مفاهيم أساسية في نظرية لاكان للتحليل النفسي/ هشام روحانا (1)
تعريف بمفاهيم لاكان النظرية، في سياق دعوته “للعودة إلى فرويد”، وفي سياق تطوّرها المفهومي لديه، وسيرورة تكوّن هذه المفاهيم في علاقاتها وتمايزاتها واختلافاتها مع نظرية فرويد نفسه، ومع نظريات التحليل النفسي اللاحقة لفرويد، وفي نفس الوقت مع الخطاب الفلسفي والألسني والأنثروبولوجي
مفاهيم أساسية في نظرية لاكان للتحليل النفسي/ هشام روحانا (1)
|ترجمة وإعداد: د. هشام روحانا|
أقدم في ما يلي وتباعًا على حلقتيْن، عرضاً للتعريف بمفاهيم لاكان النظرية، المستخدمة لديه في سياقها التاريخيّ، أي في سياق دعوته “للعودة إلى فرويد”، وكذلك في سياق تطوّرها المفهومي لديه هو. وأعني بهذا سيرورة تكوّن هذه المفاهيم في علاقاتها وتمايزاتها واختلافاتها مع نظرية فرويد نفسه، ومع نظريات التحليل النفسي اللاحقة لفرويد، وفي نفس الوقت مع الخطاب الفلسفي والألسني والأنثروبولوجي. من المتعارف عليه تفسير استعمال لاكان لأسلوب لغويّ معقد، وامتناعه عن تقديم محاضراته الشفهية لاحقاً على شكل نصوص مكتوبة، برغبته في فسح المجال لتأويلات وتفسيرات مختلفة وعديدة ممّا يقلل من إمكانية تحولها إلى عقيدة مغلقة ناجزة. إنّ هذا الأمر، بالإضافة إلى أسباب أخرى عديدة، يجعل مهمة التعريف الدقيق والنهائي لهذه المفاهيم مهمة مستحيلة. على هذا، من المفضل التعامل مع هذه التعريفات، كـ “أدوات عمل” فكرية، إن صحّ التعبير.
تُرجمت هذه المواد من كتاب “AN INTRUDICIONARY DICTIONARY OF LACANIAN PSYCHOANALYSIS” لمؤلفه Dylan Evans، حيث تزخر هذه النصوص باقتباسات من نصوص لاكان. عندها يُكتب الاقتباس بالحرف المائل والمشدّد بين قوسي الاقتباس ويليها مباشرة مصدر الاقتباس ويكون ذلك على شكل الحرفE ، ليشير إلى Ecrites (“كتابات” لاكان بترجمته الانجليزية)، أو على شكل Ec ليشير إلى النسخة الفرنسية الأصلية والتي لم تترجم بالكامل بعد، إلى الانجليزية، أو على شكل الحرفS للإشارة إلى “سمينار” (أي إلى سلسلة المحاضرات التي كان يلقيها لاكان كل عام على جمهور مستمعيه). يلي هذا الحرف مباشرة رقم الصفحة أو الرقم التسلسلي للسمينار ومن ثم رقم الصفحة. يجري في سياق النصّ تشديد (تسويد) مصطلحات محدّدة للإشارة إلى أنها أيضًا عناوين يجري بحثها على انفراد في هذا المعجم.
لقد تم اختيار المفاهيم المتعلقة بأنظمة لاكان الثلاثة: الرمزي، الواقعي والخيالي، لنبدأ بها وليتم مستقبلاً عرض مفاهيم أخرى.
نظام order ordre
على الرغم من أنّ لاكان كان قد بدأ باستعمال المصطلحات “رمزيّ” و”خياليّ” و”واقعيّ” في مرحلة مبكرة من حياته العملية، إلا أنه وفقط في العام 1953، يبدأ بالحديث عنها كثلاثة “أنظمة” أو ثلاثة “مستويات”. منذ ذلك الحين وصاعداً تتحوّل هذه المصطلحات إلى منظومة التشخيص الرئيسة، التي تدور حولها تنظيراته بمجملها.
