اللبّاد: صباح الخير يا أسطى/ يوسف عبدلكي
ليس اللبّاد اسماً لفنان كبير من فنانينا المعاصرين، وإنما هو عنوان لطريقة في التفكير، فهذا الغرافيكي الاستثنائي عرف كيف يجعل من رؤيته الفكرية وإنجازاته الفنية وحدة واحدة • نزهة في إبداعات محيي الدين اللبّاد
اللبّاد: صباح الخير يا أسطى/ يوسف عبدلكي
.
|يوسف عبدلكي|
هذه المقالة ليست تحية إلى محيي الدين اللبّاد أو رثاء له، وإنما هي محاولة لرصد تجربته الفنية خلال خمسين عاماً أمضاها متنقلاً بين مهارات ثلاث: الرسم؛ التصميم، ولا سيما تصميم المجلات وأغلفة الكتب؛ وخصوصاً للأطفال. ويلاحظ الكاتب أن اللبّاد أدار ظهره للموروث الأوروبي في صوغ رسوماته، على الرغم من شيوعه وعالميته، واتجه إلى الموروث المحلي كرسوم الفلاحين على جدران منازلهم، ورسوم الفلاحات على الثياب (التطريز) لأنه يعبّر عن روح الجماعة. وهذه المقالة نزهة في تجليات هذه العناصر كلها في إبداعات محيي الدين اللبّاد.
I
ليس اللبّاد اسماً لفنان كبير من فنانينا المعاصرين، وإنما هو عنوان لطريقة في التفكير. فهذا الغرافيكي الاستثنائي عرف كيف يجعل من رؤيته الفكرية وإنجازاته الفنية وحدة واحدة. فعلاوة على رسومه البديعة لكتب الأطفال، وتصاميمه الغرافيكية للمجلات والكتب، ورسومه السياسية التي قليلاً ما حظيت باهتمام الوسط الثقافي، ترك لنا مكتبة مدهشة ملأى بملاحظاته الثاقبة في شأن كثير مما يدور حولنا، من لوحات الشوارع، إلى رسوم الأطفال، إلى الفنانين الذين تجهلهم ثقافتنا ومثقفينا، إلى تصاميم الـ “تي ـ شرت”، إلى إعادة اكتشاف رسّامي الكاريكاتور العرب، إلى تصاميم الحروف والعلامات التجارية، إلى التعريف بتظاهرات كتب الأطفال في العالم … إلخ. فعل اللبّاد ذلك كله بطريقة بديعة في الكتابة، تجمع بين عمق الفكرة، وسلاسة النص، وخفة الظل!
II
تعرفت إلى محيي الدين اللبّاد في نهاية الثمانينات من القرن العشرين، وكنت تعرفت إلى رسومه وكتاباته قبل ذلك بخمسة عشر عاماً. كنا جالسين في بيتي في باريس مع مجموعة من الأصدقاء، فأخذ معلّم الكاريكاتور بهجت عثمان يقلّب رسومي بفرح كأنه يكتشف صديقاً جديداً يضمه إلى “رفاق سلاحه”! وبهجت لمَن عرفه كان يعتبر الكاريكاتور العربي بيته الشخصي، ومثلما كان يهلل لتعرّفه إلى رسام جديد، كان يحزن ويغضب عندما يغادر رسام ما -على ندرة ذلك- المواقع النقدية للديكتاتوريات العربية، أو يتصالح -ولو من بعيد- مع مشاريع الإمبرياليات وحروبها في المنطقة.
