عندما لم يقفز الملاكم في البحر/ هشام البستاني
قراءة في مجموعة “بين البيوت” القصصية لإياد برغوثي
عندما لم يقفز الملاكم في البحر/ هشام البستاني
.
|هشام البستاني|
1- لست معنياً بشرعنة نفسي أمامكم
يكتب إياد برغوثي في مقدمة مجموعته القصصية “بين البيوت”، أنّه آثر نشر هذه المقدمة لأنها “بوابة مدينتي الخاصة ودليل غير سياحيّ لزوارها، ولأنها ستسهّل على قرائي المتخيلين فهم السياق”.
ليس من الضروري أن يُفهم سياق العمل الأدبي بحسب الأرضية التي يضعها مؤلفها الأصلي لها، فحسب المؤلف أن يعمل الأدب الجيّد على فتح آفاق ذهنية ومعرفية وتخييلية واسعة للقارئ، فيما يقوم هذا الأخير بالتحليق والنبش والتدبّر. وعندما نفرد المدينة على صفحات كتاب، فهي بالتأكيد ستتوقف عن كونها “مدينتنا الخاصة”، وسنفقد أيضاً المكان المحدد المسمى “الباب” والذي يفترض به أن يُدخلنا إليها. لن يعود لهذه المدينة “باب”، فكل منّا سيلج النص –الذي يصير بالقراءة حرثاً لقارئه- من أينما شاء.
لكن ثمة ضرورةٌ لا تحتمل الالغاء لتلك المقدمة/الرسالة التي ثبّتها إياد قبل قصصه، ضرورة نابعةٌ من سوء فهمٍ تاريخي وعزلة طويلة عاناها وما يزال كل من بقي “هناك”: داخل الخط الأخضر، داخل فلسطين المحتلة عام 1948، داخل مناطق الـ48، أو داخل أي اسمٍ تريدون أن تطلقوه على تلك البقعة الجغرافية من المشرق العربي التي تأسس عليها الكيان الصهيوني المسمى “إسرائيل”.
التباس الجغرافيا هذا سيقودنا بالضرورة إلى التباس أعمق: التباس الهوية؛ عرب 48، فلسطينيو 48، عرب إسرائيل، الأقلية العربية في إسرائيل، “فلسطينيو الهوية – اسرائيليو المواطنة”… يرفض إياد في مقدمته الكتابة حول كلّ هذا، رافضاً بذلك التصوّرات والنماذج المسبقة عنه وعن من هو منهم. هذا المنطق لا يعنيه. ليس على من بقي أن يبرّر نفسه وأن يحشرها في سياقات لم يصنعها هو؛ العربيّ/الإنسان، الأصيل في الأرض والممتد فيها، هو “الثابت” لا “المتحوّل”، هو “الإجابة” لا “السؤال” – سؤال الهوية والمواطنة والأصل والجغرافيا والتاريخ يُطرح على الطارئ المستوطن المحتل. “إسرائيل” هي التي يجب أن تتلعثم وتتأزم وتتفذلك ويحمرّ وجهها، وأن تطحن ذاتها وتذوب بحثاً عن إجابة مستحيلة.
مقدمة/رسالة إياد جاءت ضرورية لتصدير الأزمة – أزمة الهوية- باتجاهات ثلاث:
الاتجاه الأول نحو القارئ الذي يجهل على الأغلب كيف تعيش هذه الكائنات “الفضائية” التي بقيت في الـ48، ما هي تناقضاتها، أزماتها، جدلها الداخلي، بعيداً عن الشعاراتية والمثالية، أو في المقابل التخوين والاتهامية، التي تحكم في المجمل الموقف السطحي منهم.
