أشعار: قصائد لجيمس جويس بالعربيّة
غنايم: المجموعة الأولى مكّنته من الكشف عن روحه الغنائيّة الهائمة في الطبيعة، ومكّنته الثانية من خوض تجربة التركيب اللغويّ المعقّد، والتستّر خلف الاقتصاد الشعريّ ليكتب أحداثًا سيريّة
.
تحتَ عنوان أشعار، صَدرت مؤخّرًا (2013) عن دار الجَمل ترجمة هي الأولى من نَوعها للرّوائيّ الإيرلنديّ جيمس جويس، اختارتها وترجمتها وقدّمت لها المترجمة ريم غنايم. يضمّ هذا الكتاب أوّل ترجمة عربيّة لأشعار جويس الأكثر شهرةً. والكتاب عبارة عن ترجمة لمجموعتين شعريّتين كُتبتا في سنوات مختلفة، هما “موسيقى الحجرة – Chamber Music”، و”أشعار رخيصة – Pomes Penyeach”، وثلاث قصائد أخرى منفردة هي: “هو ذا الطّفل – Ecce Puer” و”المحكمة المقدّسة – The Holy Office”، و”غاز من موقد – Gas from a Burner”.
موسيقى الحجرة هي أول عمل يُنشر لجويس، وأوّل مجموعةٍ شعريّةٍ يُصدرها؛ تتكوّن المجموعة من ستٍّ وثلاثين قصيدة، يغلب عليها الطّابع الرّومانطيقيّ، وينفرد فيها صوت الشّاعر وحيدًا في البراري والطّبيعة، متغنّيًا بالحبّ والحبيبة. كتب جويس هذه الأشعار بين الأعوام 1901-1906، والظّاهر في قصائد هذه المجموعة قدرة جويس على الذّهاب في أقصى الاتّجاه المعاكس لثوريّته وتجديده في مجال النّثر، حيث تظهر الغنائيّة، والحبّ وحالة الانسجام مع الذّات ومع الطّبيعة والإيقاع الموسيقيّ، أي مع كلّ ما يثور عليه جويس في نثره.
أما بالنّسبة لقصائد أشعار رخيصة (Pomes Penyeach)، فهي عبارةٌ عن مجموعةٍ مكوّنةٍ من ثلاث عشرة قصيدة، نشرت عام 1927، وقد جُمِعَتْ هذه القصائد في الوقت الّذي كان فيه جويس منهمكًا في كتابة “يوليسس”؛ وقد كتب جويس قصائد المجموعة في اثنتي عشرة سنةً امتدّت من عام 1912 حتّى عام 1924. يغلب على هذه القصائد الطّابع الذّاتيّ والسّيريّ، وهي تمسّ مواضيع عاطفيّةً ووجدانيّةً تعكس حالة جويس على مدار سنوات، ورغم أنّ قصائد هذه المجموعة لم تنجح في جذب النّقّاد، إلّا أنّها عبّرت بصدقٍ وقوّةٍ عن عواطف جويس وقت تأليفها، وقد جرى تبنّيها موسيقيًّا كما حصل مع قصائد موسيقى الحجرة.
أمّا عن “المحكمة المقدّسة” و”غاز من موقد” فهما قصيدتان تحويان جرعة كبيرة من السخرية الموجّهة تجاه الكنيسة الكاثوليكيّة ومحاكم التفتيش وشعراء النهضة الأيرلندية والناشرين ودور النشر. ففي تناقض صارخ مع المثالية والعاطفية للأدباء الذين يسعون لإحياء التقاليد الأيرلندية، يقدّم جويس صورة أكثر حقيقيةً للواقع، مفترضًا دور الكاتب النزيه الذي يهدف إلى فضح النفاق الذي رآه في الأوساط الأدبية في دبلن.
تبقى قصيدة “هو ذا الطّفل” (Ecce Puer)، ويُلمح جويس من خلال عنوان هذه القصيدة إلى عبارة فونتيوس بيلاطس الشّهيرة Ecce Homo (هو ذا الإنسان)، مقدّمًا يسوع إلى الجماهير قبل أن يُصلب. كتب جويس القصيدة عام 1932، عندما وُلد حفيده ستيفن، وبعد أن توفّي والد جويس بفترةٍ وجيزة؛ وتُبرز القصيدة حالة انتقال رجلٍ (هو جويس) من كونه ابنًا إلى كونه جدًّا، وتمزّقه بين فرح الولادة وحزن الموت، مدركًا في النّهاية ضرورة المصالحة والصّفح.