يشكل الرمزيّ، الخياليّ والواقعيّ معاً، منظومة التصنيف الرئيسة التي تُمكِن من تحديد التمايُزات الهامة بين المفاهيم التي قد جرى، بحسب لاكان، خلطها سوية في نظرية التحليل النفسانيّ. يَدّعي لاكان مثلاً، أنّ عدم التمييز بين الأب الرمزيّ والأب الخياليّ والأب الواقعيّ شكّل مصدراً لفهم مشوّه داخل النظرية التحليلية. لهذا فإنّ لاكان يعتبر أنّ منظومته للتصنيف الثلاثي تسلط ضوءًا بالغ الأهمية على أعمال فرويد: ” إذا لم نعمل على ضوء هذه المنظومة الثلاثية، فسيكون من المتعذر علينا فهم شيء ما من تقنية وتجربة فرويد” (S 1,73).
يختلف كلٌ من الرمزيّ والخياليّ والواقعيّ فيما بينها اختلافا كبيرًا؛ فكلُ واحدٍ منها يُحيل إلى مظهر من مظاهر التجربة التحليلية، مختلفٍ جذريًا، ممّا يجعل من الصعب رؤية المشترك بينها. مع هذا فإنّ حقيقة كون لاكان يتعامل معها كثلاثة “أنظمة” تُشير إلى وجود صفة مشتركة ما. ويقوم لاكان بالبحث عن إجابة على هذا السؤال (ما المشترك بين الأنظمة الثلاثة؟)، بواسطة طوبولوجيا العقدة البوروميوية في سميناره لعام 1974-1975. ليست هذه الأنظمة بقوى عقلية كما في هيئات فرويد الثلاثة في النموذج المُسمّى البنيويّ، ومع هذا فإنها تتصل أولاً وقبل كلّ شيء، بأداء الوظائف العقلية وسويةً تقوم هذه الأنظمة بتغطية مُجمل حقل التحليل النفسي.
على الرغم من أنّ هذه الأنظمة تختلف اختلافا جوهرياً فيما بينها، إلا أنّ كلّ نظام يُعرَّف ضمن نطاق العلاقة التي يُقيمها مع كلا النظامين الآخرين. يظهر الاستقلال البنيوي للأنظمة الثلاثة في العقدة البوروموية، حيث أنّ تحرير واحدة من الحلقات الثلاث المُكوّنة للعقدة يؤدّي إلى تحرير الحلقتين الإضافيتين.
رمزي symbolic symbolique
يَظهر المصطلح “رمزيّ”، مُستعملاً كصفة، في كتابات لاكان المُبكّرة جدًا (Lacan, 1936). يُحيل المصطلح في هذه النصوص المُبكّرة إلى المنطق الرمزيّ ومعادلات الفيزياء الرياضية (Ec, 79). في العام 1948 يُصَرح بأنّ للأعراض “معنىً رمزياً” (E, 10)، ومع العام 1950 يكتسب المصطلح صبغة أنثروبولوجية، مثلاً عندما يقوم لاكان بكيل المديح لمارسيل موس (Mauss) لأنه أظهر أنّ “ بُنى المجتمع هي بُنى رمزية“Ec, 132) ).
تتّحد هذه التمايزات المختلفة في مقولة واحدة عام 1953، ليبدأ لاكان باستخدام مفهوم الرمزيّ كاسم علم، وليتحوّل هذا المفهوم عندها إلى واحد من الأنظمة الثلاثة، والتي يستمر لاكان في المحافظة على مركزيتها في أعماله منذ الآن وصاعداً. يضطلع النظام الرمزيّ من بين هذه الأنظمة الثلاثة بالدّور الحاسم في التحليل النفسي. فالمحللون النفسانيون هم ” مهنيون يزاولون الوظيفة الرمزية“(E, 72). عندما يتحدث لاكان عن “الوظيفة الرمزية” فإنه يُوضح بأنّ مفهومه للنظام الرمزيّ يدين بالكثير للأعمال الأنثروبولوجية لـ “ك.ل. شتراوس” (ومنها يتم تبني المصطلح “وظيفة رمزية”؛ للنظر: Levi-Strauss 1949a 203) ويستعير لاكان من شتراوس بالتحديد فكرة أنّ الوجود الاجتماعي يتخذ بُنيته بواسطة قوانين محدّدة تُنَظِم علاقات القُربى وتبادُل الهدايا (أنظر أيضًا: Mauss 1923). إنّ كلاً من مفهوم الهدية ومفهوم دائرة التبادل هما في صلب مفهوم النظام الرمزيّ للاكان (S 4,153-154,182).
