التناويح الفلسطينية، الرثاء الجميل/ رشا حلوة
في فلسطين، تشكل التناويح جزءاً من الموروث الشعبي الثقافي والموسيقي. هي مرتبطة في مضمونها وقصصها مع المراحل التاريخية للشعب الفلسطيني، تُسرد من خلال قصائد مغناة بألحان على مقامي صِبا وبيات الموسيقيين.
| رشا حلوة |
كانت أول جنازة أحضرها لجدي “أبو تامر”، مواليد قرية إقرث. عندها سمعت التناويح لأول مرة، بصوت جدتي سلمى. لم تحترف جدتي يوماً غناء التناويح، لكنها
بعد وفاة أخيها الأصغر وهو في الثامن عشر من عمره بسبب مرض السرطان، استولى الحزن على حياتها. صارت في جنازات الأقارب، تغنّي على الأقل مرة واحدة كمشاركة منها في الحزن.
التناويح، هو الإسم المعطى لأغاني الرثاء الشعبي في بلاد الشام. الكلمة مشتقة من “نوح” (ناح ينوح نوحاً ونُواحاً ونياحاً ونياحةً ومناحات)، فيقال ناحت المرأة الميتَ وعلى الميت، أي بكت عليه بصياح وعويل وجزع. لطالما كان لوداع الميت على مرّ التاريخ، طقوس متنوعة بحسب الحضارات، من أهم عناصرها رثاءه بالكلمة واللحن. تمسك القدماء باللحن والكلمات كوسيلة تُسهّل التعبير عن الحزن والغضب والفقدان.
في فلسطين، تشكل التناويح جزءاً من الموروث الشعبي الثقافي والموسيقي. هي مرتبطة في مضمونها وقصصها مع المراحل التاريخية للشعب الفلسطيني، تُسرد من خلال قصائد مغناة بألحان على مقامي صِبا وبيات الموسيقيين. بالإضافة إلى عنصر الموت والفراق، نجد في القصص التي ترويها كلمات التناويح القديمة مشاهد العودة من المعركة، مشاهد من النكبة والتهجير، ومشاهد يحضر فيها الشهيد بقوة.
تنقسم ثيمات التناويح الفلسطينية بشكل أو بآخر إلى قسمين؛ الأول يعتمد على وصف صورة أو مشهد أو قصة، مثل تنويحة “طلّت البارودي” التي تبدأ بـ:”طلّت البارودي والسّبع ما طلّ/ يا بوز البارودي من دمه مبتل”. تصف هذه التنويحة المشهد الذي يظهر فيه سلاح المقاتل على الخيل (الحمرا) من دون صاحبه، بإشارةٍ إلى أن المقاتل المنتظر قد مات.
أما القسم الثاني، فهو عبارة عن نصوص شعرية تُحكى على لسان أحد أفراد عائلة وأقارب الفقيد، موجهة له وترتبط بعلاقة هذا الفرد معه. ثمة كذلك نصوص تلقى وكأنها تُقال على لسان الميت نفسه. هذه التناويح ليست مرتبطة بفترة زمنية أو بمرحلة تاريخية معينة، بل تعكس مشاعر وجودية عميقة الحزن، منها على سبيل المثال: “عتابا عتبنا وأنا شبيب/ يا جرحي حيرت الحكام وأنا شبيب/ يا ربي ما خلقت علة بلا دوا إلا علة الفراق”. أو “فصلولك يا يابا ثوبن ع طولك/ وإنت الشمع والبخور يلبق على طولك/ تمنيت يابا طول العمر الضنا ما يطولك/ وتمنيت عشرتك ع طول المدى”. مع تنوّعها، تحدّد أي التناويح تغنّى في الجنازات بناءً على جنس الميت وجيله وحالته الاجتماعية.
النساء والتناويح في طقوس الجنازات
قد تُكتب التنويحة باللهجة العامية على يد رجال ونساء، لكنها تُغنى فقط بأصوات النساء خلال طقوس الجنازة وأثناء إحضار الميت بالتابوت لتوديعه. خلال فترة الوداع هذه، وانتقال الميت من فوق الأرض إلى تحتها، تحضر امرأة أو أكثر يتبادلن الأدوار في الغناء، بينما تقوم باقي النساء في الجنازة بالرد من ورائهن. جرت العادة أن تُستخدم في الطلب جملة: “تعالي قولي على فلان”.