الاتجاه الثاني لتصدير الأزمة هو نحو الفلسطيني الذي يعتقد أن فلسطين جاءت من الأزل لا من خرائط سايكس – بيكو والتقسيم الاستعماري وإنشاء الدول الوظيفية. معازل سايكس بيكو هي المقدمات الضرورية لمعازل الضفة وغزة ومعاول مناطق أ وب وج، وعزل عرب “الداخل” عن عرب “المحيط”. إياد هنا يبحث “عن فتحة في جدار العزلة” ليصل إلى “ساحة التواصل مع عالمه العربي”، بيته الذي تعب في البحث عنه ولم يجده، وما زلنا نبحث كلنا عنه… فيما يفكر بطل قصة “وحيد في ليلة حرب مملة” أنه “كان من الممكن أن يكون لبنانياً لو كان سايكس أكثر تسامحاً مع بيكو قبل 90 سنة”، مجرد أوطان كرتونية يقيسها القاص بكمية البنزين المعبأة في صاروخ الكاتيوشا الذي أطلقه حزب الله قبل قليل، المدى الضيق للصاروخ (10 – 22 كلم) هو مدى الوطن المفبرك وهويّته.
أما الاتجاه الثالث لتصدير الأزمة فهو باتجاه “اسرائيل”: الأزمة الأصلية والخطيئة الأصلية، فلتأكل نفسها بنفسها، وليس على الفلسطيني/العربي/الانسان إلا الانسحاب من لعبة السؤال المعكوسة هذه.
.
2- بين البيوت، لا فيها
يبحث أبطال قصص مجموعة “بين البيوت” عن بيت ولا يجدوه.”أين سنسكن؟”… ذلك السؤال الذي تطرحه الصبية على حبيبها منذ القصة الأولى سيظل صداه متردّداً بين الصفحات، معبّراً عن سؤال عميق آخر يتصل بجدلٍ مرٍّ مع المكان/الدولة/الهوية/النحن/الأنا. كل هذه العناصر لا تنسجم، لا عندنا ولا عند عرب الـ48، فنحن نعيش في بلاد لم نصنعها، وفي ظل أنظمة حكم لم نخترها، وفي سياق مجتمعات قاسية غير متسامحة مع انماط التفكير المغايرة، وبقوة هويات مفبركة قاتلة.
كلنا نعاني هذه التداعيات، لكن من يسكن الداخل الفلسطيني سيحمل على ظهره صخرة أضافية. الشاب في قصة “الشريط البرتقالي” يحب المدن الكبيرة، لكنه “مسجون في تلك البلاد الضيّقة”، بلاد العنصرية والقمع والاحتلال والاستيطان، والهجرة (إن فكر بها) هي “استفزاز لمثالية الباقي والصامد والمستمر”. عربي الـ48 محرّمٌ عليه أن يُهاجر. هجرته خيانةٌ رمزية لمعنى وجوده وكومة المعاني الأخرى المحمّلة عليه، فترد عليه بطلة قصة أخرى هي قصة “الشال الأبيض“: “لا لا… هادا مش هرب، إحنا مش بسجن والعالم كله إلنا مش بس هاي البلاد التعبانة”.
هنا يُبرِز القاص بحساسية عالية زاوية جديدة لم أقرأها من قبل في مكان آخر: حين يتحوّل “الوطن” (الذي ليس هو وطنًا حقًا) إلى سجن طوعي، ويتحوّل البقاء وصراع البقاء إلى عبء اختيار عدم ممارسة الحرية، فعرب الـ48 لا يملكون المغادرة، لا لأنهم لا يستطيعون، بل لأن لمغادرتهم معنى سياسيًا بالقوة، وسيحمّل هذا المعنى على الفعل أيًا كان قصده أو نواياه المؤسِّسة.
عندها يختفي العالم، وتتبخّر البيوت، ويتقلّص كل شيء ليبقى الحبيب/الحبيبة السائرين بقوة ثنائية بين البيوت (وهو اسم المجموعة)، ويظلان هناك، بينها، لا فيها، فهم لم يجدوها بعد. في قصص إياد لا شيء مؤكد سوى ذاك الحبيب/الحبيبة المتحوّل بيتًا: من الإهداء إلى آخر صفحات المجموعة، وسيكتب الحبيبان كتابهما في قرية مهدّمة هي قرية “سيدنا علي”، وسيسكنان في بعضهما.
