مدخل لاستخدامات التحليل النفسي في النقد السينمائي (1)/ هشام روحانا
ما بين اللذة البصرية والسينما والسرد، تقاطعات وفرضيات تقوم عليها قدرتنا على التمتع البصريّ واستقبال ما تبثه لنا السينما بعناد واستمرار: فيض لا ينتهي من المؤثرات البصرية…
(ننشر هنا القسم الأول من هذا المدخل على أن ننشر القسم الثاني يوم السبت القادم، 17 كانون الثاني الجاري)
|ترجمة وإعداد: هشام روحانا|
أ) تُشكِل هذه المقدمة بجُزئيها مدخلا نظريا نراه ضروريا لثلاثة مقالات أساسية في نظرية النقد السينمائيّ الذي يعتمد التحليل النفسيّ والنقد النسويّ، وهذه المقالات هي:
1- مقال “اللذّة البَصرية وسينما السَرد“، للناقدة لورا مالفي (Laura Mulvey)؛
2- الجُزء الأول من المقال “التحليل النفسيّ والفيلم: مِرآة من نوعٍ جديد“، للناقدة باولا ميرفي (Paula Murphy)؛
3- الجُزء الثاني من المقال “التحليل النفسيّ والفيلم: الانعكاسات وتفنيدها“، لنفس الناقدة، وسيتم عَرضها تِباعا.
يتبع هذه المقالات الثلاثة مقالان تلخيصيان اثنان: الأول حول التَحولات التي مرّت بها “نظرية المُشاهِد“، والثاني حول تأثيرات ماركسية ألتوسير البُنيوية على نظرية الفيلم.
ب) تركّز المقدّمة على بعض المفاهيم الاساسية والتي سيجري تداولها من جوانب عديدة في هذه المقالات الثلاثة، ونرى ضرورة أن نَعرِض لها بشكل أوليّ وسريع. وفي كلّ الأحوال عندما يجري الحديث عن مفاهيم إضافية كمفهوم الرمزيّ والخياليّ والواقعيّ وأيضًا مفهوم التماهي؛ فالإشارة هنا لهذه المفاهيم كما يَنظُر ويُنظِر لها لاكان. للمزيد يمكن النَظر عبر هذا الرابط وحول التماهي إلى هذا الرابط.
-I-
النظرة المحدّقة وانحرافات الدافع البصريّ
النظرة المحدقة Gaze
يتبنى تيار واسع من النقد السينمائي النفس تحليلي في سنوات السبعين (مثلاً Meltz, 1975) إضافة إلى النقد السينمائي النسويّ، مفهوم النَظرة المُحدِقة للاكان (يُنظر،Rose 1986,Mulvey, 1975). لكن في المُجمل يجري الخلط بين مفهوم المصطلح لدى لاكان بذاك الذي لدى سارتر، وبإضافة أفكار أخرى بخصوص البصر كأفكار فوكو حول الاشتمال (Panopticism). والاشتمال (Panopticism) هو تعميم لمفهوم ما قد يجري في سجن نموذجيّ، يكون نُزلاؤُه عِرضة للمُراقبة المُستمرة، مكشوفين بالكامل ومُعرّضين للعِقاب، كذلك هي بالنسبة لفوكو الآليات التي تقوم فيها المراقبة بوصفها جهازًا يفرض سُلطته على تابعيه فيغدو الشخص “موضوعًا للمعلومات وليس ذاتا لأيّ عملية تواصل”. ويضيف فوكو أيضًا:
.
.
بالنسبة لسارتر فإنَّ النظرة هي ما يُمكِن الذاتَّ من إدراك أنّ الـ آخر هو ذاتٌّ أيضًا: “من الضروري أنّ تكون علاقتي الأساسية مع الـ آخر كذاتّ قَابِلة لأن تُنسب وبأثر إرتجاعيّ إلى الإمكانية الدائمة لأن يتمّ النظر إليّ من الآخر” (Sartre 1943). عندما تُفاجئ الذاتّ بنظرة الآخر إليها، فإنها “تُختزل خجلاً” والنظرة وفق سارتر لا تتصل بالضرورة مع العضو المسؤول عن النظر:
.
.
أما لاكان فإنَّه يُطور رُؤية خاصة به حول النظرة، رُؤية تختلف جوهريًا عن رُؤية سارتر. ففي الحين الذي يربط سارتر النظرة بعملية الإبصار فإنّ لاكان يعزلهما عن بعضهما البعض بحيثُ تغدو النظرةُ المُحدقةُ موضوعًا لفِعل الإبصار أو ولمزيد من الدقة، موضوعاً لدافع الإبصار.
وفقاً للاكان فإنّ النَظرة المُحدِقة لا توجد في طرف الذاتّ، بل هي نَظرة الـ آخر. وفي حين يساوي سارتر ما بين رؤية الآخر والانكشاف لعينيه، فإنّ لاكان ينظر إلى هذه العلاقة كعلاقة مفارقة بين النَظر والعين؛ العين التي تنظر هي عين الذاتّ، فيما توجد النَظرة المُحدِقة في جانب الموضوع، لا وجود لتطابق فيما بينهما إذ ” أنك لا تنظر إليّ أبداً من نفس الزاوية التي أنظر أنا منها إليك” (السمينار الحادي عشر، عام 1964). في الوقت الذي تنظر الذاتّ فيه إلى الموضوع، فإنها تغدو هي في حالة المنظور إليها من قبل هذا الموضوع ولكن من تلك الزاوية التي لا تستطيع هي أن تراه فيها. إنّ انعدام التطابق هذا، ليس هو إلا الإنقسام القائم في الذاتّ والذي يُعبَّرُ عنه هنا في مجال الرؤية.