بما أنّ المظهر الأكثر أساسية للتبادل هو التواصل في حدّ ذاته (تبادل الكلمات، هبة التكلمS 4,189 )، وبما أنّ مفاهيم مثل القانون والبنية لا يمكن تعقلهما من دون اللغة، فإنّ الرمزي من حيث الجوهر هو بُعدٌ لغوي. وبالتالي، فإنّ جميع الجوانب ذات البنية الرمزية في الممارسة النفس–تحليلية تخصّ النظام الرمزي.
على أنّ لاكان لا يساوي النظام الرمزي باللغة، في مساواة تبسيطية، لا بل على العكس؛ فاللغة تُشرك البعد الواقعي والبعد الخيالي إلى جانب بعدها الرمزي. البعد الرمزي للغة هو الدّالّ: لا تمتلك العناصر في هذا البعد وجودًا وضعيًا (positive existence) وإنما قيامها المحض محكومٌ بقوةِ الفارق المتبادل فيما بينها.
الرمزيّ هو أيضا مجال الآخروية (Alterity) الجذرية، والتي يسميها لاكان الـ آخر، واللاوعي هو خطاب هذا الـ آخر، ولهذا فإنه تابع للرمزيّ بالكامل. الرمزيّ هو مجال القانون الناظم للرّغبة في عقدة أُوديب. إنه مملكة الحضارة، بالضّدّ من النظام الخيالي التابع للطبيعة. وفي الوقت الذي يتميّز فيه الخيالي بالعلاقات الثنائية فإنّ النظام الرمزي يتميز بالبُنى الثلاثية. إذ أنّ مفهوماً ثالثاً دائماً ما “يتوسّط” في العلاقات البين- ذاتية، ألا وهو الـ آخر الكبير. النظام الرمزيّ هو أيضاً مجال الموت والغياب والنقصان. الرمزيّ هو أيضًا مبدأ اللذة، المتحكم بمسافة البعد عن الشيء. وهو أيضاً دافع الموت القادم من “ما بعد مبدأ اللذة” بواسطة التكرار (S 2,210) وفي الحقيقة فإنّ “دافع الموت ما هو الا قناعٌ للنظام الرمزيّ” (S 2,326).
يتمتع النظام الرمزيّ باستقلال ذاتيّ مطلق؛ فهو ليس بالبُنية الفوقية التي تحدّدها البيولوجيا أو الوراثة. إنّ علاقته بالواقعي علاقة اعتباطية بالمطلق؛” لا وجود لأيّ سبب بيولوجي وبالتحديد لأيّ سبب وراثيّ لتفسير الزواج خارج المجموعة (exogamy). وفي النظام الإنساني، نحن أمام أنبثاق كامل لوظيفة جديدة تشمل النظام بكامله وبالتمام“(S 2,29). لهذا، وعلى الرغم من أنّ الرمزيّ يبدو وكأنه “ينبثق من الواقعيّ” كمُعطى أوّليّ، إلا أنّ هذا ما هو إلا محض خدعة؛ ” يجب ألا نفكر بأنّ الرموز أتت حقيقةً من الواقعيّ“(S 2,238).