هنا مأخذي الرئيسي الوحيد على القاص: وسط دوامة المكان/المدينة/المجتمع المدوّخة، نشعر بفصل ما بين الناس وبين معنى المكان/المدينة/المجتمع، رغم أن الناس هم الذين يسبغون عليها تناقضاتها وبشاعتها وضيقها أو نقيض كل ذلك. يهرب شخوص القصص وبشكل دائم، وبرومانسية متفائلة، إلى بعضهم البعض، غالباً في صيغة حبيبين، وكأن إنسان المكان واقع بشكل دائم تحت سطوة المكان الكاسحة من جهة، وكأن احتواء الحبيب لحبيبه قادر على تعويض كل الأبعاد والتشابكات الأخرى التي يفرضها وجود إشكالي من هذا النوع. ورغم المرارة الواضحة المبثوثة في جنبات القصص وطبقاتها المتعددة، فإنها في النهاية تميل إلى النهايات السعيدة أو المتفائلة، منتشلة قارئها ببساطة، من الدوامة المُحكمة التي برع القاص في صنعها.
.
3- فلسطين أُخرى، فلسطين الحقيقية
بلادٌ ضيّقة. بلادٌ تعبانة. في قصص إياد نتلمّس فلسطين أخرى، فلسطين حقيقية، فلسطين لا أسطورية، بها نقفز مع الأطفال في البحر من فوق أسوار عكا ونتعرّف على إدمان المخدّرات المتفشي كالسرطان بين الشبان العرب (قصة “وجبة مصيرية“)، نشاهد العربي الذي يركب الباص في تل أبيب وكيف يحوّله الركاب اليهود مباشرة الى مشروع قنبلة موقوتة، وهو الراكب الخائف في باص ممتلئ بقامعيه يصير فجأة مُخيفًا (قصة “سرد أحداث أزمة معلنة“)، نشاهد الفلاحين إذ يتحولون إلى عمالٍ بنوا المدن اليهودية على أراضيهم المصادرة (قصة “الشريط البرتقالي“)، نسمع الجار يشتم جاره الذي اعتُقل ابناءه للتو فأجبره ذلك بحكم الواجب الاجتماعي على اللحاق به إلى المخفر مُضيّعًا عليه متابعة المسلسل الرمضاني (قصة “شتائم“)… ثمة فلسطين منحوسة في قصة “الشال الأبيض“، لا يسقط فيها الثلج بعد أن ترك بصمته البيضاء في لبنان وسوريا والأردن: فلسطين منحوسة بالاحتلال، منحوسة بالانفصال عن امتدادها الطبيعي، منحوسة بالالتباس، منحوسة بالانقسامات، منحوسة بالطائفية… وعندما تُستعاد، ستتغطى بذلك الغطاء الأبيض الذي سيجمعها بدفء مع أخواتها/مع نفسها. حينذاك فقط، ستُثلج على الناصرة.
في قصص إياد نتلمّس فلسطينيًا آخر أكثر حقيقية من لحم ودم: واحدٌ طبيب، وآخر مدمن مخدرات، أحدهم عميق وآخر سطحي، واحد يشتم، وآخر يعاكس البنات.
في قصص إياد نتلمّس زاوية نظر جديدة لبطولة جديدة: أن ترفض إنجاب ابنٍ “في وطن صادروه منه وغيّروا اسمه، ليكون مواطنًا في دولة تعتبره قنبلة ديمغرافية، وفي مدينة منقسمة إلى طوائف، وفارغة..”.
.
4- من قلب الواقعية نكتشف سوريالية الواقع
في مقطع من قصة “سرد أحداث أزمة معلنة” نشاهد “أزواجًا شقرًا يبحثون عن مقهى… صبية تلبس الأسود عيناها مكحلة وشاب يتجاهلها بشعر مجدول كالراستا الافريقية.. شلة عمال من تايلاند ترمي شواقل على كرتونة يسكن عليها معدمُ بيتٍ تل أبيبي… موسيقى تكنو وأعلام اسرائيل صغيرة وليل. وحده يمشي.. يتلوى على السرير..”.
تتجلى هنا سوريالية العالم الحقيقي الذي يعيش فيه بطل القصة، عالم فلسطين الـ48 التي صارت “إسرائيل”: العامل الوافد الذي يتصدّق على مستعمرٍ وافد، ومستعمرٌ آخر يتبنى هوية ثقافية كاريبية/افريقية سوداء، وبطلنا يمشي في الشارع ويتلوّى على السرير في ذات الوقت… هذه ليست لوحة لسالفادور دالي. هذه لحظات كل يوم في شارع في تل أبيب.
