كيف يتكلم التابع؟.. مقابلة مع فيفك تشيبر
هذه ترجمة للمقابلة التي أجرتها الدورية اليسارية الامريكية “Jacobin ” في عدد نيسان 2013 مع استاذ العلوم الاجتماعي فيفيك تشيبر (Vivek Chibber) حول كتابه ’النظرية الما بعد وكولونيالية وشبح رأس المال” الصادر عام 2013 من دار النشر “Verso “ والذي خصّصه لنقد ’دراسات التابع‘(1) كتيار داخل ما بات يعف بالنظرية البوست كولونيالية. وقد أثار الكتاب الكثير من النقد والتقريض وردود الفعل والردود عليها في الأكاديميا وداخل حركات اليسار الناطقة بالإنجليزية
>
|ترجمة وإعداد: هشام روحانا|
حلت النظرية الما بعد كولونيالية (2) في العقود الأخيرة محل الماركسية بين صفوف المثقفين العاملين على نقد ودراسة العلاقة بين الغرب والعالم الغير غربي. وبما أنَّ منشأها هو دراسات العلوم الانسانية فإنها سرعان ما غدت صاحبة تأثير متعاظم في حقل الدراسات التاريخية، الانثروبولوجية والعلوم الاجتماعية.
نقدم هنا مقابلة مع فيفك تشيبر، أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة نيويورك ومؤلف كتاب ’النظرية الما بعد وكولونيالية وشبح رأس المال‘ (Postcolonial Theory and the Specter of Capital,2013 ). يركز فيفك تشيبر في هذا الكتاب على دراسته ويوجه نقده لفرع من فروع النظرية الما بعد كولونيالية والمعروف باسم ’دراسات التابع‘(3) ويؤكد على ضرورة مقاربة وفهم العالم الغير غربي من خلال نفس المفاهيم المستعملة لفهم العالم الغربي. ويستمر بالحفاظ والدفاع عن التوجه النظري الذي يركز على سريان مفعول المقولات النظرية العامة والتي تشمل أيضا راهنية مفهومي الطبقة ورأس المال. ويدافع في مؤلفه هذا عن الماركسية أمام اكبر نقادها.
يقع الادعاء القائل بعدم سريان مفعول المقولات النظرية ’الغربية‘ على مجتمعات العالم الما بعد كولونيالي كالهند مثلا، في لب النظرية الما بعد كولونيالية. على ما يستند مثل هذا الادعاء؟
تشيبر: إنَّ هذا الادعاء هو الادعاء الأكثر أهمية وبروزا في الدراسات الما بعد كولونيالية مما يجعل من أمر الاشتباك النقدي معها امرا ضروريا. لم يظهر في الفكر المرتبط باليسار في المئة وخمسين سنة الاخيرة تيار فكري يرفض الروحية العلمية وراهنية المقولات المرتبطة بأفكار حركة التنوير الليبرالية وحركة التنوير الجذرية؛ مقولات مثل مقولة ’رأس المال‘ ’الديمقراطية‘ ’التحرر‘ و ’الموضوعية‘. هنالك بعض الفلاسفة الذين وجهوا النقد لمثل هذا التوجه الا أنهم لم يجدوا لفكرهم جاذبية ذات شأن داخل اليسار. لكن النظريات الما بعد كولونيالية هي الأولى التي استطاعت أن تفعل هذا.
يعتمد هذا الادعاء على خلفية الفرضية الاجتماعية القائلة بأن مقولات الاقتصاد السياسي والتنوير ولكي تؤخذ بالحسبان فإن على النظام الرأسمالي الانتشار على عموم الكوكب. الأمر الذي يمكن أن نسميه ’’ تعميم رأس المال‘‘. ويسير هذا الادعاء على الشكل التالي: تعميم المقولات المرتبطة بأفكار التنوير يغدو شرعيا فقط عندما يتم تعميم النظام الرأسمالي. ترفض النظريات الما بعد كولونيالية أن النظام الرأسمالي قد جرى بالفعل تعميمه على الكوكب، والاكثر أهمية من هذا فإنها ترفض إمكانية حدوث هذا. وبما أنه لا يمكن تعميم رأس المال، فإنه لا يمكن تعميم مقولات مفكرين أمثال ماركس الساعية لفهم طبيعة النظام الرأسمالي. مما يعنيه هذا بالنسبة للنظريات الما بعد كولونيالية أن أجزاء العالم التي لم يصلها النظام الرأسمالي عليها أن تنتج مقولاتها الخاصة بها. والأبعد من هذا هو ما يعنيه اعتبار أمر محاولات النظرية الماركسية لإحلال مقولاتها على هذا الجزء من العالم ليست فقط بأنها خاطئة، بل هي أيضا أوروبية التمركز، وليس فقط أنها أوربية التمركز بل هي أيضا جزء من النشاط الكولونيالي والامبريالي للغرب. وعليه فإنها مرتبطة بالإمبريالية. إنه ادعاء ظريف حقا، ليوضع ضد اليسار.
ما الذي جعلك تقرر اختيار التركيز على ’دراسات التابع‘ لتقوم بنقد النظرية الما بعد كولونيالية بشكل عام؟
تشيبر: النظرية الما بعد كولونيالية هي مجموعة متنوعة من الافكار النظرية. وفي حقيقة الأمر فإن منبتها هو الأدب والدراسات الثقافية، حيث كانت بدايات تأثيرها هناك. ومن ثم انتشر تأثيرها الى مجالات إضافية كالتاريخ والانثروبولوجيا. ولقد انتشر تأثيرها هذا بسبب تأثير الثقافة والنظرية الثقافية منذ ثمانينيات القرن الماضي. وهكذا وفي نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات فإنَّ دراسات التاريخ الانثروبولوجيا والدراسات الشرق اوسطية ودراسات جنوب آسيا وقعت تحت تأثير هذا الاستدارة التي صارت تُعرف اليوم بالنظرية الما بعد كولونيالية.