إن تأثير النظام الرمزي الشمولي والجامع للكل، يؤدّي بلاكان إلى الحديث عن الرمزي كعَالَم: ” في النظام الرمزي تُدعى الشمولية عَالماً. يحصل النظام الرمزي على صفته العالمية منذ البدء. ولا ينبنى رويداً رويدا. ففي اللحظة التي يظهر الرمز فيها هنالك عالم من الرموز“(S 2,29). لا وجود ها هنا، إذًا، للسؤال عن انتقال تسلسلي وتدريجي من الخيالي إلى الرمزي؛ فهما مجالان غريبان كليةً الواحد عن الآخر. وفي اللحظة التي يرتفع فيها النظام الرمزيّ، فإنه يخلق المعنى الذي كان فيه دائمًا إذ أننا ” نجد أنه من المستحيل كلية تخمين ما قد كان سابقاً له، من دون اللجوء إلى الرموز“(S 2,5). لهذا السّبب لا وجود عملياً لأية إمكانية للتفكير حول مصدر اللغة وكل ما كان قبلها، ولهذا فإنّ قضايا التطوّر هي خارج نطاق التحليل النفساني.
ينتقد لاكان التحليل النفساني المعاصر له، لأنه يتجاهل النظام الرمزي ويختزل جميع الأمور إلى الخيالي. من وجهة نظر لاكان ليس هذا سوى خيانة لاكتشافات فرويد الاكثر جذريةً : “أكتشاف فرويد هو هذا الأكتشاف لحقل التأثيرات هذه، في طبيعة الانسان الناتجة عن علاقاته مع الرمزي.غض النظر عن النظام الرمزي يعني الحكم على هذا الأكتشاف بالنسيان“(E, 64).
يتناقض مفهوم لاكان للرمزي مع مفهوم “الرمزية” لدى فرويد تناقضاً كاملاً. فبالنسبة لفرويد توجد العلامة ضمن علاقة ثنائية- أحادية (bi-univocal) ثابتة نسبياً بين المعنى والشكل، ويقابلها المفهوم مؤشر (index) لدى لاكان (أنظر:Freud 1900 SE V Ch6,sect.E حول الرمزية في الأحلام)؛ فبالنسبة له ما يميز الرمزي هو تحديداً هذا الغياب لأية علاقة ثابتة بين الدال والمدلول.
خيالي imaginaire imaginary
يستعمل لاكان المصطلح “خيالي” كاسم علم منذ العام 1936(Ec, 81). ومنذ البداية، يحيلنا المصطلح إلى الوهم، وإلى الافتتان والغواية، ويتصل تحديداً بالعلاقة المزدوجة بين الأنا والصورة المنعكسة. على أنه من الضروري التنبه إلى أنّ الخياليّ، وإلى جانب أنه يحتوي على إحالات إلى الوهم والغواية، إلا أنه ليس ببساطة مرادفًا للـ “وهمي”، بهذ المفهوم الذي يكون فيه الوهمي رمزاً لما هو فائض أو هامشي (Ec, 723). فالخيالي بعيدٌ عن أن يكون هامشياً إذ أنه يمتلك إسقاطاته بالغة التأثيرعلى الواقعي، ولا نستطيع ببساطة إقصاءه جانباً متغلبين عليه.
يغدو الخيالي واحداً من الأنظمة الثلاثة منذ العام 1953 وصاعداً، ليشكلَ المثلثَ القائم في صدارة الأفكار اللاكانيه متخذاً موقعه في مواجهة الواقعيّ والرمزيّ. يواصل تَشَكُل الأنا، في طور المرآة تكوينَ قاعدة النظام الخياليّ. وبما أنّ الأنا يتشكل في التماهي مع النظير أو الصورة المنعكسة، فإنّ التماهي يمثل جانباً هاماً من النظام الخياليّ. الأنا والنظير يمثلان النسق لعلاقة التبادل الثنائية وهما قابلان للتبادل فيما بينهما. إنّ معنى هذه العلاقة، حيث يتكوّن الأنا من خلال التماهي مع الآخر الصغير، هو أنّ هذا الأنا، سوية مع النظام الخيالي بعينه، هما موضعا الاستلاب الجذريّ؛ ” الاستلاب هو عنصر مكوّن للنظام الخياليّ” (S3, 146). هذه العلاقة، مزدوجة الطابع بين الأنا والنظير، هي علاقة نرجسية في أساسها، والنرجسية سمة مميزة إضافية للنظام الخيالي. ويرافق النرجسية دوما قسطٌ من العدوانية. الخيالي هو دائرة الصّورة والمخيلة والأحبولة والافتتان. والأوهام الأساسية للخيالي، هي تلك التي تتصل بالتكامل والكمال والتحكم الذاتي والثنائية، وقبل كل هذا: التشابه. ولهذا فإنّ الخياليّ هو مظاهر السطح الخادعة، وهو هذه الظواهر المرئية التي تُخفي البنى التحتية، والتي هي مصدر هذه الظواهر.