وفي مقابل فرح بهجت كان اللبّاد متحفظاً يقلّب الرسوم بتأنٍ، فلفته رسم يتناول البابا يحمل العلم الاميركي. ولا يحتاج المرء إلى التفكير كي يعرف أن ما أحبه اللبّاد في الرسم ـ ربما على عكس بهجت ـ لم تكن الفكرة السياسية، وإنما المفارقة الغرافيكية. بعد تلك الامسية، التقيته عشرات المرات في باريس والقاهرة، وقامت بيننا صداقة جميلة وألفة شخصية، وأمضينا سهرات لا نترك فيها فناناً أو سياسياً أو ظاهرة من سهام نقدنا، لكن صورة اللبّاد بقيت في ذهني هي هي منذ تلك السهرة الأولى؛ شخص لا يؤخذ على حين غرّة، وذهن يقظ، وحس ساخر، ومعاينة نفّاذة للمحيط الذي انخرط فيه بقدر ما انتقده.
III
يتبين الدور التنويري للّبّاد بكتاباته، كما يتبين البعد العربي في اهتماماته واعتبار العرب والأراضي العربية “عمقه الاستراتيجي” وأنهم شركاء تاريخ ومصير
ارتكز عمل اللبّاد خلال خمسين عاماً على ثلاثة محاور؛ الرسم والتصميم والكتابة. واللافت أنه ـ وعلى خلاف عشرات التجارب ـ لم يكن مجلياً في مجال، وعادياً في مجال آخر، وإنما كان عمله في كل حقل على حدة علامة من علامات التميز، كما كان على قدر مدهش من التماسك، بل الانسجام العالي بين الحقول كافة. وربما تكون قناعات اللبّاد الفكرية ـ السياسية هي التي شكلت بطانة ذلك التميز، وذلك الانسجام. فما هي تلك القناعات؟
تفتح وعي محيي الدين اللبّاد في الخمسينيات من القرن العشرين، عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم إلى معسكرين: إشتراكي ورأسمالي؛ عصر انحازت فيه أغلبية مثقفي العرب والعالم الثالث إلى المعسكر الأول، معسكر الاستقلال، والتحرّر، والتنمية المستقلة، ومحاربة الاستغلال، وتعميم التعليم، وتوفير الصحة، ونهضة الزراعة والصناعة، ودخول الطبقة الوسطى بل الفلاحين، إلى حقل العمل السياسي… إلخ. هذه العناوين الكبرى صنعت وعي اللبّاد وانحيازاته الفكرية والسياسية والمجتمعية، وكان لصحبته الصاخبة مع عشرات المثقفين الشباب اليساريين آنذاك مثل طارق البشري وعادل حسين ويحيى الطاهر عبد الله وصبري حافظ وعبد الرحمن الأبنودي وسيد خميس ونذير نبعة ونبيل تاج وغيرهم، تأثير على رؤيته الماركسية إلى السياسة والثقافة، وقد عمل خلال عقود على نقل تلك القناعات إلى حيّز العمل الإبداعي، وهو أمر ليس ممكناً ولا بسيطاً إلّا للمبدعين الحقيقيين.