وعندما تحاول ان تقدم نقدا نظريا فإنك تواجه إشكالية أساسية؛ فبسبب أن النظرية الما بعد كولونيالية متشعبة فإنه من الصعوبة أن تشير بالبنان الى ما هو مركزي في القضايا التي تطرحها، لكي تقوم بنقده. وهكذا فإن المدافعين عنها سيصدون أي نقد موجه اليها بالإشارة الى وجه آخر من أوجهها يكون لربما قد فاتك النظر فيه، قائلين بأنك اختيارك تقديم النقد في هذا الموضع بالذات كان خاطئا. ولهذا كان علي البحث عن مكون رئيسي في هذه النظرية- تيار ما داخل التنظير الما بعد كولونيالي- ذي ثبات ووضوح وتأثير كبير.
ولقد رغبت في التركيز على هذا البعد النظري الذي يتعلق بالتاريخ، وبالتطور التاريخي وبالبنية الاجتماعية وليس بالنقد الادبي. شكلت ’دراسات التابع‘ موضوعا ملائما لهذه المتطلبات؛ فهي ذات تأثير واسع داخل مجالات عديدة، وتتمتع بثبات نظري داخلي وتركز نظرها على التاريخ والبنية الاجتماعية. وعدى عن إنها تتمتع بتأثير كبير، جزئيا لأنها تمتلك اتساقا داخليا، ولا خلفية ماركسية لأنصارها، فإنها تصب معظم اهتمامها بالهند وبعض أجزاء العالم الثالث. الأمر الذي منحها قدرا كبيرا من المشروعية والمصداقية فإلى جانب أنها تشكل نقدا للماركسية فإنها تطرح في نفس الوقت طريقا جديدا يفسر ’عالم الجنوب‘. ومن خلال أعمال ’دراسات التابع‘ صار للتنظير الذي ينفي عمومية النظام الرأسمالي، وصار للادعاء بالحاجة الى مقولات محلية، مكانة معتبرة.
لماذا لم يتم بحسب منظري ’دراسات التابع‘ أنتشار وتعميم النظام الرأسمالي على المستعمرات؟ وما هو وضع هذه المجتمعات التي لم يصلها تقدم الرأسمالية؟
تشيبر: تقدم ’دراسات التابع‘ ادعاءين مختلفين لتفسير اعاقة تقدم النظام الرأسمالي وتعميمه على هذه المجتمعات. واحد من هذه الادعاءات يقدمه “راناجيت جوها” (Ranajit Guha) (4) حيث يحصر “جوها” تعميم حركية النظام الرأسمالي على عامل اجتماعي محدد، الا وهي البرجوازية، الطبقة الرأسمالية، والتي عليها أن تطيح بالنظام الاقطاعي وأن تقوم ببناء تحالف لا يضم البرجوازية والتجار فقط، بل ايضا العمال وفلاحي الريف. ومن خلال هذا التحالف فإن من المفترض أن يقوم رأس المال بإنتاج نظام اجتماعي جديد، لا يقوم فقط على الحفاظ على حقوق الملكية الخاصة للطبقة الرأسمالية بل وأيضا بتأسيس نظام ليبرالي ناجز وتام. وعليه ومن وجهة نظر“جوها” ولكي يغدو تعميم النظام الرأسمالي واقعا حقيقيا، فإنه يجب أن يتحقق هذا الامر بالممارسة من خلال صعود طبقة برجوازية تؤسس لنظام ليبرالي توافقي . يحل هذا النظام الجديد محل النظام الضارب في القدم ويعبر في شموليته عن مصالح الرأسمالية بوصفها مصالح المجتمع ككل. يحوز رأس المال، وفق “جوها” على اهلية التكلم باسم المجتمع بعمومه، ولا تسيطر فقط كطبقة، بل إن هيمنتها هي هيمنة على نحو لا تحتاج فيه الى الإكراه بالقوة من اجل بسط سيطرتها. وعليه فإن “جوها” يحدد تعميم النظام الرأسمالي في انشاء ثقافة سياسية شاملة. والنقطة المركزية بالنسبة له أنه في حين استطاعت البرجوازية في أوروبا فعل هذا الامر فإن برجوازية المستعمرات فشلت فيه. وبدل أن تقوم بالانقلاب على الاقطاع فإنها قامت بالاندماج معه والى جانبه وبدل أن تغدو القوة المهيمنة في تحالف عابر للطبقات فإنها فعلت افضل ما تسطيعه من اجل الحد من إشراك العمال وفلاحي الريف. وبدل أن تقيم نظاما توافقيا شاملا فإنها أنشأت نظاما سياسيا سلطويا لا يتمتع بالاستقرار. وحافظت على الهوة القائمة بين ثقافة الطبقات الدنيا وثقافة النخبة. وفي حين استطاعت البرجوازية في اوروبا التكلم باسم كافة الطبقات فإن برجوازية الشرق، وفق “جوها”، قد فشلت في تحقيق هذا الهدف، مما جعل منها طبقة مسيطرة ولكن غير مهيمنة. مما انتج في الشرق حداثة تختلف عن حداثة الغرب اختلافا جوهريا من خلال انتاج حراك سياسي مغاير، وهذه هي أهمية فشل تعميم النظام الرأسمالي.