إلا أنّ هذا التباين القائم ما بين الرمزيّ والخياليّ، لا يعني أنّ الخياليّ عديم البنية. لا بل بالعكس من هذا، يكون الخياليّ دائما مبنياً مسبقاً على يد الرمزيّ. فعلى سبيل المثال، يتحدّث لاكان في نقاشه حول طور المرآة، عن العلاقات داخل فضاء الخياليّ، ممّا يعني وجود بنية رمزية لهذا الفضاء (E, 1). كما يشير التعبير “اللُحمة الخيالية” (‘imaginary matrix’) إلى الخيالي المبني من قبل الرمزي (Ec, 221). في العام 1964 يناقش لاكان كيف يُبنى المجال البصريّ (Visual field) بقوانين رمزية (S11, 91–2).
للخياليّ بعدٌ ألسنيٌ أيضاً. وفي حين أنّ الدال هو أساس النظام الرمزيّ، فإنّ المدلول والمعنى يتبعان النظام الخيالي. تمتلك اللغة إذًا، وفي نفس الوقت، مظهراً رمزياً ومظهراً خيالياً، واللغة في مظهرها الخيالي هي: “جدار اللغة” الذي يقلب ويشوّه خطاب الـ آخر (يُنظر الرسم البياني –L).
إنّ قوى الخيالي التي تأسر الذات، تستند إلى التأثير الأخّاذ للصّورة المُنعكسة. وعليه فإنّ جذور الخيالي تضرب عميقاً في علاقات الذات مع جسدها (أو بالأحرى مع صورة جسدها). إلى جانب أنّ هذه القوة الأخاذة\الآسرة هي قوة إغواء (يظهر الخيالي أكثر ما يظهر في المستوى الجنسي وذلك على نسق أستعراضات جنسية وطقوس غزل Lacan, 1956b:272)، فإنها في نفس الوقت قوة تثير الشلل، إذ أنها تجعل الذات سجينة سلسلة من التثبيتات السّاكنة (أنظر: أسر).
الخياليّ، ودون سائر أبعاد الذات الإنسانية، هو الأكثر قرباً إلى علم أسباب الأمراض (Etiology) وإلى النفس الحيوانية (S3, 253). وبالتالي، فإنّ كل محاولة لتفسير الذاتية الإنسانية بمفاهيم علم نفس الحيوان تبقى في حدود الخياليّ (أنظر: طبيعة). على الرغم من أن الخيالي يمثل نقطة التّماس الأقرب ما بين الذاتية الأنسانية وأثيولوجيا الحيوان (S2, 166)، ألا ان هذا لا يعني التطابق التام فيما بينهما، إذ أن النظام الخيالي لدى الإنسان مبنيٌ من الرمزي، بمعنى ” أنه لدى الإنسان تم انفصال العلاقة الخيالية [عن مسارها في الطبيعة] “( S2, 210).
يستحوذ على لاكان شكٌ ديكارتيّ تجاه الخياليّ كوسيلة للإدراك. يُصرّ لاكان، كما فعل ديكارت، على رِفعة العقل الخالص، وعلى أنه هو –ومن دون الاعتماد على المخيلة- الطريقُ الوحيدةُ للوصول إلى المعرفة الموثوقة. وهذا ما يقف وراء استخدام لاكان للأشكال الطوبوغرافية، غير القابلة للتمثل في المخيلة، من أجل استكشاف بنية اللاوعي (أنظر: طوبولوجيا). تضع هذه الريبة تجاه المخيلة والأحاسيس لاكانَ، وبثبات، في صفّ العقلانية (Rationalism) مقابل التجريبية (Empiricism) (أنظر: طبيعة).
