فرقة نشاز، وجماليات اللامبالاة التونسية/ هيكل الحزقي
اكتسبت الفرقة أهميّتها من التجريب الموسيقي الذي نفض غبار النوستالجيا عن إيقاعات الغناوة وصرخات التلويع في الموسيقى الأفريقيّة، لتمزجها مع أغاني الأمازيغ وأناشيد البربر القديمة.
| عن “معازف” - هيكل الحزقي |
الاعتراف المتأخّر
بدأ المشروع في أواخر التسعينيّات، ولكن الاعتراف به جاء متأخّراً مع فيلم VHS Kahloucha العام ٢٠٠٧ الذي يصور حياة المنصف كحلوشة، بطل حيّه وهاوي الأفلام الذي كان يكتب ويلعب ويخرج ويتقمّص أدوار البطولة في أفلامه بالشراكة مع أصدقائه وندمائه كمهرب من الجحيم اليومي القاتل في الكزمات .1 ما علق بالذاكرة من هذا الفيلم هو حتماً أغنية نشاز التي حفظها كل من شاهد الفيلم، وأصبحت فيما بعد عنواناً للبوهيميّة التونسيّة الشعبيّة بامتياز: “lo sonos tunisino, lo sonos tunisino، مسلكها ملي dambino”2.
تم تتويج الأغنية كنشيد الاحتفال بالحياة اليوميّة في تونس، بما تحتويه من كلمات سهلة فكّكت مكونات الشخصية التونسية البسيطة: الحلم بالهجرة إلى أوروبا، الإفراط في “التشاؤل”، مع مسحة نرجسيّة لا غنى عنها.
من الريغي إلى المالوف
اكتسبت الفرقة أهميّتها من التجريب الموسيقي الذي نفض غبار النوستالجيا عن إيقاعات الغناوة وصرخات التلويع في الموسيقى الأفريقيّة، لتمزجها مع أغاني الأمازيغ وأناشيد البربر القديمة. وهي في نفس الوقت مزيج موسيقي كدلتا النهر الذي تلتقي فيه مصبات عديدة: موسيقى الريغي وإيقاعات شمس الكاريبي الحارقة، شظايا اللحن والإنفجارات الإيقاعيّة في موسيقى الغرانج، غناء اليهود القدامى وتراثهم الموسيقي المترحل، أنور براهم و”تونسيّته” الأصيلة، المالو وخزّانه اللحني الذي لا ينضب، أصوات التراث المعتقة كنبيذ “البوخا” التونسية،صليحة والشيخ العفريت وحبيبة مسيكة وغيرهم، موسيقى الستينيّات والسبعينيّات المتمردة من جيمي هندريكس إلى The Doors والآخرون، ذاكرة المشرق الغنائية وكواكبها الألف مثل صباح فخري وأم كلثوم. لينتج في النهاية خليط طبيعيّ بتنوّع لحني وإيقاعي آتٍ من مفارقة الإيقاعات السريعة الملوّنة بأنفاس النغم المخزّنة في شوارعه.
وهذا ما يظهر في أغنية مثل الشمس زارقة3 المقتبس من أغنية بوب مارلي Sun is Shining، حيث نجد فيها تلك اللامبالاة التي توسم المزاج المتوسطي لتونس، كالاستلقاء في عرض الشمس طوال النهار والاسترخاء لساعات في المقاهي مع تناول مواضيع سرياليّة عن أحوال الطقس والاحتفاء بالتفاصيل البسيطة في لذة قلق موسيقيّة: ريح الشهيلي عندما تهب، صوت الباب عندما يطرق، وقارورة البيرة التي تنتظر.
بينما تشير نشاز إلى جذورها الإفريقيّة في أغنية أولاد البمبارى4، الذي تشير الصفة في عنوانها إلى تنويعاتها اللهجيّة الآتية من لغة مناطق عدّة في أفريقيا مثل: مالي وغينيا وبوركينا فاسو والكوت ديفوار. أمّا موسيقيّاً، فتحيل الأغنية إلى الغناوة والإيقاعات الأفريقيّة: العنصران الأساسيّان لألحان الفرقة.
أمّا أغنية بحذا حبيبتي تحلى السهريّة، وهي أغنية اشتهرت بها فتحية خيري، إحدى أعمدة الذاكرة التونسيّة الموسيقيّة، فتستحضر خامة الشيخ العفريت الصوتية، مع تسريع الإيقاع على شاكلة السوينغ، وإضافة مسحة ريغي لا غنى عنها، فيما يحيل العود في الخلفيّة إلى المزج بين المالوف التونسي وملامح المشرق العربي. الملفت في أغاني نشاز، كما يظهر هنا، أنّه دائماً ما يكون التسجيل موجّهاً، أي أنه يترك مساحة صوتيّة لانفعالات المجموعة التي تكسر انضباطيّة عالم التسجيل، كضحكات المجموعة أو الأحاديث الجانبيّة الصغيرة.