ومن هنا يمكن أن نلاحظ في كتاباته أن الهاجس الأول فيها هو مسألة القطع مع الموروث الأوروبي في صوغ الرسم والتصميم، وهو أمر شديد الصعوبة، لأن هذا الموروث أصبح مكوناً أساسياً فاعلاً منذ قرن ونصف قرن في أركان المعمورة كافة. وينطلق اللبّاد من أنّ لكل بلد من بلاد العالم موروثه الخاصّ والغني، والذي ربما يبدو بسيطاً، بل ساذجاً مقارنة بتقدّم الرّؤى والتقنية الأوروبية، غير أنه يعبّر عن روح الجماعة أو الأمّة، ولذا، فالأوْلى أن ينهل فنانوها من هذا المنهل، أي أنّ موقفه ليس رفضاً للإنجازات الأوروبية المتقدّمة ـ التي أصبحت حقيقة معممة لا يمكن تقريباً تجاوزها ـ وإنما هو جزء من نزعة الاستقلال والاعتزاز بالخصوصية الوطنية والمحلية في مواجهة الغزو الفكري والثقافي لبلادنا الموازي لاحتلال الجيوش ونهبها ثروات العالم الثالث. من هنا نرى اهتمام اللبّاد بالرسوم الشعبية على جدران بيوت الفلاحين، والرسوم الشعبية على الزجاج (أبو صبحي التيناوي مثلاً) كما نراها في العديد من بلاد البحر الأبيض المتوسط، والتطريزات الشعبية للثياب والأقمشة لدى الفلاحات، وصورة الأبطال الشعبيين في خيال الظلّ مثل كراكوز وعيواظ إلخ… فضلاً عن اهتمامه برسّامي الكاريكاتور ورسّامي كتب الأطفال أصحاب الخصوصية الخارجين عن الوصفات “الستاندرد” الأوروبية في الرسم، ومن هنا أيضاً نقده اللاذع لتعميم صورة البطل الأوروبي أو الأميركي أو الياباني كما نراها في الأشرطة المصورة أو أفلام الرسوم المتحركة مثل سوبرمان وغرانديزر وباتمان وطرزان وميكي وغيرها… لما تحمله هذه الأشرطة والرسوم من محوٍ للذاكرة المحلية وإحلال ذاكرة غريبة معولمة محلها، حاضـّة على العنف وفاقدة سلّم القيم البصرية والأخلاقية في الفنون المحلية.
من ذلك يتبين الدور التنويري الذي كان يقوم به اللبّاد بكتاباته، كما يتبين لنا ـ من خلال الفنانين، والقضايا التي تناولها ـ البعد العربي في اهتماماته واعتبار العرب والأراضي العربية “عمقه الاستراتيجي” وأنهم شركاء تاريخ ومصير “شاء مَن شاء وأبى مَن أبى.”
IV
سيتذكر الفنانون والمتذوّقون والأطفال العرب دائماً، كتب الأطفال التي انجزها اللبّاد لجمالها وقوة اللون فيها وعفوية خطوطها التي تذكّر بعفوية الفنان الشعبي في بلادنا من دون أن يكون عمله تقليداً لها.. وقد عمل اللباد منذ نهاية الخمسينيات، في مجال رسوم الأطفال، ومن رسومه الأولى نلحظ رغبته في الخروج عن الطرق المألوفة في رسوم الأطفال المنشورة في مجلات الأطفال، وفي رسمه الخط السلكي بعيداً عن حذلقة ثخانة ريشة الحبر الصيني، وفي ألوانه المسطحة البعيدة عن تدرجات ومهارات الفرشاة، وأهم من ذلك أشكاله وشخصياته المغايرة للمألوف في رسم الشخصيات: الرشاقة؛ التعبيرات المعروفة للوجه؛ والحركات الاستعراضية. كانت رسومه بسيطة وأليفة كأنها خارجة من ذاكرة صبيّ غادر طفولته للتوّ، فهو يرسم بواقعية، ولكنه لا يزال مسكوناً بخيال الطفل.
في السبعينيات تأسّست “دار الفتى العربي” التي شكلت نقلة هامة للغاية في رسوم الكتب العربية، وقد قاد اللبّاد الجانب الفني في هذا المشروع الرّائد، فصمّم الكتيبات بحسب توجّه كل منها الى فئة عمرية محددة، وثبّت تصوراته لطريقة توزيع الكتابة بين الرسوم والصفحات، واختار نخبة مبدعة من الفنانين العرب للعمل، وهكذا اغتنت المكتبة العربية بأهمّ سلاسل كتب الأطفال إلى يومنا هذا، مع رسوم نبيل تاج ونذير نبعة وعدلي رزق الله وبهجت عثمان وحجازي… وغيرهم، ونصوص زكريا تامر وصنع الله إبراهيم وسليم بركات وليانة بدر… إلخ.