يمكن القول إذا إنَّ ’دراسات التابع‘ تؤسّس ادعاءها على الدور الذي قامت به الطبقة البرجوازية في أوروبا وعلى فشل نظيرتها في مجتمعات العالم الما بعد كولونيالي؟
تشيبر: بالنسبة لجوها فإنّ الأمر هو بالفعل كما وصفته، وهذا ما تقبله مجموعة ’دراسات التابع‘ أيضا وعادة بدون مناقشة. أنهم يصفون الوضعية في الشرق على أنها وضعية تتميز بسيطرة البرجوازية لكنها تفتقد الهيمنة، بينما تحظى البرجوازية في الغرب بكلٍ من السيطرة والهيمنة.
لكن اشكالية هذا الطرح هي ان في لب هذا الادعاء، كما قلت أنت، هذا التوصيف لإنجازات البرجوازية في الغرب الذي يؤخذ وكأنه حقيقة لا غبار عليها. لكن لمثل هذا التوصيف وللأسف هنالك القليل مما يدعمه تاريخيا. في وقت مضى، في القرن التاسع عشر أو حتى في منتصف القرن العشرين كان هنالك العديد من المؤرخين الذين يقبلون هذا التوصيف لصعود برجوازية الغرب. ولكن في العقود الثلاثة او الاربعة الاخيرة تصاعد الرفض لمثل هذا التوصيف حتى بين صفوف الماركسيين. وإنه لمن المستغرب أن أعمال “جوها” كُتبت وكأن هذا النقد لهذا التوصيف لم يحصل أبدا. والاكثر غرابة هو أنه داخل مجال الدراسات التاريخية وحيث يوجد لـ ’دراسات التابع‘ تأثير كبير لم تجر مُساءلة هذا القاعدة المُؤسِسة لمشروع ’دراسات التابع‘ رغم أنها أعلنت أن هذه هي قاعدتها المؤسسة. فالبرجوازية في الغرب لم تحاول النضال أبدا من أجل تلك الاهداف التي يعزوها “جوها” لها؛ إنها لم تسعى أبدا من أجل الوصول الى ثقافة سياسية توافقية وهي لم تسعى لتمثيل مصالح الطبقة العاملة. وفي الواقع لقد حاربت ضد هذه الاهداف حربا ضروسا استمر قرونا بعد حدوث ما يسمى الثورات البرجوازية. وعندما تم نيل هذه الحريات فإنه تم عبر نضال عنيف جدا قام به هؤلاء المهمشون ضد أبطال سردية “جوها“؛ الطبقات البرجوازية. ومما يبعث على السخرية أن “جوها” يعمل حقا داخل تصور ايديولوجي ساذج بشكل لا يوصف للتجربة التاريخية في الغرب. إنه لا يرى أن الرأسمالية حيثما وأينما كانت فإنما هي معادية وباستمرار لمحاولات توسيع الحقوق السياسية لتشمل الطبقات العاملة.
إلى جانب هذا الادعاء بالتمايز الجذري ما بين العالم المُستعمِر والعالم المُستعمَر، ذكرت في بداية اللقاء أن هنالك ادعاء آخر، ما هو؟
تشيبر: يبرز الادعاء الثاني في أعمال “ديبيش شاكرابارتي” (Dipesh Chakrabarty) على وجه الخصوص. إن شكوكه حول تعميم النظام الرأسمالي مختلفة تماما. فبينما يحدد “جوها” نزوع تعميم رأس المال في فاعل اجتماعي محدد هو البرجوازية فإن “شاكرابارتي” يحدده في قدرة رأس المال على تحويل جميع العلاقات الاجتماعية اينما يحل. يصل “شاكرابارتي” الى الاستنتاج بأن رأس المال فشل في هذا الامتحان لأنه وجد أن هنالك ممارسات سياسية اجتماعية وحضارية في عالم الشرق ترفض الخضوع لنموذجه هو حول ما الشكل الذي من المفروض أن يبدو عليه هذا النظام الرأسمالي. وهكذا فإن مقياس نجاح تعميم شمولية النظام الرأسمالي، وفق رؤيته، هو أن على جميع الممارسات الاجتماعية أن تتحلل في منطق رأس المال. إنه لا يحدد أبدا ما هو منطق رأس المال هذا، لكنه لديه تصور لبعض هذه المعايير العامة.
أنه حاجز لا يمكن تجاوزه!
تشيبر: بالفعل، إنه حاجز يستحيل تجاوزه. فإذا ما وجدت أن ممارسات الزواج في الهند ما زالت تلجأ الى طقوس قديمة أو إذا ما وجدت في أفريقيا أن الناس ما زالوا يصلون أثناء العمل فإن هذه الممارسات ستدل (وفق وجهة النظر هذه) على فشل تعميم شمولية النظام الرأسمالي.
وما أقوله في كتابي هو أن هذا التوجه هو توجه عجيب؛ فكل ما يتطلبه تعميم شمولية رأس المال هو المنطق الاقتصادي للنظام الرأسمالي هو أن يترسخ في مختلف أجزاء العالم وأن يتم أعادة انتاجه بمرور الزمن. وسيقتضي الأمر بطبيعة الحال، أيضا، أنتاج مستوى معين من التغيير السياسي والثقافي. لكنه لا يتطلب بالضرورة تغيرا لكامل أو حتى لمعظم الممارسات الحضارية السائدة في منطقة ما من العالم ليحولها وفق نموذج رأسمالي محدد.
هذا هو إذا ادعائك النظري في كتابك حول لماذا لا يتطلب تعميم شمولية رأس المال بالضرورة محو جميع التمايزات الاجتماعية.
