من الناصرة إلى حمص/ جورج وكنان قندلفت
لقاء نصّيّ يجمع ابنيْن لعائلة واحدة: الأول موسيقيّ من الناصرة والثاني من حمص. موسيقى ورسائل إلكترونيّة تجسّد حجم الحزن المتربص بالفلسطينيّ أينما حلّ…
>
|جورج قندلفت ابن الناصرة، وكنان قندلفت ابن حمص|
من قرّر لي أن أولد في هذه المدينة؟ ومن قرر لي حدودي من قبل أن أولد؟ من قرر أن أكون ابنًا لهذه الطائفة؟ ومن قسَّم لي طائفتي لأجزاء صغيرة ووضعني في أصغر جزء منها؟ من رسم لي حدودًا؟.. حدود رُسِمت بواسطة مسطرة! هل من منطق؟ هل من المفروض ان أوافق؟ أن أستسلم؟..
من الصعب وصف حزني حين عدت إلى منزلي بعد ثلاثة أعوام من الغياب لأراه مدمّرًا لا يصلح حتى للترميم. أحمل حطامي أنا وعائلتي لنضع نفسنا جميعًا في غرفة يخجل الفقير من العيش فيها، في منطقة ذات الاحتمال الأكبر بألا أُقتل حين أخرج كي أحصل على كيس أرز يوزّعه أحدهم علينا كي نبقى على قيد الحياة، ليس محبةً بنا، بل كي لا يزيد العدد المزيّف من ضحايا المأساة على الشاشات.
وجه احتلته ملامح الغربة داخل الوطن، تجاعيد اعتادت على رؤية الهدم، آذان تشنجت من صوت الانفجارات، تحتاج إلى ما يرطّبها من دموع اليأس التي رسمت خريطة على وجهي مللت من كثرة مسحها خلال السنوات الاخيرة. أحاول الاتصال بالشبكة الالكترونية وبعد محاولات نجحت. عازف عود من الناصرة؟ يحمل اسم عائلتي “قندلفت”؛ ابن عائلتي الذي رُسِمت بيننا حدود أصبح عمرها ثلاثة أجيال، فصلوا بيننا وحرمونا من سلام اليد، حتى ابتسامة نرسلها من وراء أسلاك شائكة، وأبعدونا وفرقونا…
ابن عائلتي يعزف، ويطلق على عزفه اسم “متعة سوداء”. ضغطت على زر الإصغاء، تسمّرتُ في مكاني؛ لا أستطيع فهم سبب شعوري وأنا أصغي إلى هذه النغمات، تدخل عروقي، تشعرني بالاتصال بالدم بيني وبين هذا العازف الذي يحمل اسمي “قندلفت”. أصغي وصوت انفجارات من بعيد يسوّد لي متعتي في الإصغاء. انطلقت فورًا إلى صفحة البريد الالكتروني وكتبت عليها رسالة:
“في البداية أودّ أن أشكرك أخي جورج على هذه الاسطوانة الرائعة.. هذه الاسطوانة التي قدمت لي الكثير وخففت عني وطأة الحزن والقهر، وزرعت في داخلي الأمل في زمن أصبح فيه الأمل مفقودًا، وساعدتني في محنتي كشاب سوريّ ما زال يعيش في سوريا في ظلّ هذه الأحداث العصيبة التي تمرّ بها. لم أتوقع يومًا أني سأعيش هكذا مأساة بخسارة منزلي ومدينتي ومستقبلي الذي كنت أبنيه بكل جدّ وتعب.. إنها الحرب بكلّ ما حملته من دمار وأسى وحزن. خسرت منزلي وانتقلت للعيش في غرفة صغيرة مع عائلتي في منطقة آمنة نوعًا ما، للابتعاد عن أصوات الحرب الصاخبة والاستكانة في أوقات صمت الحرب إلى موسيقاك صديقي جورج، والحصول على القليل من الهدوء والسكينة. وبعد حوالي ثلاث سنوات عدت إلى منزلي لأراه مدمرا كئيبا ماحيا بدماره كل الذكريات الرائعة التي عشتها فيه. أكتب إليك صديقي وأنا أصغي واستمتع الآن بمعزوفة “سهر” التي لطالما أزاحت عن عيوني دموع القهر والحزن والشعور باليأس. أشكرك على موسيقاك، أشكرك على الانسانية بموسيقاك التي لطالما كنا وما زلنا وسنظل بحاجتها في كل الأوقات .