رسم اللبّاد نفسه للدار مجموعة كتيبات بديعة ظهر فيها نضوج أفكاره وتجربته، فأضحت رسومه ذات حضور بصريّ طاغ، مارست تأثيراً كبيراً في عمل عشرات الرّسامين الشباب في مختلف البلاد العربية، بسبب موهبة رسامها وتحرّر ريشته التي تنهل، لا من محفوظات الكتب الغربية أو العربية، وإنما من خياله وخيال الفنان الشعبي البكر، اللذين يطلقان خيال الرسام ولا يحبسانه في قمقم القوالب الحرفية المكررة. في هذه الرسوم تحرر اللبّاد لا من القوالب المألوفة فحسب، بل من اللبّاد نفسه، من خطه وألوانه السابقة كي يصبح عمله ابن حرية الخط واللون والصيغة، أي لم تعد أفكاره تشكل قفصاً لرسومه، وإنما أصبحت جزءاً من تدفق الأداء وعذوبته.
ليس مبالغة القول إنّ رسوم اللبّاد لا تزال حية، طازجة، تشع بالهواء والضوء بعد خمسة وثلاثين عاماً، وقد شكلت مع رسوم كوكبة الرسامين العرب الآخرين التأسيس الثاني لرسوم كتب الأطفال العربية، فنقلتها من سويتها السابقة التوضيحية إلى كونها حيزاً للجمال والخيال.
V
ما الضرورة لتصميم جديد لصحيفة قديمة؟
تابع اللبّاد عمله في مجال الكاريكاتور السياسيّ على خطين، الأول في الرسم: خط حر بسيط متقشف تصنع ثخانته الفرشاة المشبعة بالحبر الأسود دون عرض مهارات، كأنه فنان تلقائي يرسم على الجدار، بعفوية وصدق، ترحيبه بجاره العائد من الحج، وهو هنا يخرج من دون ريب عن الأساليب “المتقنة والمألوفة” في رسم الكاريكاتور مثلما رأيناها في الغرب أو لدى رسّامي الصحف العربية من جيل الرواد: رخا، صاروخان، زهدي، طوغان…
أمّا الخط الثاني، فاستمرار عزفه على أفكاره وقناعاته السياسية في مواجهة الهيمنة الغربية، وفي مناصرة الشعب الفلسطيني ونقد الاستبداد العربي، ولم يكن يُغيظه شيء قدرَ غيظه من هزيمة الأنظمة العربية وخسّتها أمام “الجبروت” الأميركي أو الإسرائيليّ.
غير أنّ رسوم اللبّاد السياسية المنشورة في “صباح الخير” أو في كتبه أو في كتابه المعنون “100 رسم وأكثر” لم تحظَ بالإجماع نفسه لرسومه الموجّهة إلى الأطفال، على الرغم من قوة أفكار تلك الرسوم، وقوة المفارقات الذهنية أو الغرافيكية فيها، فبقيت تحظى باهتمام أقلّ لدى القراء أو النخب الثقافية، كأنّ الصرامة الفكرية لديه ظلت حاجزاً أمام سلاسة السخرية وانطلاقها… وربما يعود السّبب في جانب منه إلى الأسلوب البسيط والخطوط الثخينة الجلفة التي لم يألفهما القارئ.
