حيفا، رام الله، مجدل شمس: حين يكون للمثلث أضلعٌ من أغنيات/ هيكل حزقي
للأغاني قصص غير تلك التي نسمع، تختفي وراء خلجات الإيقاع وترويها لنا في السر، بعيدًا عن إنصات العالم وسمعه الثقيل.
| تونس - هيكل حزقي |
«لا تمارس الإرهاب الشعري على أشخاص لن يستوعبوا أنه فن (على الأقل لبعض الوقت)، تجنب فئات فنية محددة، تجنب السياسة، لا تتوقف عن التفكير، لا تكن عاطفيًا، كن قاسيًا، عانق المخاطر، خرّب فقط ما يجب تشويهه، قم بشيء يتذكره الأطفال طوال حياتهم، لكن لا تكن عفويا تنكر، أترك اسمًا مستعارًا، كن أسطوريًا، فالإرهاب الشعري ضد القانون، لكن مارسه بذكاء. الفن جريمة، والجريمة فن».
- حكيم باي (الإرهاب الشعري) -
«سنحاربهم بالجمال»، هكذا تصرخ تريز سليمان. وكأنها تتكلم على لسان أبو القاسم الشابي في قصيدة «فلسفة الثعبان المقدس» حينما يكتب: «لا عدل إلا إن تعادلت القوى، وتصادم الإرهاب بالإرهاب»..
الصرخة بالصرخة، والإرهاب بالإرهاب، هو إرهاب شعري ولحني وإيقاعي، يعصف بمقومات المنطق المسجون ويحرر الطيور من قيد المواسم والهجرة.
إرهاب جماليّ يواجه تخريبًا باسم الحرب والفناء، كجداريات بانكسي الذي يرسم أطفال الشوارع والحجارة وهم يرجمون العدو بالورد.
هكذا تتعادل القوى؛ تكون لكفة الأغاني طاقة حياة تخرس بها ضوضاء العالم المتداعي، ويكون لنا أن نرد على خراب الحرب والإنسان بكل جمال ناطق داخل تفاصيل اللحن والكلام.
أغاني ألبوم «زهر اللوز»، الذي صدر حديثًا، فيها أشياء كثيرة مما سيتذكره الأطفال طوال حياتهم، كأن تحرر فيلة السيرك العجوزة وتترك رسائل للعاشقين البعيدين على عتبة منازلهم. كأن تفرغ أقلام الزينة من ألوانها وترسم خرائط عالم جديد، كل مدنه تحمل تفاصيل من وحي الخيال، تنزع عنها كل إشارات المرور الباهتة وتضع مكانها لافتات للحلم والجنون وأشياء من هذا القبيل: لا تدخل المدينة قبل أن تغني قصيدة، املأ كل أعشاش العصافير بالحديقة بالورد والماء، ازرع ريحانًا مكان حجارة الرصيف.
للأغاني قصص غير تلك التي نسمع، تختفي وراء خلجات الإيقاع وترويها لنا في السر، بعيدًا عن إنصات العالم وسمعه الثقيل.
فحينما يصبح الحلم جريمة، تغامر فرقة «تريز، يزن والأصدقاء» باللحن والإيقاع والكلمة، فتكون أغنية «تيجي نحلم»، كمن يطرق على جدران الخزان ويخاطر بالحياة.
كان الإله فيما مضى يكلم الإنسان عبر الطبيعة، وعندما وجد هذا الأخير ضالته التعبيرية في الصوت، أصبحت الأغاني سرّ الاثنين ولغة التواصل.
فراشات الضوء تغني وتعانق الشمس في أغنية «ضي صغير»، فيتهيأ لك مارد داخل فانوس صغير وتلمح فراشة تحت دبوس. فيلة السيرك العجوزة ترقص على إيقاعات «شخر القمر» وتجري على خيوط العنكبوت، فتنفخ في أبواق الحياة لتعلن ميلاد غابة جديدة.
كيف تقحم الحياة إقحامًا في الصخر والشوك لتنفجر بساتين وزهر لوز. تدمع الغيمة فتنزل «أول شتوة» وتوقظ «شهريار» النائم لتوه من وقع الانتظار. أكانت المسافة بين شهرزاد وشهريار مسافة ألف أغنية وأغنية؟
أغانٍ كلصوص العشق الأربعين الذين سرقوا روميات جلال الدين واختطفوا من علي بابا أسرار الكلام عند مغارة الألحان فيما كان يصرخ: افتحي يا أغاني..
أغانٍ تنسج بساطا لعلاء الدين من خيوط الحلم وتلافيف القصص وأشرعة الليل..
أغانٍ تحول الحمام إلى «بوسة طيارة» ويسمع «هديلها» من بين وقع الأقدام في «رقصة لتنين».
أغانٍ، وشم لحني على جسد الإيقاع وآثار نمل راقص على الرمل.. أسرار فصول أربعة وانفجارات ضوء وألوان.
لا تبني العصافير أعشاشها بضربة حظ واحدة، بل قشة قشة.. هكذا هو سفر الأغاني في ألبوم «زهر اللوز»، أغاني المثلث: مجدل شمس، حيفا و رام الله. تبنى الأغنية/العش كلمة كلمة، لحنا تلو اللحن، حتى تحضن عصافير الليل العطشى إلى صخب البحيرة.
تظل الموسيقى قصة شغف وتصير الأغاني تذاكر عودة، فيما يشرع أحد الأطفال بتسلق هضبة الجولان بحثا عن أثر يزن والأصدقاء، يلمح تفاصيل البلد الباكي البعيد/القريب ويأمل بالعودة دون حواجز، فيسائل خطافًا مرّ لتوه في السماء: «من ذا الذي ألبس الليل تاجًا من زهر اللوز وصفق للفجر بكفيّ ساحر غجري حتى يطل برأسه ويتحول إلى أغنية؟»
يجيبه صوت خافت في السحر: وهل غير صوت تريز يفعل ذلك..