يتهم لاكان المدارسَ الأساسية للتحليل النفسي المعاصرة له بحصر التحليل النفسي في النظام الخياليّ، إذ أنها وضعت التماهي مع المحلل هدفاً للتحليل، مختزلة التحليل إلى مجرد علاقة ثنائية (E, 246–7). ينظر لاكان إلى هذا الأمر نظرته إلى خيانة التحليل النفسي وإلى انحراف ليس بمستطاعه سوى النجاح في تعميق استلاب (اغتراب) الذات. يدّعي لاكان وبالضدّ من هذا الاختزال إلى الخيالي، بأنّ جوهر التحليل النفسي هو في توظيفه للرمزيّ. ففي هذا التوظيف للرمزيّ تكمن الوسيلة الوحيدة لتنحية الخياليّ عن دوره في التثبيت، المؤدّي إلى العجز. فالوسيلة الوحيدة أمام المحلل لفرض سيطرة ما على الخيالي، هي تحويل التخيلات إلى كلمات، بالضبط كما يتعامل فرويد مع الأحلام كألغاز صورية: “يغدو الخيالي قابلاً لأن تفكّ رموزه فقط عندما نترجمه إلى رموز” (Lacan, 1956b:269). استخدام الرمزي هو الوسيلة الوحيدة التي يستطيع المتحلل من خلالها “العبور خارج مدارات التماثل” (S11, 273).
واقعي réel real
يظهر المصطلح “واقعي” لأول مرّة كاسم علم لدى لاكان في مقالة له نشرت عام 1936. لقد كان هذا المصطلح شائعَ الاستعمال لدى بعض الفلاسفة المعاصرين له، وشكل لبّ مقالة ألفها إميل مايرسون (والذي يشير إليها لاكان في مقالته من عام 1936 ,Ec,86). يُعرف مايرسون الواقعي على انه “المطلق الوجودي، الوجود الحقيقي في ذاته” (Meyerson 1925,79 ، مذكور في Roustang 1986,61). يذهب لاكان في نقاشاته حول الواقعي إذا، في أعقاب تقليد متعارف عليه لدى تيار فلسفيّ محدد، مطلع القرن العشرين. الا أنه وبينما كانت هذه هي ربما نقطة انطلاق، فإن المصطلح يمرّ، خلال سنوات إنتاجه، بتغيرات عديدة في معانيه واستخداماته.
في البداية، يوضع الواقعي وبكل بساطة كنقيض للخياليّ، ممّا قد يوحي إلى أنه يتمركز في مجال الوجود، في ما عبر الظواهر(Ec,85). لكن حقيقة أنّ لاكان وحتى في هذه المرحلة المبكرة يميز بين الواقعي و”الحقيقي” تشير إلى أن الواقعي يقع ضحية لضبابية ما (Ec,75).
بعد ظهور المصطلح عام 1936 فإنه يختفي من كتابات لاكان حتى سنوات الخمسين الأولى، حيث يعاود الظهور، حينها يستحضر لاكان مقاربة هيجل القائلة بأنّ ” كل ما هو واقعي هو منطقي [والعكس أيضاً]” (Ec,226). فقط في عام 1953 يقوم لاكان بترفيع الواقعي إلى منزلة المقولة الأساسية في النظرية النفس تحليلية. من هنا وصاعداً، يمثل الواقعي واحداً من الأنظمة الثلاثة، إلى جانب الرمزي والخيالي، والتي وفقها يتم وصف جميع الظواهر النفس تحليلية. لا يوضع الواقعي منذ الآن مقابل الخيالي فقط، بل ويوضع في ما عبر الرمزي. فليس كما الرمزي، المبني بمفاهيم الأضداد، كتناقض بين الوجود والعدم،” في الواقعي لا وجود لأيّ عدم” (S 2,313). وفي الوقت الذي يشير فيه هذا التناقض الرمزي القائم بين الوجود والعدم، إلى الإحتمال المتواصل بان أمراً ما قد يكون ناقصاً في النظام الرمزي، فإن الواقعي “موجود دائما في مكانه: انه يحمله لصق كعبه، جاهلا لما قد يؤدي لجلائه من هناك” (S 11,49؛ أنظر Ec,25).