تشيبر: فعلا. واحدة من المناورات النمطية لدى النظريات الما بعد كولونيالية هي أن يقال شيء كهذا: تعتمد الماركسية على التجريد، على تعميم المقولات. ولكن لكي يتم تطبيق هذه المقولات على أرض الواقع فإن على الواقع أن يبدو بالضبط على شكل التوصيف المجرد لرأس المال، للطبقة العاملة وللدولة وهكذا. عمال يرتدون ملابس متنوعة الالوان ويغنون بينما يعملون ورأسماليون يستشيرون المنجمين؛ ليس هذا بقريب مما قد وصفه ماركس في رأس المال. ولهذا فإن مقولات رأس المال لا تنطبق حقا على هذه الحالة. ويذهب هذا الادعاء بعيدا عندما ينتهي بالقول بأن أي انحراف للواقع الملموس عن التوصيف المجرد للنظرية يعني أن هنالك مشكلة في النظرية. ولكن المكمل المنطقي لهذا الادعاء هو أنك لن تستطيع وضع أي نظرية أبدا. وما الفرق الذي يطرحه أمر استشارة الرأسمالي العرافين، طالما أن ما يحركه هو منطق الربح؟ وما الفرق فيما اذا كان العمال يُسبحون بالصلاة بينما هم يعملون؟. هذا هو كل ما تتطلبه النظرية. أنها لا تدعي أن جميع التمايزات الحضارية سوف تختفي بل تدعي بأن هذه التمايزات لا تؤثر على انتشار النظام الرأسمالي، وطالما أن الفاعل الاجتماعي يخضع لضرورات بنية النظام الرأسمالي ومتطلباته. لقد عملت بشكل مطول في الكتاب على شرح هذا الامر.
الكثير من الاغراء في النظرية الما بعد كولونيالية يعكس رغبة واسعة الانتشار في الامتناع عن مقاربة الامور بمنظار اوروبي-التمركز (Eurocentrism) والحاجة الى فهم أهمية المقولات والاشكال والهويات الخصوصية المحلية، بينما ما الذي تعرضه أنت لنا لفهم الانسان على حقيقته سوى رؤية مجردة؟ لكنني أتساءل أيضا، هل هنالك خطورة في طريقتهم التي يتم من خلالها فهمهم للمميزات الحضارية للمجتمعات الغير غربية، اليس هذا شكل من أشكال الجوهرانية الثقافية؟
تشيبر: بكل تأكيد، هذه هي الخطورة. أنها ليست خطورة فحسب بل هي أمر تواصل’ دراسات التابع‘ والنظرية الما بعد كولونيالية بالسقوط ضحية له باستمرار. وتستطيع ان تلاحظه عادة في ادعاءاتهم حول الفاعل الاجتماعي والمقاومة. انه لأمر مقبول أن يقال بأن الشعب يستند الى حضارته الخاصة وتجاربه عندما يقوم بمقاومة الرأسمالية. لكنه أمر مختلف أن يقال بأنه لا وجود لتطلعات عمومية مشتركة، أو بأنه لا وجود لمصالح عمومية مشتركة.
وفي الحقيقة فإن واحدا من الأمور التي اظهرتها في كتابي أن مؤرخي ’ دراسات التابع‘ عندما يقدمون نتائج معايناتهم التجريبية على الواقع الفعلي فإنهم يظهرون بشكل واضح أن الفلاحين (في الهند) وعندما يخوضون حراكا مشتركا، فإنهم يتصرفون بتشابه كبير ووفق نفس الدوافع والتطلعات التي كانت لدى فلاحي اوروبا. ما يميزهم عن الغرب هو الاشكال الحضارية التي يتم من خلالها التعبير عن هذه التطلعات لكن الاهداف في حد ذاتها تبقى ثابتة الى حد كبير.
وعندما تفكر في الأمر، هل من المستغرب حقا أن نقول بأنَّ ما يثير قلق فلاحي الهند هو جودة وضعهم المعيشي، وبأنهم لا يطيقون الاستغلال، وبأنهم يرغبون في الحصول على قدر جدير من الاحتياجات الغذائية الاساسية، أو أنهم عندما يضطرون لتسليم منتوجاتهم الزراعية لملاك الاراضي فإنهم يحاولون الاحتفاظ لأنفسهم بأكبر قدر منها، لأنهم يكرهون التخلي عن عرق جبينهم؟ فخلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين، هذا هو ما كان هؤلاء الفلاحون يناضلون من أجله.
وعندما يقوم منظرو ’دراسات التابع‘ ببناء هذا الحاجز الهائل بين الشرق والغرب وعندما يصرون على أن الاهتمامات التي تحرك الفاعل (Agent) الغربي ليست هي نفسها لدى الفاعل الشرقي، فان ما يقوم به ليس سوى المصادقة على نوع من الجوهرانية (Essentialism) (5) كان المستعمرون قد استعملوها لتبرير نهب المستعمرات في القرن التاسع عشر. أنها نفس الجوهرانية التي استخدمها المنافحون عن الجيش الامريكي عندما كان يقصف فيتنام أو يتدخل في بلدان الشرق الاوسط. لا يستطيع أي أحد في اليسار قبول مثل هذه الادعاءات.
