيل ببساطة وببرود دمّ كامل، من دون أن يجريَ أبداً كشف من قام بالجريمة التي شهدها مخيم جنين قبل عام كامل.
هذا يعني أنّ هناك أزمة ثقة بين المثقفين والسّلطة. وهذا يعني، أيضاً، غياب هامش الحرية المطلوب كي يتحرك المثقف بداخله، كما يعني قلة الثقة التي تواجه بها السّلطة المثقفين بحيث تهمّشهم وتغيّبهم عن الصّورة العامة، في الحين الذي تسارع فيه إلى اعتقالهم لدى أول بادرة سانحة.
يوسف الشايب صحافي أبلى في حقل الثقافة سنوات طويلة، وواصل تطوير نفسه ومواهبه بما لا ينكره أحد، وعمل بدأب وبطاقة عالية تُشهد له على تغطية معظم الفعاليات الثقافية الفلسطينية، ونشرها عبر منابر متعدّدة. لقد أتى اعتقاله ليشكل وصمة في جبين النظام السّياسي الفلسطيني لأنّ هذا يسجل سابقة لاعتقال أيّ صحافي وبسرعة قلّ نظيرها. كما أنّ اعتقال من يعلقون على “الفيس بوك” مهما كان ما كتبوه يمثل انجراراً للنظام السياسي لكي يتمثل الأنظمة الشمولية التي تكبت حرية الرأي لديها. ولننتظر منذ الآن فصاعداً طوابير جرارة تتوافد على السّجون، إن كانت التعليقات على حوائط الكترونية معياراً للمحاكمة.
أما في حالة الشايب، فإنه لا يوجد أيّ قانون في فلسطين يبيح اعتقال الصحافيّ على ذمة التحقيق، وإنما كان يمكن إصدار بيان من المؤسّسات المعنية التي وُجهت الاتهامات إليها في تقريره لتوضيح الحقائق الضرورية، إضافة إلى إمكانية القيام برفع دعوى قضائية من المتضرّرين. نعم، لقد كان مقاله مليئاً بالاتهامات الباطلة التي لم نعهدها منه سابقاً، ومنها تخوين شهيد عُرف بوطنيّته العالية على لسان أطراف غير موثوقة، لكن هذا لا يعني اقتياده مخفوراً إلى السّجن، وكان أولى أن تُتخَذ خطوات أخرى لا تجعل اعتقاله مثل أيّ سارق أو مجرم من دون النظر إلى معنى وظيفته الصحافية وخصوصيتها.
لقد هُدر دم الفلسطيني جوليانو خميس الذي أسكن عائلته في مخيم جنين ووثق بأنه في خير حِمى، كما تم التخلص منه بغمضة عين، وبطريقة بربرية لا تشبهها إلا طرق العصابات المافياوية، وحتى الآن لم يعلن عن نتائج واضحة أو تحقيق محدّد يوجه المسؤولية للمجرم. كان الأولى أن تعلن نتائج التحقيق بطريقة علنية، وأن لا يتم تغييب الموضوع بدعوى عدم اكتشاف قاتل محدد في الحين الذي يتهامس فيه المخيم بكامله عما جرى ومن كان متهماً بما جرى.
لقد قامت الثورة الفلسطينية على مدار سنواتها الطويلة باحتضان مثقفين وفنانين وأدباء عالميين ساهموا في العمل داخلها، وكانوا جزءاً منها، وبالتالي أسست تقليداً رفيعاً بحماية من يعملون معها ومن أجلها. وفي حالة جوليانو، ابن القائد الفلسطيني البارز صليبا خميس، وابن الناشطة الشجاعة آرنا خميس التي قامت بتأسيس مسرح “الحجر” في أعقاب الانتفاضة الأولى في جنين، فقد كان من الضروري حمايته على الأقل في موته، عندما لم تتمكن السلطة من حمايته في حياته، وذلك باكتشاف قتلته والإعلان عنهم. كان هذا ضرورة ما بعدها ضرورة للثقة في عدالة النظام الفلسطيني، وعزمه على تحقيق الأمان للفنانين والمتطوعين في المخيم، هؤلاء الذين يعيشون على حافة الرعب المتواصل.
أليس من واجب السّلطة أن تتابع مسألة اكتشاف القتلة، وأن لا تغفل المتابعة ليمرّ قتل الفنان العبقري وكأن شيئاً لم يحدث. وفي هذا ما يبتعد عن تقاليدنا الثورية التي أرستها سنوات طويلة من النضال!
هل نريد مسرحاً، أم نريد رعباً متسلسلاً مع العاملين في الفنون كافة؟
هل نريد صحافة حتى لو أخطأ أحياناً بعض أهلها، أم نريد حجْراً على الرأي والتعبير؟
لو صحّت النية، ويجب أن تصحّ، فيجب تأسيس نقابات مهنية قوية تقوم بالتحقيق في الشكاوى وفي التعامل معها، لكي لا يعامل أصحابها مثل المجرمين الاعتياديين.
أزمة ثقة عالية يشهدها الطرفان: المثقفون والسلطة. والشعب يريد حلاً يحفظ للجهتين الحقوق والهيبة والكرامة من دون قمع أو عسف.
(يُنشر بالتزامن مع “الأيام” الفلسطينية”)