Scopophilia (حُبّ النظر)
في مقالته الأصليّة ” ثلاثة مباحث حول نظرية الجنس“، حدّد فرويد “حُبّ النظر” كمكوّن من مكوّنات الغرائز الجنسية والموجودة كدافع قائم بشكل مستقلّ. وربط فرويد انحرافات الدافع البَصري باتخاذ أناس آخرين مواضيعَ، مُعرِضا إياهم للنَظرة المُحدِقة المُراقِبة والفُضولية. وتركزت أمثلته المُخصّصة لذلك حول نشاطات الأطفال التلصُّصية ورغبتهم بالنظر إلى ما هو خاص وممنوع. وفي هذا التحليل يتصِف الانحراف بالفعالية. يُطوّر فرويد فيما بعد وفي “الغرائز وتقلباتها” نَظريته حول انحرافات الدافع البَصريّ ليربط بينها وبين تحوّلها اللاحق إلى الشكل النرجسي. وبرغم أنَّ هذا الدافع -وبتأثير عوامل إضافية وخصوصًا تكوين الأنا- يتغير متقلبا، إلا أنه يواصل وجوده كقاعدة شبقية للذّة المُتحققة من النَظر إلى الآخرين بوصفهم موضوعيًا. وفي شكله الأكثر تطرّفا يتم تثبيته على شكل انحراف جنسيّ في هيئة المُتلصّصين القهرين وPeeping Toms، حيث يكون الاشباع الجنسي الوحيد ممكنا فقط من خلال المُشاهَدة بمعناها الفعّال والمتحكم، حيث تجعل هذه المُشاهَدة من الآخر موضوعًا (شيئًا، غرضًا).
Objectification- التَشييء
والمعنى هنا هو هذه العملية التي تجعل من الذاتّ الانسانية موضوعًا تغدو قيمته قيمة مادية للتبادل وذات طابع بضائعيّ، حيث يغدو العبد بضاعة يمتلكها السيّد، وفي سينما التيار المركزي-التقليدي يتم تمثّل المرأة كموضوع، موضوع إثارة واشباع للذّة التلصُصية لدى المُشاهِد والتي يُتيحها ويُهيء لها التماهي الخيالي ما بين المُشاهِد والبطل-الرجل في الحكاية السينمائية. تتشابك وتتبادل كلتا النظرتان، نظرة البطل الرجل داخل المشهد، مع نظرة المشاهد في الصالة إلى الشاشة، إلى الموضوع. يتصل التشيُؤ بالتلصُص التلذذي القهري (Voyeurism) والفيتيشية (Fetishism).
Voyeurism- التلصُص التلذذي القهري
هذا هو الشكل الأكثر تطرّفا لانحراف الدافع البَصريّ، حيث لا يتم الاشباع الجنسيّ إلا من خلال التلصُص على الآخر بوصفِه موضوعًا، أي بعد أن تَمت تَشيئته (غَرْضَنته)، وعادة ما يكون الموضوع عاريًا أو عاريًا جزئيًا وهو في الجانب الخامل من المعادلة. أما المُتلصِص فهو في الجانب الفعّال والمتحكم بالنظر، الا انه يحافظ على مسافة تفصله عن موضوعه.
يُحلل البعض صناعة السينما ومشاهدة السينما وينتقدها بوصفها ممارسة تلصُصية تلذذية. وتهيئ ظروف المُشاهَدة في صالة العرض والعتمة المُحيطة بالمُشاهِد النَاظرَ إلى الشاشة -التي تُشبّه بالنافذة- للمُمارسة التلصُصية. وتذهب أفلام الرعب بالممارسة التلصُصية إلى حدودها القُصوى حيث يجري عرض لقطات المَشهد من زاوية نظر الوحش/القاتل.
Fetishism- الفيتيشية
تدلّ الفيتيشية هنا على تثبيت الرغبة الجنسية في غرض يتضمّن إحالة جنسية، كقطعة ملابس داخلية أو حذاء أو في عضو جسديّ، كالشعر مثلا أو القدم، فلا تتمّ الإثارة الجنسية ولا يتمّ الإشباع الجنسي إلا بحضوره. على أن لمفهوم الفيتيشية استخدامات أخرى في الانثروبولوجيا حيث تُعزى في الديانات الوثنية قيمة رمزية للوثن أو الصنم. وفي مفهومها الماركسي يجري الحديث عن فيتيشية البضاعة حيث تغدو للبضاعة قيمة خارج قيمتها كعلاقة اجتماعية بين منتوجيْن، بل تغدو قيمتها وكأنها صفة قائمة بذاتها تماما كلونها أو وزنها.