القبيحُ الخيِّر: مُقاربة جماليّة للقبيح في رواية “أورفوار عكا”/ هشام روحانا
في عالم لا أفق له يغيب البطل الإيجابيّ كما يغيب البطل السلبيّ، إنه عصر المراوحة الآسنة لا تستطيع الا أن تخلق القبيح
رأيتني جالسًا على أرض صفاح، باردة مستديرة. لا يزيد قطرها على ذراع. وكانت الريح صرصرًا والأرض قرقرًا، وقد تدلت ساقاي فوق هوة بلا قرار كما تدلى الليف في الخريف. فرغبت في أن أريح ظهري. فإذا بالهوة من ورائي كما هي الهوة من أمامي وتحيط بي الهوة من كل جانب. فإذا تحركت هويت. فأيقنت أني جالس على رأس خازوق بلا رأس.
(الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتشائل، أميل حبيبي)
>
|هشام روحانا|
هل يستطيع “القبيح” أن يقوم بدور جماليّ في العمل الفنيّ؟ وما هي إذًا وظيفة “القبيح” في رواية “أورفوار عكا“ لعلاء حليحل؟ سأقصر مقاربتي هنا على مفهوم “القبيح” ككلّيّة شاملة، أي ككلّ يشكّل واحدًا من أهمّ الابعاد الدرامية للرواية، من دون الدخول في تفاصيل فعل قبيح بعينه ومن دون الدخول إلى البعد الوظيفي لهذا المفهوم في بناء السردية، بوصفه عاملا محفزا للتشويق من خلال إثارته للدافع التلصّصيّ.
في الزمن الدائريّ المغلق والذي يبدأ بفرمان سلطانيّ صادر عن الباب العالي ولا ينتهي بفرمان سلطانيّ آخر[1]، بل يمتدّ إلى يومنا المعاصر هذا، هذا الزمن الذي حددناه سابقا على أنه عصر “المراوحة الآسنة لنمط الإنتاج الشرقيّ”[2]، ما الذي على الروائيّ أن يفعله سوى أن يلجأ لاستحضار القبيح مرفوعًا في وجه انحطاط المرحلة؟ ففي هذا الزمن الممتدّ قافزا من زمن الرواية الواقعيّ إلى زمننا المعاصر والذي يغيب فيه بطل لوكاتش الإشكاليّ ويغيب فيه البطل المنكسر الذي أجاد أيفان تورجينيف وصفه في روايته “رودين”؛ هذا البطل الذي يحضر إلى زمن قبل زمانه لا يستطيع الخروج من الكلام إلى الفعل في ظلّ الاستبداد الذي يجثم بوطئه على المجتمع. فلا بطولة إذًا في مثل هذا الزمن الذي يعيد انتاج ذاته استبدادًا شرقيًّا يولد ذاته من رحم ذاته. وفي عالم لا أفق له يغيب البطل الإيجابيّ كما يغيب البطل السلبيّ، إنه عصر المراوحة الآسنة لا تستطيع الا أن تخلق القبيح.
ولما كانت وظيفة الفنّ من حيث رسالته الاجتماعية كشف تناقضات الوجود وتظهيرها وتشكيل وجهة نظر جديدة تنقل وتحرك وعي المتلقي نحو فهم جديد مختلف، وفي ظلّ غياب البطولة، حينها يرتفع “القبيح” بطلاً.