VI
أمّا في مجال تصميم الكتب والمجلات، وهو الحقل الثاني الأثير لديه، فكان يحلو للّبّاد أن يقول عن نفسه إنه “صانع كتب”، ولم يكن عمله في أيّ يوم في هذا الحقل عملاً سهلاً أو بسيطاً، إذ لم يعمل على “توضيب” مواد المجلات أو الكتب، ولم يكن ينجز عمله بسهولة، وإنما على العكس، كان يطرح عشرات الأسئلة على القائمين على المطبوعة كي يفهم هو ـ وأحياناً أصحاب المشروع أنفسهم ـ أبعاده، والغاية منه، وإلى من يتوجّه… إلخ، ثم بعد تلك الأسئلة يبدأ العمل “على نور”، وكان أحياناً يمارس ذلك بنوع محبّب من السادية، وأذكر أنه حدثني عن صحيفة لبنانية طلبت منه “ماكيتاً”، فبقي شهراً وهو يسألهم في كلّ يوم السؤال نفسه: طيب حنقول إيه؟ وهم يحارون في إجابته عن الجديد في رؤية الصحيفة، والذي يستوجب تصميماً جديداً لها! ولسان حاله يقول: ما الضرورة لتصميم جديد لصحيفة قديمة؟
كان اللبّاد مفتوناً بتصميم الكتب العربية القديمة، وتحدث في كتبه بإسهاب عن ذلك، عن ترتيب الصفحة، عن تعشيق الكتابة بالرسم، عن صفحة البداية، عن صفحة النهاية، عن استخدام الزخرفة والتنقيط والهوامش العريضة… إلخ، وهذا كله ينسجم من دون ريب مع رؤيته إلى إعلاء شأن الفنون المحلية ما قبل الرأسمالية ـ إذا جاز القول ـ في مواجهة الغزو الثقافي الأوروبي ـ الأميركي في مختلف مجالات الثقافة والإعلام، وهيمنته المتزايدة على ذاكرة الأجيال الجديدة. ومما لا شك فيه أنه استخدم تلك المفاهيم كي يصوغ تصميمات تنهل من موروثنا الشعبي، وموروثنا العربي الإسلامي، وموروث المنطقة عامة، وقدّم في هذا الحقل تصميمات بديعة لصحف ودور نشر وكتب وأغلفة… وغير ذلك، غير أنّ العديد من تصميمات اللبّاد كان يصطدم بالضرورات التقنية الخاصّة لبعض المطبوعات، فتصميم غلاف أو روزنامة أو كتاب مثلاً يحتمل في بنيته أو زخارفه العناصر الشعبية أو التراثية، لكنّ تصميم صحيفة يومية هو أمر آخر إذ إنّ كمّ الضرورات العملية اليومية يجعل اللجوء إلى تلك الزخارف والتوشيحات أمراً معوقاً، وهنا نلحظ أن اللبّاد لم يكن ليتردّد أمام هذا المفترق: الخيار بين ضرورات المطبوعة الحديثة، أو الإصرار على تعشيق تصميمه بنكهة محلية ـ تراثية؛ كان أمام هذا لا يتردد في اختيار ضرورات التصميم الحديث، وهو هنا يكشف لنا عن مرونته الذهنية البعيدة عن التزمت التأصيلي إن جاز القول.
VII
هناك في كل جيل كتاب أو اثنان يذكره هذا الجيل طويلاً وربما على مدى عمره، ومن تلك الكتب كتاب اللبّاد “كشكول الرسام” الذي حظي باهتمام كبير منذ صدوره، ونال جوائز عربية وعالمية عدّة وهامّة. فهذا الكتاب هو كتاب آخر، ليس كالكتب، كتاب يختلط فيه الرسم بالصور الفوتوغرافية، والكتابة بقوة التصميم، والملاحظات الذكية بخفة الدم، والأفكار القوية بسلاسة الأداء، والطفولة بالنضج، ولذا، فإنه من الصعب القول إلى من يتوجّه هذا الكتاب، إذ ربما يكون إلى الأطفال، وعلى الأغلب إلى الفتيان، وهو قطعاً ممتع للكبار… “كشكول الرسام” في جوهره بوح جميل وعميق وحساس لفنان وإنسان مهموم بمحيطه.