أكان بطل القصة يحلم؟ أهو مستيقظ؟ الالتباس يمتد: التباس اليقظة والحلم، البيت واللابيت، المكان واللامكان، الحرية والسجن، وقطعاً: الهوية. والتباس الهوية هذا يمتد أبعد وأبعد وأبعد: إلى العدو/المستعمر/المستوطن، فها هي اليهودية العراقية تنسل إلى المقهى اليساري تبحث عن هويّتها فيه عند العرب (قصة “سرد أحداث أزمة معلنة“). أما في ساحة النزال والملاكمة (قصة “ضربة قاضية“) يصير هؤلاء العرب ضد العرب، “المضطهَدون” كيهود من درجة ثانية يصيرون أعداء شرسين لـ”أبناء جلدتهم” من العرب المضطهَدين “المواطنين” من درجة عاشرة، وتضمحل تلك اليهودية العراقية خلف شتائم اليهود المغاربة في وجه أديب النسناس الملاكم بطل العالم: “عربي قذر” كانوا يصرخون بعبرية ذات لكنة عربية لتكتمل السخرية!
كما يمتدّ الالتباس أبعد وأبعد: في قصة “الشريط البرتقالي“، يرفع الإسرائيليون شريطًا برتقاليًا على سياراتهم ويربطونه على حقائبهم كناية عن معارضتهم لدولتهم التي تريد الانسحاب من غزة. بطلة القصة الفلسطينية تسرق شريطًا برتقاليًا من مستوطن صهيوني، تسرق شريطًا من السارق، تسرق شريط غزة (Gaza Strip). هي أيضاً لا تريد الانفصال عن غزة، فغزة جزء من أرضها أيضًا!
يمتدّ كل هذا الالتباس في كل الاتجاهات، لكنه عندما يقف على سور عكّا مواجهًا البحر، يتلاشى أمام حقيقة أولى كانت قبل كل شيء: قبل كل شيء كان هذا البحر/الشاهد الذي لا يموت، وكذلك حجارة الأسوار الباقية، فوقها أديب النسناس بطل العالم الحقيقي في الملاكمة وبطل القصة المتخيّل، لا يقفز، ولكنه يعرف.
بعد أن أسقطهم جميعاً بالضربة القاضية في تل أبيب (عاصمة الصهيونية) وباريس (عاصمة الاستعمار وتقسيم المشرق) ونيويورك (العاصمة الاقتصادية للإمبريالية الأمريكية المعاصرة)، يقف أديب النسناس على السور. هو البطل، لكن الميداليات للـ”دولة”. يأخذ قراره، ورغم “سجادة البحر السوداء” و”الأفق الذي لا يستجيب لنداء الفنار ولا لصرخته”، إلا أنه لا يقفز، فقط يعتزل الملاكمة، هناك بالذات: على السور وأمام البحر، ويعود للتأمل الداخلي.
هذا ما يريده القاص: أن تصل رسالته بأن الحياة لا تُختزل ببضع شعارات وصور مسبقة في الدماغ. الحياة كومة هائلة من التشابكات لم ينج منها البطل: بطل الملاكمة أو بطل الصمود أو البطل المؤسطر – البطل الفلسطيني المتخيّل وامتداده الأكثر تعقيداً البطل الفلسطيني في الداخل المتخيّل على مقاس عجزنا الذاتي. هذا ما يريده القاص: مرآة عكاوية نرى فيها انعكاس أنفسنا، لذا، حان الوقت لنفتح أعيننا على الواقع، وننتصر عليه.
.
• الكتاب: إياد برغوثي، بين البيوت، القاهرة/بيروت: ملامح لنشر وتوزيع الكتب، 2011.
(هشام البستاني: كاتب وقاصّ من الأردن. صدر له: عن الحبّ والموت (بيروت: دار الفارابي، 2008)، والفوضى الرتيبة للوجود (بيروت: دار الفاربي، 2010)، تصدر مجموعته الثالثة (أرى المعنى…) خلال أشهر عن دار الآداب.)