ولكن أليس بمقدور البعض أن يرد عليك بالقول أنك تصادق على شكل من اشكال الجوهرانية عندما تعزو منطقا مشتركا لفاعلين مختلفين في سياقات مختلفة؟
تشيبر: حسنا، إنها ليست جوهرانية، فأنا أُقِر رؤيةً تدعي وجودَ مصالح واحتياجات مشتركة عابرة للحضارات. هنالك بعض النواحي في الطبيعة الانسانية التي ليست الحضارة هي منشأها، الحضارة تقوم بصياغتها وقولبتها لكنها لا تخلقها. أنني أرى أنه وبالرغم من الاختلافات الحضارية العظيمة ما بين الشرق والغرب فإن مجموعة اساسية من القضايا هي مشتركة لدى جميع الناس، سواء في مصر أو الهند أو مانشستر او نيويورك. انها ليست كثيرة العدد لكننا نستطيع تعداد بعضها؛ هنالك الانشغال بالصحة الجسدية، وهنالك على الارجح أيضا الانشغال بالتمتع بحد مقبول من الاستقلال الذاتي وتقرير المصير، وهنالك الانشغال بتلك الممارسات التي تؤثر بشكل مباشر على الرفاهية الشخصية. ليس هذا بالكثير ولكنك ستذهل عندما تجد أن هذه الامور ستساعدك على تفسير تحولات تاريخية مهمة.
على مدار القرنين الماضيين قام كل من يسمي نفسه تقدميا بضم هذه الامور ضمن القيم العامة المشتركة. وكان من المفهوم ضمنا أن ما يوحد العمال أو الفلاحين من مختلف القوميات هو أنهم يتشاركون مصالح مادية محددة. الا أن هذا الامر بات موضع مسائلة من قبل ’دراسات التابع‘، ومن اللافت للنظر حقا كثرة الاشخاص في اليسار، الذين قبلوا هذا. وما يستدعي المزيد من الدهشة هو أن هذا الامر ما زال مقبولا في حين اننا نشاهد في العقدين الاخيرين نشوء حركات عالمية عابرة للحضارات والقوميات ضد الليبرالية الجديدة(Neoliberalism)، ضد الرأسمالية. ولكن أن تجرؤ في الجامعات على القول بأن الناس من حضارات مختلفة يتشاركون نفس الهموم فإنك سوف توصم بأنك أوروبي التمركز. هذا أمر يظهر لأي مستوى انحدرت الثقافة السياسية والفكرية في العقود الاخيرة.
بما أنك تدعي بأن النظام الرأسمالي لا يتطلب بالضرورة وجود ليبرالية برجوازية، وبأن الطبقة البرجوازية لم تقم بدور تاريخي في قيادة النضال الشعبي من أجل الديمقراطية في العالم الغربي، فكيف تفسر إذا وجود الديمقراطية والليبرالية في الغرب بينما لم تسر الامور على هذا النحو في عدد كبير من بلدان ما بعد الاستعمار؟
تشيبر: هذا سؤال على جانب عظيم من الاهمية. من اللافت للنظر أن جوها عندما كتب نصه الاصلي فيما يخص برنامج عمل ’دراسات التابع‘ فإنه عزا فشل لبرلة الشرق الى فشل برجوازياته. لكنه اشار الى امكانية تاريخية أخرى، وتحديدا الى حركات استقلال، في الهند أو في بلاد أخرى، كان من الممكن أن تقودها طبقات شعبية كانت لربما تستطيع دفع الامور في اتجاه مختلف ولربما كانت قد انتجت نظاما سياسيا مختلفا. أنه يقوم بطرح هذا الموضوع الى المقدمة ثم ينساه تماما على مدار اعماله فيما بعد.
أنه طريق لو كان سلكه “جوها” -ولو كان سار فيه بشكل جديّ- لكان قد قاده الى فهم أكثر دقة لما قد جرى حقا في الغرب وليس فقط في الشرق. ووقائع ما حدث في الغرب تدل على أنه عندما تكون في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين هذا النظام الديمقراطي، التوافقي والذي يشمل الجميع فإنه تكون ببطء ولم يكن هبة منحتها الطبقة الرأسمالية . بل كان هذا محصلة نضالات عينية طويلة جدا لفئات من العمال والمزارعين والفلاحين، وبكلمات أخرى تم تحصيله بالنضال من الاسفل.
لقد فات “جوها” وأترابه هذا الامر بالكامل، فاتهم هذا لأنهم أصروا على النظر الى النظام الليبرالي بوصفه انجازا يخص الطبقة الرأسمالية. ولأنهم صوروا الامر بشكل مغلوط في الغرب فإنهم أساؤوا تشخيص فشله في الشرق. لقد عزوا فشله في الشرق الى خلل في الطبقة برجوازية.
والآن فيما اذا رغبت بإجراء دراسة تاريخية دقيقة لتفسير وهن الديمقراطية في مؤسسات الشرق وميلها نحو الاستبداد ، فالجواب ليست له علاقة بخلل ما في البرجوازية، بل له علاقة بضعف الحركة العمالية ووهن تنظيمات الفلاحين وبالأحزاب التي تمثل هذه الطبقات. وضعف هذه القوى السياسية وقصورها دون أن تستطيع تهذيب الطبقة الرأسمالية هو الجواب على السؤال الذي تطرحه ’دراسات التابع‘. والسؤال هو : ” لماذا تختلف الثقافة السياسية في الجنوب اختلافا كبيرا عن الثقافة السياسية في الغرب؟” علينا أن نبحث عن الاجابة هنا؛ في حركية التنظيمات والمنظمات الشعبية وأحزابها وليس في قصور متوهم للطبقة الرأسمالية التي لم تكن في الشرق أكثر استبدادا وأوليجاركية مما كانت في الغرب.