نظر جويس إلى الشّعر نظرةً فوقيّة، ويمكننا أن نلاحظ هذا الاستعلاء في عنوان مجموعته الشّعريّة الثّانية “أشعارٌ رخيصة”، رغم أنّ لهذه التّسمية تفسيرًا (فقد تقاضى جويس شلنًا لقاء كلّ قصيدة في هذه المجموعة، وجاء العنوان تعبيرًا ساخرًا عن المبلغ الذي تقاضاه جويس من دار النّشر “شكسبير وشركاؤه” لقاء هذه المجموعة)، إلّا أنّ العنوان بحدّ ذاته يعبّر عن موقف جويس من الشّعر. لمَ إذن يكتب جويس الشّعر وهو يقيمُ للنّثر وزنًا أكبر؟ تُجيب المترجمة عن هذا السّؤال: “في رأيي لم تكن هذه المسألة سوى (تصفية حساب) مع الشّعر، أراد منها جويس أن يُثبت فحولته في الشّعر قبل أن يكتب النّثر وبعده، وقد مكّنته المجموعة الأولى من الكشف عن روحه الغنائيّة الهائمة في الطّبيعة، ومكّنته الثّانية من خوض تجربة التّركيب اللّغويّ المعقّد، والتّستّر خلف الاقتصاد الشّعريّ ليكتب أحداثًا سيريّة لا يمكن أن يفهمها القارئ البسيط إذا لم يكن مطّلعًا على خلفيّة هذه القصائد، فيما جاءت القصائد الأخرى تعبيرًا ساخرًا وهجائيًّا ونقدًا لاذعًا للمؤسّسة الأدبيّة الإيرلنديّة، بأدبائها ونقّادها والفاعلين فيها. هناك قصائد كثيرة لجويس كتبها في الصّحف والدّوريّات لم تدخل في هذا الكتاب، لأنّني في نهاية المطاف أردتُ أن أنقل للقارئ العربيّ روحه في الشّعر الّتي تراوحت بين الغنائيّة الّتي غابت عن نثره، وبين السّيريّة المؤلمة، وبين النّقد والهجاء. كان جويس ذاتًا حسّاسةً مكلومةً تعاني عقدة الذّنب على الدّوام، واستطاع عبر الشّعر أن يبوح بعفّةٍ وخفّةٍ عن هذه الذّات المستتّرة وراء صخبها اللّغويّ وعظمتها الإنسانيّة.”
ومن قصائد الكتاب ننشر القصائد التّالية:
.
|جيمس جويس|
|ترجمة: ريم غنايم|
(1)
كلّ شيءٍ تبدّد
سماءٌ تخلو من الطّير، غسقٌ، ونجمٌ وحيدٌ
يثقبُ الغربَ،
فيما أنتَ، أيّها القلب الكَلف، لا زلتَ على نحوٍ باهتٍ
تتذكّر أيّام الحبّ.
.
نظرةُ العينين الرّقيقة الفتيّة الصافية، والجبهةُ الصادقة،
والشّعر الشذيّ،
يتدلّى كما الصّمت يسقط الآن عبر
عتمة الجوّ.
.
لمَ إذن، وأنت تذكر تلك
المفاتن العذبة الحييّة، تشكو
لمّا استسلمت حبيبتك بتنهيدةٍ
كانت للجميع إلّاك؟
.
(2)
XX
لو كنّا نستلقي
في غابة-صنوبر معتمة،
في عمق ظلّ ظليل
ظهرًا.
.
ما أعذب الاستلقاء هناك،
وما أعذب تبادل القبل،
حيث حرشُ الصنوبر الهائل
مصطفٌّ!
.
وقبلتك ازدادت
عذوبةً
بفوضى رقيقة
من شَعرك.
.
أوه، إلى غابة الصنوبر
ظهرًا،
تعالَي معي الآن،
يا حبيبتي، إلى هناك.
.
(3)
هو ذا الطّفل
من الماضي المظلم
يُولد طفلٌ؛
بفرحٍ وأسى
يتمزّق قلبي.
.
ساكنًا في مهده
يرقد الحيّ.
ليت المودّة والرّحمة
تفتحان عينيه!
.
حياةٌ غرّة تتنفّس
على الزّجاج؛
العالم الّذي لم يكن
آتٍ ليمرّ.
.
طفلٌ ينامُ:
عجوزٌ رحل.
.
أيّها الأب المتروك،
اِصفح عن ابنكَ!