لا بدّ أنه قال كأيّ ماركسي مخضرم: هذه هي اللغة التي سأصل بها إلى أكبر شريحة من القراء… إذ ما فائدة الكتابة ـ أي كتابة ـ إن لم تصل للناس؟
غير أن اللبّاد لم يقتصر على ذلك، بل قدّم لنا خلال عقديْن أربعة كتب بعنوان موحّد: “نظر”. فكانت “نظر”، و”نظر٢”، و”نظر٣”، و”نظر ٤”، والكتب الثلاثة الأولى كانت تجميعاً لمقالاته في “صباح الخير”، والتي كان يصـرّ على تصميمها بنفسه وهو أمر نادر طبعاً في أيّ صحيفة، كما أنه نشر كتاباً عن الـ “تي ـ شرت”، وآخر عن الملاحظات الغرافيكية الموجّهة إلى الفتيان، وفي هذه الكتب كمّ كبير جداً من الرسوم والتصاميم واللوحات والصور الفوتوغرافية، الأمر الذي يشي بسعة اطلاعه، وكِبر مكتبته الفنية، وضخامة أرشيفه، وتنظيمه لذلك الأرشيف. وفي هذه الكتب جميعاً محاور عدة يتحرك فيها اللبّاد ببساطة مَن يتنقّل في بيته من غرفة الى غرفة، فمن جهة يقدّم ملاحظاته الثاقبة العامّة، من اعتراضه على لوحات الطرق الضخمة واعتدائها البصريّ على المارّة، إلى سذاجة تصميم العلامات التجارية والسياسية (Logos)، إلى أفلام الكرتون الأميركية واليابانية، إلى معارض رسوم كتب الأطفال في العالم، كما يقدم على التعريف بفنانين من العالم أوربيين ومن العالم الثالث، مثل: المكسيكي بوسادا؛ الفرنسي سينه؛ التشيكية كيفيتا باتوفسكا؛ الروماني الأميركي ستنبرغ؛ فضلاً عن أنه يعيد اكتشاف الكثير من الغرافيكيين العرب المعروفين، غير أنه يعيد قراءتهم وقراءة أعمالهم ودورهم في بيئتهم، مثل: صاروخان؛ عبد السميع؛ محمود مختار؛ نبيل تاج؛ مؤيد نعمة؛ قاسي؛ كركوتلي؛ جاهين؛ الزواوي؛ سليم؛ ناجي العلي؛ السلمي. ولا ينسى الاهتمام بطراز التعبير الفني الخارج من الهيمنة البصرية الأوروبية مثل الرسوم الشعبية لبيوت العائدين من الحجّ، إلى تقاليد الصناعة العربية للكتاب، إلى الحرف العربي وجمالياته البعيدة عن تصميم الحرف الهندسي اللاتيني، إلى الرسوم الشعبية على الزجاج، والتي تتناول أبطال السير الشعبية إلخ…
ومن معاينة موضوعات اللبّاد نكتشف أنه كان يعنى بموضوعات وفنانين ذوي مواصفات محددة، كأن يكون الفنان أو العمل الفني خارج الأنساق المألوفة الأوروبية بصورة خاصّة (رسوم الاطفال؛ الرسوم الشعبية؛ سجاد الحرانية؛ رسوم المنمنمات؛ فؤاد الفتيح؛ بهجوري… إلخ)، أو أن يكون ذا إبداع استثنائيّ وحرفة عالية، وإن ضمن النسق الأوروبي (ستينبرغ؛ ترنكا؛ باتوفسكا؛ توبور؛ إريس… إلخ)، أو أن يكون ذا دور ما و تأثير في المحيط (بوسادا؛ سينه؛ عبد السميع؛ كركوتلي؛ سليم؛ جاهين… إلخ).
كل ما تقدم يؤشـر، ومن دون لبس، إلى أن مقالات اللبّاد ونصوص كتبه لم تكن بأيّ حال من الأحوال عفوية تلحق المتاح في الحياة والفن، وإنما كان اللبّاد ذا منهج صارم في خياراته وقضاياه، ولذا، فإن جميع كتبه الموجهة للكبار والصغار أو الفتيان تشكل وحدة واحدة يمكن أخذها جميعاً ـ على تنوع موضوعاتها ـ باعتبرها فصولاً من كتاب واحد.