الواقعي هو “اللاممكن”، فبما أنه غير قابل للتصور، من غير الممكن تضمينه في النظام الرمزي ومن غير الممكن الوصول إليه عبر أية وسيلة
وفيما يكون الرمزي مجموعة من العناصر المتمايزة والمتفردة والمدعوة دوالَّ، فإنّ الواقعي في حدّ ذاته فاقد للتمايزات: ” الواقعي من دون شرخ إطلاقاً“(S 2,97). الرمزي هو من يقوم بإحداث ” شقّ في الواقعي” ذلك في مسيرته لإنتاج المعنى:” إنه عالم الكلمات هو ذلك الذي ينتج عالم الأشياء– كانت الأشياء, في الأصل، مشوشة بالآن والهنا، للكل في صيرورة التكوين” (E,65). في هذه الصياغات التي تعود إلى الأعوام بين 1953 وحتى 1955 يظهر الواقعي كأنه الشيء الموجود خارج اللغة، وغير القابل للتمثل الرمزي، إنه “ما يقاوم الترميز (symbolization) وبشكل مطلق“(S 1,66) ومرة ثانية، الواقعي هو “مجال كل ما هو قائم خارج الترميز” (Ec,338). تظهر هذه الموضوعة في أعمال لاكان منذ الآن وصاعداً حيث تقوده للربط بين الواقعي ومفهوم “أللا-إمكانية“(impossibility) (S 11,167). الواقعي هو “اللاممكن”، فبما أنه غير قابل للتصور، من غير الممكن تضمينه في النظام الرمزي ومن غير الممكن الوصول إليه عبر أية وسيلة. هذه الصفة؛ صفة المقاومة للترميز واللا-إمكانية، هي التي تُضفي على الواقعي سمته الصادمة والمُميزة له. هكذا وفي تفسيره للحالة “هانس الصغير” (Freud,1909) يقوم لاكان وفي سمينار عام 1957-1956 بتحديد عاملين واقعيين يتداخلان بتجانس في المرحلة القبل أوديبية الخيالية لدى الطفل ويلقحانها: العضو الواقعي الذي يبدأ بفرض نفسه في الاستمناء، والأخت حديثة الولادة (S 4,308-309).
توجد للواقعي إحالات إلى الماديّ، فتُفهم منه القاعدة المادية التي يتأسّس عليها الرمزي والخيالي (أنظر: مادية). تربط هذه الإحالات مفهوم الواقعي بمملكة البيولوجي أيضاً وبالجسد من خلال وظيفته المادية الخام (مقابل الوظيفة الخيالية والوظيفة الرمزية للجسد). مثال على ذلك، أنّ الأب الواقعي هو الأب البيولوجي والفالوس الواقعي هو العضو الجسماني، في مقابل الوظائف الرمزية والواقعية لهذا العضو.
يقوم لاكان وفي أعماله جميعاً باستخدام الواقعي من أجل توضيح الظواهر السريرية: القلق والصدمة. الواقعي هو موضوع القلق؛ لا وجود لوسيط ممكن له فهو: ” الموضوع الجوهري الذي لم يعد موضوعاً بعد الآن، وإنما الأمر الذي تنعدم أمامه كل الكلمات وتفشل جميع المقولات؛ إنه موضوع القلق بالـ التعريف par excellence” (S 2,164). هذا اللقاء غير المتحقق مع هذا الموضوع الواقعي، هو الذي يعرض نفسه على شكل صدمة (S 11,55). إنه الطيخا (tyche) التي تسكن “ما وراء الأتوماتون [الرمزي]“(S 11,53) (أنظر: صدفة)*.