“اسطوانتك الرائعة هي متعة لي حقا في هذا السواد الذي أعيشه”.
<
“أنا، جورج قندلفت، أستيقظ في الصباح، أحتسي القهوة وأجلس أمام حاسوبي في غرفتي في برلين الألمانية ﻷنشر تسجيل مقابلة مع راديو ألمانيّ حملت بها رسالة فلسطينيي الداخل كي أحاول أن أجعلها تصل الى أكبر عدد ممكن من الناس. تحدثت بهذه المقابلة عن العلاج عن طريق الموسيقى في المجتمع العربيّ، عن النكبة، عن كيف يدخل العود في وسط كل هذه الفوضى السياسية الاجتماعية، وعن وجودي في برلين، المدينة التي حطموا جدارها وفتحوا حدودها قبل خمس وعشرين سنة فقط، أنشر المقابلة على الشبكة الالكترونية، وإذ برنة البريد الالكتروني تصدر من هاتفي النقال، أنظر إلى شاشته: “كنان قندلفت”؟!
بدأت بقراءة كلمات الرسالة وإذ بدموعي تنزل بلا سيطرة. أمسحها كي أستطيع رؤية الشاشة لإكمال القراءة. لماذا أبكي؟ هل حزناً على ابن عمي الذي لم يحدثني عنه أحد أم ﻷنه من المستحيل زيارته الآن وهو بأسوأ حالة من الممكن أن يعيشها انسان. هل أبكي فرحاً لأن موسيقاي تحدّت كل الحدود واخترقتها ووصلت حمص، في أخطر وأصعب فترة تمرّ حمص بها؟ هل أبكي ﻷنّ أحد أحلامي أن يُهدم الجدار وتُفتح الحدود تحقق نوعا ما.. والواقع أنني مكبل لا أستطيع أن أجد طريقة للتفكير فقط في حلّ هذه المشكلة التي نشأت معها.
خرجت من بيتي بهدف مراجعة موسيقية مع مغنيّة تركيّة. لا أستطيع التوقف عن التفكير بنصّ رسالة “كنان”. دموعي تشوش عليّ رؤية طريقي. استخدم حطّتي لمسحها وإخفائها، وأُفكر.. كم كان سهلاً أن أسافر إلى واشنطن، بريد ألكتروني قصير سألني إذا كان لديّ الوقت لأعزف في الولايات المتحدة. وافقت. وفي الرسالة التي تلتها كانت تذكرة سفر إلى فيلاديلفيا مرفقة بها تذكرة إلى تورونتو ومن ثم إلى سويسرا وبعدها برلين. وحين انطلقت من سويسرا إلى برلين لم يكن هناك أيّ أحد في مطار برلين ليتفحصني أو يلقي نظرة عليّ ومن أكون. خرجت من الطائرة، أخذت حقيبتي من دون أن يسألني أحد من أنت! أمّا الحدود التي تبعد عن بيتي في الناصرة مئة كيلومتر فلا أستطيع تجاوزها، حتى دخولها من دولة ثانية غير ممكن لأنّ غلاف هويتي الخارجي لونه أزرق! وهذا حسب القانون الأمنيّ ممنوع، فهل من أحد يفكر في القانون الإنسانيّ؟! بدأت المراجعة، وأنا أنظر إلى الحائط. تطلب المغنية مني بدء العزف وأنا لا أستطيع الإجابة، وكأنني فقدت القدرة على العزف والكلام بأيّ لغة كانت. وضعت العود جانبًا، أمسكت بهاتفي النقال وكتبت..
“عزيزي كنان..
امسح دموعك بمعزوفتي “سهر” وانتظرني..
أنا قادم لأبني معك بيتك من جديد..
جورج…”