“أم جريس” امرأة في الخمسين من عمرها التقيتها في جنازة عمي الأكبر. تأثرت بكمية التناويح التي تحفظها، وبصوتها المتسم بالحزن. عرفت فيما بعد بأن حزنها الخاص المضاف على حزن التناويح، نتاج مأساة شخصية. فقدت أم جريس زوجها منذ سنوات عدّة وربّت أولادها الثلاث وابنتها لوحدها. كانت قد حفظت التناويح من والدتها منذ أن كانت في السادسة من عمرها. لكنها لم تحترف هذا النوع من الغناء إلا حين مات والدها وقامت بغناء التناويح عليه بناءً على وصيته، إذ سألها مرة: “شو بدك تقولي عليّ يا يابا لما أموت؟”.
تتمتع أم جريس بصوت جميل وحنون ذو طبقة حزينة. في الجنازات، تحمل مجموعة من الأوراق كتبت عليها التناويح كي لا تنسى شيئاً. لكلّ حالة أغاني رثاء خاصة بها. تغنّي أم جريس التناويح القديمة التي حفظتها من والدتها ومن نساء أخريات، لكن ما يميزها، هي قدرتها على تبديل بعض كلمات التناويح القديمة، بحيث تلائم واقع اليوم نوعاً ما، مع الحفاظ التام على اللحن. بالإضافة إلى قدرتها على تحويل أغانٍ ومواويل لفيروز ووديع الصافي وسميرة توفيق وفهد بلان وغيرهم إلى تناويح، متأثرة تماماً بالألحان العراقية، تقتبس أم جريس نصوصاً تلائم البكائيات من “الكتاب المقدس”، وتقوم بتلحينها حسب اللحن البيزنطي السادس.
تؤمن بأنّ غناء التناويح في الجنازات تعبير عن رسالة محبة ومشاركة بالعزاء، وأنّ إبكاء النساء هو أمر مهم وضروري، وتعتبر أن الذين يطلبون التناويح في الجنازات اليوم كثر، وتراثه ما يزال حيّاً، غير أنّ عدد النساء اللواتي يقمن بهذه المهمة بات صغيراً جداً اليوم.
في الحقيقة، بدأت التناويح بالاختفاء تدريجياً من طقوس الجنازات في فلسطين منذ سنواتٍ ليست بقليلة، وذلك لأسباب عديدة منها قلة النساء اللواتي يجدن غناءها. ولكن العنصر الأبرز لهذا التغيير يعود إلى أن طقوس الجنازات أصبحت تأخذ طابعاً أكثر تديناً، فحلّت مكان التناويح تلاوة القرآن أو الترانيم الكنسية. تحتوي نصوص التناويح على العديد من الأسئلة الموجهة إلى الله أو إلى المجهول، ما يجعلها تُصنف اليوم على أنها “نصوص كافرة”، مثل جملة “كنو من العبد مجازاته على الله”. مع ذلك، لا زالت بعض العائلات تدعو النساء اللواتي يغنين التناويح لحضور الجنازات، لما تملكه من قدرة على التعبير عن الحزن وعلى الإبكاء.
21 ديسمبر 2013
بحث حلو ومتكامل وأول مرة بقرأ بحث عن التناويح الفلسطينية بهذا التفصيل … شكرا لك وتمنياتي لك بالتوفيق ولدت خارج فلسطين بعد النكبة بقليل ، عرفت جزءا من هذه التناويح بمناسبات متعددة … سمعتها من أمي أول مرة .. كنت في الابتدائي حين عدت يوما من المدرسة فسمعت نواحها من الشباك … رأيتها تضم أختي الصغيرة الميتة الى صدرها وتنوح بكلمات لا أذكر منها الا ألما كألم خنجر في القلب ومغص في الخاصرة…. سمعت تناويحا من جداتي وجاراتنا وأمهات الشهداء والمفقودين وعلى أبواب المستشفيات واجهزة الأمن … في زيارات القبور وذكرى النكبات المتتابعة والفراق الذي ليس فيه أمل للقاء …كانت تبكينا بحرقة على قدر ألم الكلمات المنشودة أو تعابير الحزن المرسومة على الوجوه…شكرا مرة أخرى
11 ديسمبر 2013
التناويح الفلسطينية شديدة الشبه بالعديد و النواح المصري علي الموتي و تن كانت قد قلت كثيرا -حاليا - بالواقع المصري