سلامي لك ايها المخصيّ المريض/ فراس خوري
أذكر حين سألتني “هل مستعدٌ أنت للموت من أجل هدف؟” حاولت فلسفة سؤالك تهرباً، حينها قلت لي وبكل وضوح: “أنا لست مستعداً!”
سلامي لك ايها المخصيّ المريض/ فراس خوري
.
|فراس خوري|
لذكرى مرور عامين على استشهاد جوليانو مير- خميس
لم أفهم يوماً كيف للشاعر أن يقول قصيدة حين يعرف أن الموت يقترب. كيف يمكن للعقل البشري أن يفكر في قصيدة حين ينزف كأبي فراس الحمداني أو ينتشر السم في عروقه كمالك بن الريب، أو يموت ببطء مرض العضال كأمل دنقل. يا لجرأة من يرثي نفسه! لم يكن الشهيد جوليانو مير- خميس أبا فراس ولا مالك بن الريب وحتى ليس أمل دنقل… لم يكن جوليانو شاعراً أو شاعرياً بكلامه، بل كان شيوعياً جدلياً واضحاً ويخيّل لي أحياناً أنه كان جدلياً من أجل الجدلية نفسها، لأنّ لا طريق غيرها. فالثورة لن تحقق أهدافها لأنها هي الهدف. لربما لو أراد أن يودّع العالم لقال هذا:
سلامي لك…
سلامي لك أيها “المخصي”:
ماذا فعلت اليوم؟ هل شجبت “الانحلال” مع من شجبوا؟ هل أدنت “التطرف” مع من أدانوا؟
هل صمتّ حين تكلموا من حولك بالسياسة؟ هل ابتسمت للشرطيّ بعد أن شكّ بهويتك وفتشك؟ هل غضضتَ الطرف مجدّداً عن ازدرائك؟ هل خبّأت بروفايل صديقك حين “كفر”، هل أدرتَ وجهك لنفسك؟ أم قرأت التقرير حولك فاكتفيت؟
ما رأيك أيها المخصيّ بأسرى مضربين عن الطعام؟ أو بسلطة تفاوض على المفاوضات وبمقاومة تقاوم مهابل لم يبلغ عمرها التاسعة بعد؟ هل طلبت من ابنك وقد دخل عمره رأسه أن يبتعد عن السياسة؟ هل طلبت من ابنتك وقد دخل عمرها رأسك أن تستتر؟ أين أولادك من خصيتيك! هل مرتاحٌ أنت الآن بالجلوس حين تركبك الفرس؟ سلامي لك أيها المخصيّ، إلى الزوال ذاهبٌ أنا مع من سبقوا، لا أريد أيّ شيء من الآخرة فلم أعرها يوماً أيّ اهتمامٍ يُذكر. قد عشت حراً وأخاف أن تموت أنت أسيرًا.
(ملاحظة: اشترِ لبيت ابنتك طقم صالون جديدًا بعد عرسها عساها “تتفرفد”.)
سلامي لك أيها “المريض”:
هل أشفقت على نفسك مجدداً وبكيت؟ أما زلت تفقد الذاكرة بعد أن تبكي، فتبكي مجدّداً بعد أن تجد الدمع على خديّك. ماذا صدقت اليوم من كذباتك الجديدة؟ هل قبلت الظلم باسم العدل مع من قبلوا؟ هل آمنت بأحقيتك على حجر غيرك، وغضضتَ الطرف عن بشرةٍ زخرفت كالجّذع؟ أما زلت تنكر حق الطفل وقبر الشيخ في باحتك؟ إلى متى أيها المريض؟!
إلى الزوال ذاهبٌ أنا أيها المريض. هل ستستمرّ بالافتخار حين يرفرف علمك تحت قبة الشمس وتفكر بأساطيرٍ رصيدها الأول والأخير هو حساب ضخم في بنوك رأس المال الجشع؟… هل ستستمرّ بالقتل ثم تتأثر حين يتعثر كلبك في الجادة الخضراء في تل أبيب؟ أين بَنوك من قطرات الدم وقد أبى أن ينحيها تراب بلونها! هل ستستمرّ بأسر نفسك بنفسك.. تسمن الوحش بداخلك وتأجل النحر؟ هل ستواصل الإدمان على جرعات البروبوغاندا اليومية في الساعة الثامنة ثم تمجد مروّجي المخدرات الأوائل؟ هل ستواصل التنفيذ من غير السؤال؟ وتدعي النور من غير التساؤل؟ هل ستستمر بكرهي بعد موتي؟
سلامي لك أيها الباحث بغير جسدك عن المرض، سلامي لك أيها المريض.
قد عشت حراً وأخاف أن تموت أنت أسيرًا.
(ملاحظة: اشترِ لأولادك ملابس من شركة “لاكوست” و”تومي” عساهم يبرؤون.)
سلامي لك أنت أيضاً أيها “المخصي المريض”:
عليك أن تشتري وتشتري كلما رخصتْ عساك تَثمُن.. واترك ابنك الأبيض لليوم الأسود.
جوليانو، أستميحك وأستميح أحباءك عذراً لكتابتي نصّ باسمك، وأعلم أنّ هذا جزء صغير من المونولوج الذي كنت ستقوله لو أتيحت لك الفرصة، ولكني أرفض أن أفكر بأن تكون قد مُتّ من غير مونولوجٍ أخير، وهذا المنولوج يظهر لي ملائماً لـ “مسرحيتك” الجميلة ولتلك الشخصية التي جرت مسرعةً على حبلٍ رفيع فوق هاوية واستنشقت هواء الحرية لمدة 56 عامًا متواصلًا. أحبّ أن أفكر بأنك حملت غضبك ودمك الفوّار لحظة قتلك أيضًا، وقذفته في وجه العالم قذفا مبيناً قبل أن تسلم الروح. أذكر حين سألتني “هل مستعدٌ أنت للموت من أجل هدف؟” حاولت فلسفة سؤالك تهرباً، حينها قلت لي وبكل وضوح: “أنا لست مستعداً!”.
أريد أن أجيبك الآن يا عزيزي وبكل وضوح: “لا”، أو كما قالها درويش: “سأنزل عن الصليب لأنني أخشى العلوّ”. أما أنت فقد قتلت من أجل “الهدف”، صلبوك مثل سبارتاكوس يا أخي. لكن بأيدي العبيد الآثمة.
آسف جوليانو.. آسفين يا جول. مرّ عامان على اغتيالك وما زلنا لا نعرف هوية قاتلك ودافعه، لا جواب عندنا لأنّ الكشف عن قاتلك لا يصبّ في مصلحة أيّ طرف ذي سلطة وقوة “بهالبلد”؛ هذه هي الحقيقة! من غير الممكن استغلال قضية قتلك من أجل مكاسب سياسية!
لن نكفّ عن انتقاد كلّ ما من حولنا لروحك ومن أجلنا.
تحية إجلال وإكبار يا رفيق.