الجسد في عصر الاستبداد هو الحامل المادّيّ لعذاب مرتقب، وهو يحضر بكامل أجزائه في الرواية، وبكامل إفرازاته؛ يختلط القيء والعرق بالبراز، ليكسو مواضيع الرغبة
يحضر القبيح في الرواية بكامل أوصافه: عنفٌ يعمّ ويطمّ العباد والبلاد، والأشخاص هم رعايا تنتظر عقابها، عقابها الآتي لا محالة متربّصًا عند مفارق الطرقات، وإذ بالرجال يغدون مجرد أغراض ملائمة للخوزقة في الساحات العامّة؛ إنه كرنفال الشرق الحزين! وإذا ما كان مفهوم “الجسد” هو هذا المُرتكز الذي يقدّم لنا نوعًا من اليقين في عصر المجرّد[3] المتعالي، فإنّ الجسد في عصر الاستبداد هو الحامل المادّيّ لعذاب مرتقب. يحضر الجسد بكامل أجزائه في الرواية، وبكامل إفرازاته؛ ويختلط القيء والعرق بالبراز، ليكسو مواضيع الرغبة. لا رغبةٌ هنا، بل هو العنف عارياً. ويغدو “الاتصال” الجنسيُّ إثباتًا للذكورة إذ تعرّت من إنسانيتها، عنفٌ فرديٌّ يتولّد في دورة مفرغة من عنف الحاكم ويولّده. وإذا ما كان القيء والعرق والبراز المختلطة بالأجساد العارية، بأجزائها أو بكليّاتها، مثيرًا لمشاعر التقزّز، أفلا يضع كل هذا القبح “أسطورة” صمود عكا في ضوء جديد؟ وها هو “القبيح” يُسائلنا: أبمثل هذا تنتصرون؟”
وبالتوازي مع حضور الجسد بوصفه موضوعاً للعقاب، أي بوصفه جثة مؤجّلة، يُعلِن القبيح عن “موت الإنسان” و”نهاية التاريخ” حقا، ذلك أنَّ أيّ انتصار على العدوّ الخارجيّ لن يغير من معادلة حضوره (أي القبيح) الكليّ، فالقبيح هو روح العصر. وبوصفه روح العصر فإنه الحاضر الأوحد في كرنفال عصرنا الشرقيّ؛ كرنفال جمهرة الرجال حيث تغيب الفروسيّة ويحضر الخوف والتآمر والخيانة. وبعكس كرنفالات القرون الوسطى الأوروبيّة يغيب هنا المهرج والأبله والساخر. وإذا ما كان حضور هذه الشخصيّات في الأخيرة تعبيرًا عن الانقسام الطبقيّ للمجتمع وخروجًا متمرّدًا على تراتبيّته وفق باختين[4]، فإنّ غيابها عن كرنفالات الشرق ما هو إلا التعبير الادقّ عن غياب الطبقة في مجتمعات نمط الانتاج الشرقيّ؛ هذا النمط ذو القدرة الفائقة على إنتاج ذاته[5]، وصولا إلى شكله الحاليّ كنمط انتاج كولونياليّ –تابع-. تغيب الطبقة عن الكرنفال لأنها متخفيّة في المجتمع ذاته بلبوسات الطائفة والقبيلة والملّة، ويغيب الإله الجامع ليغدو ربًّا للجيوش، ربًّا لجيوش الطائفة والقبيلة والملّة. وسوية مع غياب الطبقة الثورية الحاملة لدورها التاريخي يغيب المعنى ويغيب معه الطابع الطوباويّ، الذي كان من الممكن أن يكون حاضرًا بحضور طبقة صاعدة [والتي تم وأدها كولونياليا] تحمل معها مشروعها الثوريّ، فتبحث في ماضٍ مضى عن شخوص تتماثل معها لدفع مشروعها، ولهذا فإنَّ الرواية هي رواية الانحطاط، انحطاط عصرنا الحالي الملقى به على زمن ولّى وانقضى، فليس الماضي هنا سوى مرآة للحاضر. إنها سوداوية الحاضر يلقي بعتمته على الماضي فلا يُرى الا من خلالها، وبهذا تكون الرواية كما ورد في المقدمة “ليست رواية تاريخية” تمامًا، بل رواية معاصرة يسترجعُ فيها “القبيح” المُعاصر تاريخه. وما الحضور الكاسح لـ “القبيح” في الرواية إلاّ إعلانا عن أنًّ عصرنا هو هو عصر الانحطاط ورفعًا لراية الخروج على القبيلة.
(الكرمل)
.
ما نستطيع أن نتعلّمه من لوحة الفنان كونتين ماسيس، “الدوقة القبيحة” من القرن الخامس عشر، التي تصوّر سيدة أصيبت بمرض عظام يؤدّي إلى تشوّهات جسديّة، والتي تحمل في يدها اليمنى وردة حمراء، إشارة إلى أنها تبحث عن عريس، هو أنّ باستطاعة التقانة العالية والتركيز المتأنّي على التفاصيل أن يخلقا تناسقا يخرجنا من وقع تأثير القبيح المتشخّص، إلى مصاف يُرى فيه هذا القبيح بمنظار جماليّ. فليس من المستغرب إذًا أن تُباع نُسَخ هذه اللوحة بنفس الكثرة التي تباع فيها نُسَخ الرسومات الانطباعيّة.
[1] الفرمان هو الأمر السلطانيّ الصادر عن الباب العالي، مقرّ الحكم العثماني. تبدأ الرواية بفرمان يأمر أحمد باشا الجزار بالتجنّد لمحاربة الغازي نابليون بونبارته، وتنتهي بفرمان آخر يعلن نهاية ولايته.
[2] في: “وداعا عكًا، أهلا أحمد”.
[3] تيري إيجلتون، أوهام ما بعد الحداثة، ترجمة ثائر ديب، ص: 134-135.
[4] الضحك والحرية لميخائيل باختين، إعداد وترجمة سعدي عبد اللطيف، منشور على الشبكة العنقودية.
[5] للمزيد حول هذا، ينظر في “معجم الماركسية النقديّ” تحت باب “نمط الإنتاج الآسيويّ”، ص: 1323 -1327.