الضحك باعتباره حالة مقاومة: المصريّون نموذجًا/ محمود عمر
يمكنني أن ألخّص ما حدث بكلمات قليلة: لقد ابتسم المصريّون بعد أن كانوا يضحكون في جلسات خاصّة وبصوت منخفض، ضحكوا معًا، علنًا، وبصوت عالٍ!
الضحك باعتباره حالة مقاومة: المصريّون نموذجًا/ محمود عمر
>
|محمود عمر|
«واجب من يريد الخير للبشريّة أن يجعلها تضحك من الحقيقة، وأن يجعل الحقيقة تضحك فيتحرّر الانسان»
(أمبرتو إيكو، “اسم الوردة”)
أنتِ جادة جدًا، لا يمكنني تخيّل شخص يتبنّى قضيّة يؤمن بعدالتها، ويمشي بين الناس بوجه تحتلُّ الكآبة قسماته؛ ليس هذا الانطباع الذي يجدر بك إعطاؤه للآخرين. لقد كنتُ هكذا، مثلكِ، أصرخ كثيرًا وأقضي وقتي إما في التعبير عن الغضب والجديّة، أو في تهيئة نفسي للقيام بذلك. أنظري إلى مصر، ما الذي حصل هنا؟ كان المصريّون يعيشون في عالمهم المغلق والمحكوم بالزحمة ورداءة الوقت، في الحافلات الضيّقة، في العمارات التي تمتاز بفارق شاسع بين خارجها وداخلها، في العشوائيّات وفي الريف.. وفجأةً خلعوا مبارك بطريقة مذهلة. طرأ شيء ما، في الهواء أو في الماء أو في تركيبة الفرد الذهنيّة فأدّى لهذا الفيضان البشريّ الهادف. يمكنني أن ألخّص ما حدث بكلمات قليلة: لقد ابتسم المصريّون بعد أن كانوا يضحكون في جلسات خاصّة وبصوت منخفض، ضحكوا معًا، علنًا، وبصوت عالٍ!
لم أكن أعتقد أنّ الكلام الذي كنت أقوله لتلك الصديقة الأميركيّة-الفلسطينيّة في قهوة البورصة -أحد مقاهي وسط البلد بالقاهرة- هامّ إلى درجة أنني سأعيد تذكره لأبدأ به هذا المقال عن الضّحك. كنت، في الحقيقة، أحاول أن أهدّئ من روعها أو أن أمتصّ غضبها (من الرّاهن الفلسطيني) لأستطيع الاستمتاع بهدوء بفنجان الشاي الذي ينتصب أمامي على الطاولة. تبيّن بعد تسلسل أحداث وقراءات تلت حديثي ذاك أنني كنت، فعلاً، أقول شيئًا هامًا له منابعه في الفلسفة والسّياسة والتاريخ. أفكار قيّمة قد تخرج من رأسك وأنت تحاول تهدئة صديقة لك من أجل أن تستمع بفنجان شاي؛ أليس ذلك، في حدّ ذاته، مضحكًا؟
يعرَّف الضحك في المعاجم الانجليزيّة على أنه “إحداث ضجّة باستخدام الصّوت للدّلالة على الاعتقاد بأنّ حدثًا ما مَدعاة للفرح”، أو أنّه “التعبير عن مشاعر معيّنة، غالبًا ما تكون متعلّقة بالرّضا والسّرور، على شكل سلسلة من الأصوات العفويّة المرتبطة غالبًا بحركة في الأطراف والوجه”، بينما يُعرّفه “لسان العرب” بأنّه “ظهور الثنايا من الفرح”. والضّحك عند العرب على مراتب: التبسّم ثمّ الافترار والانكلال ثمّ الكتكتة ثمّ القهقهة والقرقرة والكركرة، ثمّ الاستغراب ثم الطخطخة ثم الإهزاق، وهي أن يذهب الضحك بصاحبه كلّ مذهب.
في مجال البحث عن علّة الضحك تبرز مدارس عدّة؛ في القديم منها جنح الفلاسفة لتفسير الضّحك على أنّه سخرية من الطبقات الدنيا، أو كحالة حوار مستتر مع الذات. أمّا في المتقدم فتعدّدت الآراء؛ هيغل يرى أنّ الضحك “ينشأ نتيجة لوجود التناقض بين المفهوم والمعنى الحقيقي الدفين الذي يقدّمه هذا المفهوم”، ويؤكّد كيركجارد، بطريقة أو بأخرى، على ذلك فيقول: “حيث توجد حياة يوجد تناقض، وحيث يوجد تناقض، يكون المضحك موجودًا”، بينما يعبّر شوبنهاور عن ذلك “التناقض” بمفردات أخرى على شاكلة “العبور/ الوصول” فيقول: “الضّحك شبيه بقياس منطقيّ تكون القضية الكبرى فيه مؤكدة، ويتم الوصول إلى القضية الصغرى فيه، إلى حدّ ما، من خلال الحيلة أو المغالطة، وتكون نتيجة هذا التركيب بين القضيتين هي الضحك”، وهو الأمر الذي نجده مطبقًا في تصرّفات سقراط الذي كان يتجوّل في الأسواق ويطرح أسئلةً تبدو تافهة، كي يصل من خلال ما يتلوها إلى “اليقين السّرمديّ”.
