من “الثورة المهديّة” إلى وقائع الحاضر: عن روايتيْ “شوق الدرويش” و”أورفوار عكّا”/ هدى الشّوا
كلتا الروايتين تتحكم بمدنهما سلطات طاغية تحيل سكانها إلى بشر مسحوقين، ورصدتا ظهور قيادات وزعماء محليين ضمن لعبة القوى العظمى
>
|هدى الشّوا|
قلّة من الروايات العربية تناولت الواقع المعيشي تحت حكم الدولة العثمانية وفترات الحكم التركي، أو تطرقت إلى الحركات التحررية الشعبية ضد «الدولة العليّة» وحكامها وولاتها العثمانيين، الذين طالما حكموا بالنار والحديد. لكن ثمة روايات ظهرت مؤخرا تناولت الأحداث التاريخية في نهايات القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، ورصدت ظهور قيادات وزعماء محليين ضمن لعبة القوى العظمى.
من أجمل هذه الروايات روايتا «أورفوار عكا» لعلاء حليحل من فلسطين، ورواية «شوق الدرويش» لحمّور زيادة من السودان، وكلاهما اتكأ على أحداث تاريخية مفصلية لخلق شخصيات روائية لا يمكن نسيانها بسهولة. ترسم رواية حليحل بمشهدية درامية عالية دواخل النفس المضطربة والهشة للوالي أحمد باشا الجزار، الحاكم في قصر السراي الحجري المُطلّ على ساحل عكا في شمال فلسطين.
العام هو 1798، والوالي يتأهّب لمواجهة قوات نابليون بونابرت المحاصرة للمدينة. بينما في رواية «شوق الدرويش» يتربص الحاكم البريطاني في السودان غوردون باشا، الذي لا يقل بطشا ودموية، في السراي الحجري في الخرطوم منتظرا حملة إنقاذ لا تأتي.
كلتا الروايتين تتحكم بمدنهما سلطات طاغية تحيل سكانها إلى بشر مسحوقين.
لكن لا نقرأ هذه الروايات لإضاءة حقبات دموية من تاريخ شعوبنا المشتركة في همّ التحرّر من الاستعمار، سواءً أكان بوجهه الأجنبي/غير العربي (الدولة العثمانية) أم بوجهه الأجنبي/ الغربي (الاستعمار الأوروبي) فحسب؛ ولا نقرأها فقط للكشف عمّا ترتب عن هذه الانتفاضات والثورات من خلق وعي قومي ووطني جديد في التصدي للمستعمر الأجنبيّ، وتداعيات هذه الثورات الجسام، سواء نشوء حركات دينية متشددة وتحالفات قوى مذهبية وقبائلية وعشائرية، دمّرت وقتلت أكثر مما بنت وعمّرت.
فبالإضافة إلى الأسئلة الكبرى التي تطرحها رواية «شوق الدرويش» إبان فترات حكم الاستعمار البريطاني والثورة المهدية في السودان سنة 1889، تأسرنا حكاية حب بين البطلة المصرية/ اليونانية ثيودورا، والعبد الدرويش منديل بخيت. وتقودنا رحلة ثيودورا التبشيريّة إلى أماكن جغرافية في سودان يعاد تشكيلها اليوم. وتبقى المقدرة السردية الروائية في تشكيل عوالم خياليّة مفعمة بجماليات الأمكنة وهشاشة النفس البشرية.
فكما صعدنا أسوار عكا الحجرية التي تتلألأ ليلا على ساحل البحر مع جنود الجزار في «أورفوار عكا»، توغلنا في «شوق الدرويش» جنوبا في مسيرة سودانية عبر مدن أسطورية يسكنها الجنّ، وتظللها أشجار الدوم، وتشقّها قوافل إبل يمتطيها رحّالة غرباء يدفعهم يقين الرسالة التبشيرية لهداية «أرواح أطفال السودان السمر» كما تصف الرواية. نتساءل: هل ترك هذا اليقين، سواء التبشيري منه أو يقين المخلّص المهدي، ندوبا استحالت شرخا مزّق الشمال عن الجنوب في السودان المعاصر؟ ثم نحاول أن نصل خطوطا بين سراي قصر حجري بناه والٍ عثمانيّ وسكنه مستعمر أجنبي على شاطئ النيل في السودان، وسراي حجري بناه والٍ عثمانيّ آخر يربض على سواحل عكا في فلسطين، ويسكنه مستعمر آخر.
صدرت رواية «أورفوار عكا» لعلاء حليحل عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع – 2014، وصدرت رواية «شوق الدرويش» لحمور زيادة عن دار العين للنشر- 2014، وجاءت ضمن القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربية.
(عن “القبس” الكويتيّة)