من الواضح أنك لاذع تماما في نقدك للنظرية الما بعد كولونيالية. ولكن أليس هنالك أمر ما شرعي وذي قيمة في انتقاداتها التي توجهها للنظام الما بعد كولونيالي؟
تشيبر: نعم هناك أهمية ما، وخصوصا أعمال “جوها”. ففي جميع أعماله وخصوصا في “سيطرة بلا هيمنة”( Dominance Without Hegemony)، هنالك كما اعتقد نقد مرحب به وإدانة عامة للقوى المسيطرة في الهند. وهذا يشكل بديلا ايجابيا هائلا للكتابة التاريخية القومية التي احتلت مقدمة المسرح لعقود من الزمن في بلد كالهند، حيث تم النظر الى قادة حركة الاستقلال لا أقل من النظر الى مخلص منتظر. إن ما يصر عليه “جوها” بأن هذه القيادة لم تشكل الخلاص بل كانت في حقيقة الامر مسؤولة عن العديد من مواطن ضعف النظام الما بعد كولونيالي، هو أمر يجب المصادقة عليه والترحاب به. الا أن المسألة ليست في توصيفه للنظام الما بعد كولونيالي بل في تشخيصه لمصادر القصور والخلل ولكيفية معالجتها. وأنا في نفس المركب مع “جوها” في النقد الذي يوجهه للنخبة وأتباعها. لكن المشكلة هي في أن تحليلاته المغلوطة تقف في وجه النقد والفعل الملائم إزاء هذا النظام.
ماذا بشأن بارثا تشترجي؟ ألا تقدم أعماله نقدا جديا للوضع الما بعد كولونيالي في الهند؟
تشيبر: نعم، في بعض جوانبها. في جانبها الوصفي بالتأكيد، فأعمال “تشترجي” كأعمال “جوها” تُظهر ضيق أفق القيادة القومية و إخلاصها لمصالح النخبة وريبتها من الحراك الشعبي، يجب الجهر بهذا. لكن الاشكالية ليست هنا، بل في التشخيص. في حالة “تشترجي” فإن فشل حركة التحرر الهندية يُعزى لقيادتها التي ذوتت روحية محددة، هذه الروحية والتوجه اللذان أتيا مع التحديث والحداثة (Modernization and Modernism). فبالنسبة لـ “تشترجي” تكمن المشكلة لدى نهرو أنه تبنى بسرعة موقفا تحديثيا تجاه الاقتصاد السياسي. وبكلمات أخرى، في أنَّ نهرو وضع جُل الاهتمام على التوجه العلمي والتخطيط العقلاني والتنظيم وهذا هو من وجهة نظره السبب الرئيس ’لحالة الخضوع‘ التي تعاني منها الهند على مستوى النظام العالمي.
من المقبول الادعاء بأن نهرو كان مَقودا بمجموعة ضيقة من الاهتمامات، لكن أن يحدد السبب الاعمق لنزعاته المحافظة لكونه قد تبنى التحديث ووجهة النظر العلمية فإنَّ هذا هو فهم مغلوط لمصدر المشكلة. وفيما اذا كانت المشكلة مع النخبة الما بعد كولونيالية هي أنها تبنت وجهة النظر العلمية والتحديثية فإن السؤال هو : ما هي خطط المنظرين الما بعد كولونيالين للخروج من الأزمة الراهنة- وهي ليست اقتصادية وسياسية فحسب بل ايضا أزمة بيئية- وهل يقولون لنا بأنه يجب ترك العلم، الموضوعية، الوقائع والاهتمام بالتطوير، جانبا؟
لا وجود لمخرج من هذا لدى “تشترجي”. لكن ومن وجهة نظري فإن المشكلة لدى نهرو والمؤتمر القومي الهندي ليست انهم تبنوا خطا تحديثيا وعلميا، بل في أنهم ربطوا برامجهم هذه بالنخب الهندية- بطبقة رأس المال وملاك الأراضي- وتركوا جانبا التزاماتهم حيال الحراك الشعبي وفي سعييهم لضبط الطبقات الشعبية وابقائها تحت السيطرة.
وبالرغم من أن خطاب “تشترجي” مزخرف بالنقد الجذري الا أنه في واقع الامر خطاب محافظ جدا، ذلك لأنه يحدد مصدر العلم والموضوعية في الغرب وعندما يقوم بهذا فإنه يصف الشرق بشكل مشابه لما فعلته الأيديولوجيا الاستعمارية. وهو خطاب محافظ لأنه لا يترك لنا وسيلة نستطيع من خلالها بناء نظام أكثر انسانية وعقلانية، لأنك كيفما اردت التوجه- سواء اردت الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية أو أردت اسباغ طابع أكثر انسانية على النظام الرأسمالي من خلال نوع ما من الديمقراطية الاجتماعية أو أنك اردت معالجة المخاطر البيئية من خلا استخدام مصادر الطبيعة بشكل أكثر عقلانية – ستحتاج ما يطعن به “تشترجي” ، ستحتاج الى العلم والعقلانية والى التخطيط وما شابه. و أن تصور هذه الامور على أنها مصدر تهميش الشرق عندها ستكون هذه الرؤية ليست خاطئة فحسب بل ومحافظة تماما.
لكن، أليست جذور الماركسية وأفكار عصر النهضة أوروبية التمركز، كما يدعي النقد الما بعد كولونيالي؟
تشيبر: حسنا، علينا أن نميز بين شكلين من أشكال التمركز الاوروبي، الأول هو محايد وغير مؤذي، ويقول بأن نظرية ما هي أوروبية التمركز لأن قاعدة بياناتها تتأسس على دراسة الوضع في أوروبا. وبهذا المعنى فإن جميع النظريات الغربية التي نعرفها والتي ظهرت لغاية أواخر القرن التاسع عشر استقت معطياتها و معلوماتها بالأساس الاعم من أوروبا، وسبب هذا هو تخلف الدراسات العلمية والأنثروبولوجية والدراسات التاريخية في الشرق. بهذا المعنى نعم هي أوروبية التمركز.