فرويد فسّر الضحك، كما فعل مع الأحلام، ضمن تأثير القوى الليبيديّة. يقول عن الضحك بمنطق يقترب من الأبيقوريّة بأنّ الضّحك “ينشأ من رغبة مكبوتة في اللاوعي يتحوّل بموجبها آلية دفاعيّة لمواجهة العالم الخارجي المهدّد للذات ويجعل من طاقة الضيق شعورًا بالمتعة التي هي ذات طبيعيّة”. الناس تضحك لتدافع، لتسخر، لتتحمّل، لتستطيع المواصلة. بكلمة أخرى: لتقاوم. هذا هو ما لم يفهمه مالدورور -الشخصيّة التي خلقها لوتريامون في أناشيده- عندما وجد أنّ الناس يضحكون، فأمسك سكينًا وقطع زاويتي شفتيه.
ولأنّ الضحك حالة مقاومة إبداعيّة تسعى بالضرورة للاشتباك مع السلطة فلقد حورب قديمًا وحديثًا. أفلاطون في معرض حديثه عن جمهوريّته الفاضلة كان يحذّر من الضّحك وينفّر منه لما له من “قوّة هائلة على تحويل خيوط الدفاع القويّة للسلطة إلى مجرد أبنية هشّة”. جاء الغزالي بعد قرون عديدة ليسهم في بناء السدود أمام الضحك بقوّة فاقت أفلاطون فحرّم، من دون أيّ سند دينيّ حقيقيّ، الضحك يوم العيد و”جعل عقابه هولاً من أهوال يوم القيامة”، ولم يكتفِ بالمضمار اللاهوتي بل تعدّاه إلى اللغوي فشرح أنّ المزاح سمّي كذلك لأنه “أزاح صاحبه عن الحق”.
في مصر، البلد الذي ما أن يذكر “البحر” فيها حتى يبرز سؤال: “بيضحك ليه؟”، كان المزاح (الألش باللهجة المصريّة) سلاح الشعب السرّي. على مدار عقود من الفساد والإهانة والعيش في اغتراب داخل الوطن صبّ المصريون جام غضبهم على الواقع، والسّلطة، نكاتًا و”إفّيهات” تبادلوها في المواصلات وجلسات السّهر وقاعات المحاضرات. لم تختلف نزعة المصريين “الضاحكة” عمّا لجأ إليه المضطهدون على مدار التاريخ؛ اليهود –كنموذج تاريخي لذلك- عرف عنهم الاستعانة بالنكات لتخفيف ثقل الواقع الأوروبي عليهم حتّى شاع عن اليهودي بأنه “يضحك كي لا يبكي”.
خرج ذلك السّلاح، سلاح الضحك، إلى العلن في ثورة الخامس والعشرين من يناير. لقد كان ميدان التحرير، وميادين السويس والإسكندريّة وباقي المدن المصريّة، مساحات لعرض مسلّح بالضحك. تجلّى ذلك في الشعارات “يا سوزان صحّي البيه، كيلو العدس بعشرة جنيه”، وفي اللافتات التي رفعت في الميدان: هتمشي هتمشي؛ بس انجز عاوز أروح أحلق؛ إرحل؛ الوليّة عاوزة تولد والولد مش عاوز يشوفك، إرحل؛ مراتي وحشتني- ده لو كان عفريت كان طلع!- إرحل يا تِنح، والعشرات من الشعارات والتعبيرات والفعاليات (“الراجل الي واقف ورا عمر سليمان” مثالاً) والرّسومات الأخرى التي دارت الغالبيّة العظمى منها في فلك السخرية من السلطة بشخوصها وفكرتها واستدعاء الضحك كثابت في المشهد الثوري لبلد بأسره.
اليوم، وبعد مرور أكثر من عام على هبّة المصريين، لا يزال الضّحك سلاحًا مُشهَرًا في وجه أعداء الثورة؛ الفلول والمجلس العسكري ومن لفّ لفهم من قوى “الثورة المُضادّة”. بلوفر شفيق (السّخرية من ملابس أحمد شفيق آخر رؤساء وزراء مبارك)، الفيديوهات المركبة لجلسات مجلس الشعب المصري، النكات السّاخرة التي تتلو أيّ تصريح مُسيء للثورة من شخصيّة سياسيّة مهما علا شأنها؛ كل تلك أمثلة واضحة على ذلك.
في أحد المرّات التي تواجدتُ فيها في ميدان التحرير العامر بأهله، أتأمّل، بكل معنى الكلمة، وجوه النّاس وابتساماتهم، لم أستطع إلا أن أفكر بأن المصريين لم يقوموا بواحدة من أكثر الانتفاضات سحرًا وعبقريّة فحسب، بل وفعلوا ذلك، في تجربة فريدة من نوعها عبر التاريخ، فعلوا ذلك.. ضاحكين.
للمزيد حول الضحك، راجعوا:
- الفكه في الإسلام، ليلى العبيدي.
- سيكولوجيا الضحك والفكاهة، زكريا إبراهيم.
- الفكاهة والضحك، شاكر عبد الحميد.
7 يونيو 2012
I’m keeping my fingers crossed for you mys son Good luck…….love you