● هذيان (هلوسة): عندما لا تكون هنالك امكانية لضم أمر ما إلى النظام الرمزي، كما في الذِّهان، فإنه قد يعود في الواقعي على صورة هذيان (S 3,321). تحاول هذه الملاحظات تقصي جزءًا من استعمالات لاكان الأساسية لمقولة الواقعي، لكنها أبعد من أن تحيط بكل تعقيدات هذا المصطلح. يدأب لاكان عملياً على محاولة الحفاظ على الواقعي، كنظام غامض وغير قابل للإحاطة من بين أنظمته الثلاثة؛ إنه يتحدث عنه أقلّ بكثير ممّا يتحدّث عن النظامين الآخرين، فيجعله موقعاً للا-تحديد الأقصى (Indeterminacy). لهذا فمن غير الواضح أبدا، فيما إذا كان الواقعي خارجيًا أم داخليًا، أو فيما إذا كان قابلاً للإدراك أو عرضة للنقد.
● خارجي/ داخلي: من جهة أولى، قد يظهر وكأنّ مصطلح الواقعي يشير إلى الفكرة التبسيطية للواقع الخارجي الموضوعي- قاعدة مادية قائمة بحدّ ذاتها من دون علاقة بوجود مراقب ما، من جهة أخرى، وبالضد من التصور الساذج تقف حقيقة أنّ الواقعيّ يتضمّن أيضًا أمورًا كالتهيؤات والأحلام الصادمة. الواقعي إذًا في الداخل والخارج (S 7,118، أنظر: أكستيما). إنّ عدم الوضوح هذا يعكس عدم الوضوح القائم في استعمالات فرويد نفسه لمصطلحين ألمانيين اثنين للواقعي (Realitat ,Wirklichkeit) وفي التمييز الذي يخطه ما بين الواقع المادي والواقع النفسي.
● غير قابل للمعرفة\ منطقي من جهة أولى الواقعي غير قابل للمعرفة أذ أنه خارج نطاق الخيالي والرمزي معاً، أي ك”الشيء في ذاته “(كانط)، أنه X غير معرف. لكن لاكان يشير من جهة ثانية إلى مقولة هيجل بأن الواقعي منطقي والمنطقي واقعي، مُلمِحاً إلى أنه قابل للقياس والتعقل.
منذ سنوات السبعين المتأخرة من الممكن التعرف في أعمال لاكان، على محاولات لحل هذا اللا-تحديد، بواسطة التمييز بين الواقعي و”الواقع” (مثلاً عندما يعرف لاكان الواقعي على أنه ” كلاحة الواقع “(Lacan,1973a:17 , للنظر أيضاً، S 17,148 ). في هذا التضاد يقع الواقع في الجانب الغير قابل للمعرفة أو في الجانب الغير قابل للتمثل. بينما يشير “الواقعي” إلى التمثلات الخيالية والرمزية (“الواقع النفسي” لدى فرويد).على الرغم من أن لاكان قد قام بعرض هذا التضاد إلا أنه لا يستمر في العمل وفقه بشكل منهجي .فأحياناً يقوم بالمحافظة عليه وفي أحيان أخرى يعود إلى عادته مستعملاً كلا المصطلحين كمصطلحين تبادليين فيما بينهما.
(يتبع)
* في الكتاب الثاني من “الطبيعة” (Physics)، يقوم أرسطو ببحث وظائف الصدفة والحظ في السببية. إنه يميز بين شكلين للصدفة؛ أوتماتون (automaton) الذي يشير إلى إحداث الصدفة في الكون بشكل عام والطيخا (tyche) التي تشير إلى الصدفة حينما تؤثر على مخلوقات ذوات قدرة على القيام بفعل أخلاقي.
20 فبراير 2014
التعليقhad chi mzyan onf3ni bzaf ms ana bghit lotrouha dyal nas jak lakan
8 ديسمبر 2013
شرح جميل و موثق من قارئ مقتدر و مترجم مدقق …. و اود الاضافة ان قوة و اهمية لاكان في انه يفهم الانسان باستعداده اللامحدود للتغير و تغيير عالمه من خلال قدرته على الترميز ذي الدلالات الامحدودة و لهذا فان نظريته مفتوحة للتاويل لان الانسان نفسه -في نظره لا يقبل الانغلاق
3 مايو 2013
كلام غاية في التعقيد لم استوعب اغلبه للاسف الشديد على الرغم من اطلاعي على كثير من نظريات التحليل النفسي!!