وهذا الشكل من التمركز الاوروبي هو محايد مع أنه يُحضِر العديد من الاشكاليات معه، لكن لا يمكننا ادانته على هذا. لكن الشكل الضار من التمركز الاوروبي – هذا الذي يلاحقه منظرو الما بعد كولونيالية- هو عندما يتم اسقاط أحكام المعرفة المتكونة من معطيات وحقائق أوروبية على الشرق، الأمر الذي قد يكون مُضللا. وبالفعل، تدين النظريات الما بعد كولونيالية المنظرين الغربين ليس فقط لأنهم قاموا بإحلال مفاهيم ومقولات غربية على الشرق بالرغم من أنها قد تكون غير قابلة للتطبيق هنا، بل لأنهم تجاهلوا بانتظام استخدام معطيات متواجدة في متناول اليد لإنتاج نظريات قد تكون أفضل.
واذا ما كنا نتحدث عن الشكل الثاني من التمركز الاوروبي، فنعم، كانت هنالك بعض مكونات النظرية الماركسية التي سقطت ضحية لهذا الشكل من التمركز الاوروبي، لكنك اذا ما درست التاريخ الفعلي لتطور النظرية الماركسية لوجدت أن هذه الحالات نادرة جدا.
ومن الدقة القول أنه ومنذ مطلع القرن العشرين فإن الماركسية كنظرية ذات منشأ اوروبي هي نظرية التغير الاجتماعي الوحيدة التي تعاملت بشكل منهجي مع الخصوصيات المُمَيِّزة للشرق. وأنه لمن أكثر الحقائق المثيرة للدهشة أن ’دراسات التابع‘ والنظرية الما بعد كولونيالية تتجاهل هذا الامر. فبدئا من الثورة الروسية عام 1905 ومرورا بثورة 1917 (ثورة أكتوبر الاشتراكية) ومن ثم الثورة الصينية وحركات التحرر من الاستعمار الافريقية ومنظمات حرب الانصار في امريكا اللاتينية – فجميع هذه الثورات والانتفاضات اجتهدت محاولة التعامل بما يستند على خصوصيات النظام الرأسمالي خارج أوروبا.
ونستطيع جرد قائمة بنظريات محددة تفرعت اعتمادا على الماركسية وليس فقط أنها تعاملت تحديدا مع خصوصيات الشرق بل وتمثل نقضا للغائية والحتمية التي تُتهم الماركسية بهما من قبل ’دراسات التابع‘: نظرية تروتسكي حول التطور المركب واللامتكافئ ، نظرية لينين حول الامبريالية، نظرية نمط الانتاج الاسيوي والخ الخ. كل واحدة من هذه النظريات هي اعتراف بأن مجتمعات العالم النامي مختلفة عن المجتمعات الاوروبية.
واذا ما كان الهدف هو تسجيل النقاط فإنك تستطيع ان تجد هنا أو هناك نوعا ما من تلكؤ أوروبي التمركز في الماركسية. لكن اذا ما اجريت جردة للحساب فإنك ستجد ان المحصلة هي لصالح الماركسية بشكل كبير جدا، ليس هذا فحسب بل عندما تقارنها مع الاستشراق الذي قامت دراسات التابع بإحيائه، فإن المنهجية الاكثر قابلية لفهم خصوصيات الشرق تستند الى الماركسية وتقاليد عصر الانوار وليس الى النظرية الما بعد كولونيالية.
والمساهمة طويلة الامد لهذه النظرية- أي ما سوف سيتم التعرف به عليها، من وجهة نظري، بعد خمسين عاما من الآن- ستكون انعاشها للثقافة الجوهرانية، وقيامها بدور تصادق من خلاله على الاستشراق، بدل أن تشكل علاجا له.
كل هذا يستدعي طرح السؤال التالي: لماذا اكتسبت النظرية الما بعد كولونيالية كل هذا الحضور البارز في العقود القليلة الماضية؟ وكيف كان لها أن تحل محل هذه الافكار التي تدافع انت عنها في كتابك؟ فمن الواضح ان النظرية الما بعد كولونيالية احتلت المكان الذي كانت تحتله النظرية الماركسية ونظريات تأثرت بالماركسية، ومن أنها أثرت بشكل واسع على المفكرين اليساريين الناطقين بالانجليزية.
تشيبر: من وجهة نظري فإن هذا البروز هو نتيجة لأسباب اجتماعية وتاريخية بحتة؛ ولا يعبر عن قيمة النظرية أو جدارتها، ولهذا قررت كتابة هذا الكتاب. في رأيي أن النظرية الما بعد كولونيالية اشتهرت لأسباب عدة. فبعد هبوط تأثير الحركة العمالية وتحطم اليسار في السبعينيات لم يعد هنالك أيُ مجال في الجامعات لبروز نظرية تركز اهتمامها بالنظام الرأسمالي وبالطبقة العاملة أو بالنضال الطبقي. لقد اشار العديد من الناس الى هذا؛ انه من غير الواقعي، في حالة الجامعات، تصور ظهور أي نقد للنظام الرأسمالي من وجهة نظر طبقية، فيما عدا عن تلك الفترات الزمنية التي يصاحبها اضطراب اجتماعي واسع وانتفاضة اجتماعية.