وهنا، تجب الإشارة لغة اللبّاد، فالمنطق يقول إن رجلاً بهذه الصرامة، وهذه الخيارات الفكرية والسياسية والجمالية الحادّة، لا بدّ من أن يكتب تلك الصرامة كلها بلغة شبيهة بها، غير أنّ لغة اللبّاد ـ ويا للمفارقة الجميلة ـ لم تكن كذلك، فنصوصه مَصوغة بالتدفق السّلس والبساطة والمفردات السهلة. لغة جميلة، مرتاحة، أبعد ما تكون عن لغة النقاد المحترفين المعجونة بالمصطلحات والتراكيب “المجعلكة”. كتاباته أشبه ما تكون بدردشة مع صديق ودود، وهما يشربان فنجان قهوة في مقهى من المقاهي المطلة على النيل. هذه اللغة الصديقة جعلت قرّاء اللبّاد أكثر مئات المرات من قرّاء النقاد عموماً، ولا أحسب إلّا إن محيي الدين فكر بهذا الأمر طويلاً، واختاره عن سابق تصوّر وتصميم، فشخص مثله ما كان له أن يترك قضية بهذه الأهمية عفو الخاطر، وإنما لا بدّ من أنه قال كأيّ ماركسي مخضرم: هذه هي اللغة التي سأصل بها إلى أكبر شريحة من القراء… إذ ما فائدة الكتابة ـ أي كتابة ـ إن لم تصل للناس؟
VIII
على الفنانين والنقاد العرب أن يكتبوا كثيراً كثيراً كي يرسموا صورة شبه موضوعية عن إنجازات هذا الأستاذ، فخطّه يستحق وقفة نقدية متأملة، ولونه كذلك، كما أنّ أفكاره الفنية تستوجب قراءة جديدة، ورسومه السياسية لم يُلتفت إليها كما يجب، فضلاً عن رسومه المبهجة للأطفال، وطبعاً لا يمكن المرور على كتبه دون التفكير في إعادة تفكيك نواظمه ومحدداته، علاوة على لغته “البلدية” الرائعة، وهكذا، علينا أن نتوقف ملياً عند كلّ حقل خاضه كي نستجلي جماله وأبعاده، فكل ذلك هو ما صنع الرجل، ولا ننسى شخصيته التي كانت تجمع عناصر متناقضة بين شكله العملاق والطفل الحي في أعماقه، بين جديته وصرامته من جهة وعبثه وسخريته المحببة من جهة أُخرى، بين كرهه للغثاثة والسّماجة والأجهزة والمؤسسات الرسمية ومحبته العميقة والطويلة لكوكبة من الفنانين الأصدقاء (منها ما استمر منذ خمسين عاماً) كأنه كان يحدس منذ وقت مبكر بأن الصداقة، أي العلاقة مع الآخر، هي قيمة عليا في الحياة، وهي أجمل ما ينجزه البشر سواء عبر الصلات المباشرة أو بواسطة العمل الفنيّ.
إنّ الآلاف من المثقفين والفنانين العرب، مع تقديرهم الكبير للّبّاد، لن يسامحوه أبداً، لأنه خلخل بلهنية العادة، واستقرار الأفكار لديهم بآرائه النقدية، وأسئلته الجوهرية، وإنجازاته الغرافيكية البهيجة.
IX
محيي الدين اللبّاد أرجو أن تعتبر هذه الأسطر جزءاً من محبتي وإعجابي بك؛ محبة وإعجاب مستمرين منذ خمسة وثلاثين عاماً، قلما صرّحتُ بهما، وكنتَ تعرفهما جيداً.
صباح الخير يا اسطى.
(فنان تشكيلي سوري؛ عن مجلة الدراسات الفلسطينية)
3 أغسطس 2015
شكرا استاذ يوسف رائع وممتاز