والسؤال المثير هو ما هو السبب في وجود مثل هذه النظرية التي تُسمي نفسها جذرية في نفس الوقت الذي هي ليست فيه نظرية مناهضة للرأسمالية. باعتقادي ان الامر يعود لسببين: الاول هو التغييرات التي حدثت في الجامعات في العقود الثلاثة الاخيرة إذ لم تعد الجامعات ابراجا عاجية كما اعتادت ان تكون. لقد غدت مؤسسات مفتوحة لجمهور واسع ولمجموعات وفئات كانت مستثناة في الماضي : الاقليات القومية، النساء، مهاجرو دول العالم النامي. هؤلاء اناس عانوا مختلف انواع الاضطهاد ولكنه لم يكن بالضرورة استغلال على اساس طبقي. ولهذا وجدت وتوجد الآن ايضا قاعدة واسعة لما قد نسميه دراسات المضطهدين وهذا هو نوع من أنواع الراديكالية – وهذا أمر مهم وحقيقي. إنها راديكالية ولكنها في نفس الوقت غير مهتمة بقضايا الصراع الطبقي والبنية الطبقية للمجتمع، أي ما تتعامل معه النظرية الماركسية بالذات.
بالإضافة الى هذا هنالك المسار الذي سارته الانتلجنسيا. فجيل ثورة عام 1968 لم يغدو اتجاها سائدا مع تقدمه في السن. البعض استمر بالحفاظ على التزامه بالرديكالية الاخلاقية . لكنهم كالكثيرين توجهوا بعيدا عن الرديكالية الطبقية. وهكذا صار لدينا حراكا من الأسفل شكل نوعا من المطالبة بنظرية تتناول الاضطهاد، وحراك من الاعلى يدور بين اساتذة الجامعات الجاهزين لعرض نظريات تخص الاضطهاد. وما ساعدهم على الانتشار ليس تركيزهم على الاضطهاد بل استثنائهم التعامل مع الاضطهاد والاستغلال الطبقي. والنظرية الما بعد كولونيالية ولأنها تستثني النظام الرأسمالي ولأنها تستثني الصراع الطبقي – أي لأنها تقلل من قيمة هذا النوع من الاضطهاد- فإنها كانت ملائمة للعب هذا الدور.
ما الذي سيكون مآل النظرية الما بعد كولونيالية؟ ها تعتقد أنَّها سوف تتلاشى في الاكديميا وداخل اليسار في وقت قريب؟
تشيبر: لا، لا اعتقد هذا. لا اعتقد ان النظرية الما بعد كولونيالية مهددة بالأقصاء جانبا، على الاقل ليس في المدى القريب. تظهر النزعات الاكاديمية وتختفي كالموضة، ليس اعتمادا على صلاحية ادعاءاتها، ولا على قيمة مقترحاتها، بل لعلاقات تربطها مع البيئة الاجتماعية والسياسية. وحالة الفوضى السائدة في اليسار وفي الطبقة العاملة والتي هيئت الظروف لازدهار النظرية الما بعد كولونيالية ما زالت قائمة كما كانت. أضف الى هذا أن لهذه النظرية هنالك الآن على الاقل جيلين من الاكاديميين الذين بنوا مستقبلهم المهني بالكامل حولها، وهي تمتلك مجموعة من المجلات والدوريات المخصصة لها، وهنالك جيش من الخريجين الذين يواصلون العمل على برامج ابحاث تتفرع عنها. ومصالحهم المادية مرتبطة بشكل مباشر بنجاح هذه النظرية.
وأنك تستطيع أن تستمر بانتقادها ليلا نهارا، الا اننا لن نرى أي تغير ما لم ينشأ نوع شبيه من لهذه الحركات التي ظهرت اثناء الحرب العالمية الاولى أو منتصف ستينيات واوائل سبعينيات القرن الماضي والتي واصلت مسيرة الماركسية. وفي حقيقة الامر فإنك لن تشاهد سوى نوع من الانتقادات الرقيقة الناعمة ولكن الرديئة، وكلما تطلب الامر ذلك. أن هذا التكهن بمستقبله هو محزن لكنه- كما اعتقد- واقعي ، فإنها ستواصل وجودها الى فترة طويلة.
(الكرمل- حزيران 2015)
ملاحظات المترجم
(1) يعود مصطلح ’التابع‘ (Subaltern) في استعماله المعاصر للمنظر الماركسي الطلياني ’ أنطونيو غرامشي‘، حيث ظهر في ’كراسات السجن‘ ليشير الى الفئات الاجتماعية المهمشة والهامشية والغير منظمة اجتماعيا او سياسيا.ويحيل عنوان المقابلة الى مقال واحدة من أهم منظري ’دراسات التابع‘ غياتري سبيفاك بعنوان ’ هل يمكن للتابع أن يتكلم ؟‘ عام1988.
(2) النظرية الما بعد كولونيالية: تيار نقدي يدرس، يرد ويحلل الممارسة والخطاب الكولونيالي-الامبريالي، من أكبر رواده الراحل ادوارد سعيد.
(3) ’دراسات التابع‘ (Subaltern studies) تأسست هذه المدرسة عام 1982 في الهند من قبل اكاديميين نقديين هنود وبدأت بإصدار دورية تحمل نفس الاسم.
(4) “راناجيت جوها” (Ranajit Guha) : يعتبر أحد رواد ’دراسات التابع‘ ، والأب المؤسس، قام بوضع أسس هذا المجال من خلال مقالاته التي نشرت في دورية “دراسات التابع” وفيما بعد في كتابه “الجوانب المبدئية لتمرد الفلاحين في الهند تحت الحكم الكولونيالي” (Elementary Aspects of Peasant Insurgency in Colonial India) عام 1983.
(5) الجوهرانية (Essentialism) :بمعناها الاجتماعي السياسي تشير الى وجود مجموعة من الصفات المميزة لفئة من الناس، تبقى ثابتة لا تتغير بتغير ظروفها الاجتماعية.