الأغنية السياسيّة الراديكاليّة
كان لنشاز طريقتها الخاصة في التعبير عن راهنيّة الارتباط بواقع الثورة في ملتقى قرطاج الدولي للموسيقى البديلة والمسمى: موسيقى والسلام، عام ٢٠١٢. فقد أدت لأول مرة أغنية ١٣٣ جلاد5 التي تجمع بين نص مؤثّر يحتوي على “نشازات” كلاميّة كعادة المجموعة، مع إلقاء لأسامي ١٣٣ جلاداً مرّوا على أقبية الداخلية وقاموا بتعذيب السجناء.
لعل التاريخ الموسيقي لم يشهد مواقف أكثر راديكاليّة من موقف جيمي هندريكس عندما صعد على مسرح وودستوك عام ١٩٦٩ وعزف النشيد الرسمي الأميركي، مقلّداً في ذلك أصوات الطائرات المقاتلة والقنابل التي نزلت على فيتنام. إذ تمثّلت رمزيّة ما قدّمه هندريكس في التحطيم الإيقاعي للنشيد الأميركي بـنشازات مضخّم الصوت والغيتار الذي طوّعه لكي ينطق بوجع المشهد الفيتنامي، في إعادة صياغة لحنية للقصف على سايغون ووابل الرصاص على المدن والقرى.
بعد كل ذلك الوقت، أعادت نشاز تلحين وغناء النشيد الرسمي التونسي بالعود والغيتار في مقطوعة اليوم الثامن، لتختار أن تمحو بقية المقاطع، مُبقية فقط على ما وجد من شعر أبو القاسم الشابي: “إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر/ ولا بد لليل أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكسر”.
وهكذا قامت نشاز بمحو أبيات شعر مصطفى صادق الرافعي، التي أضافتها الدولة إلى أبيات أبو القاسم الشابي قبل أن تجعلها النشيد الوطني منذ عام ١٩٨٩، ليصبح بعدها النشيد تعويذة ولاء للنظام. لكن الفرقة، حتّى في اتخاذها للموقف السياسي الواضح، لم تبتعد عن إضفاء الحس السّاخر المعهود منها بإشارات بسيطة، والذي يتضح هنا في عنوان المقطوعة، اليوم الثامن، بكل ما فيه من تلميح إلى ما اتفق على تسميته في تونس بلعنة الرقم ٧ . إذ أن ٧ كانون ثاني/ نوفمبر ١٩٨٧ كان يوم تولي بن علي للحكم.
الحمار رمز نشاز غير الساخر
عن رمزيّة الحمار وصورته التي دائماً ما تصاحب هويّة الفرقة البصريّة، يقول اسكندر: “هذا الحيوان صلب ومقاوم، لا يظلم أحداً، ولكن الجميع يمارس عليه القهر. فهو يجالد في الطبيعة القاحلة ويجاهد عبثاً كي يتخلّص من ورطة الحبل الذي يحكم قبضته عليه، وإن كان يدرك مسبقاً أن حريّته جرد قاحل لا غير”. هيكل قيزة، وهو الذي درس الحضارة العربيّة واليهوديّة في إحدى جامعات برلين، والذي يعود له الفضل في إضفاء نزعة انفتاح مختبر نشاز على ألوان موسيقى العالم وإيقاعاته، يروي كيف أنهم التقطوا صورة الحمار تلك التي أصبحت فيما بعد رمزاً للفرقة في عام ١٩٩٦ لما وجدوا ذلك الحمار يعملل بلا كلل في المنزه السادس، أحد الأحياء الراقية في تونس.
تنسحب هذا الجديّة المباغتة على فكرة الثنائي عن مشروعهم، إذ يصرّح اسكندر وهيكل دائماً بأن نشاز ليست لمجرد الدعابة وتمضية الوقت بموسيقى سهلة وسلسة، بل هي نتاج جهد وبحث موسيقي وليد اللحظة: “فيما العالم يتمزق من حولنا علينا أن نعيش الآن وهنا ونحن على درجة من الوعي بمن نكون، بما نفعله، ومن أين نأتي. نشاز، هي عنوان لكل هذا”. هكذا تكلم اسكندر بو عصيدة، وهو الطبيب الجراح بأحد مستشفيات ألمانيا، إلى إحدى الصحف التونسيّة. مستلهماً، على ما يبدو، ممّا قاله نيتشه عن الموسيقى: “على الموسيقى أن تجعل منا أشخاصا حالمين ولكن في كامل الوعي واليقظة”.
أرادت نشاز أن ترتّق نسيج الهويّة الممزق بين سحر الإيقاعات الشرقيّة ومخزونها الضارب إلى القرون البعيدة وألوان الموسيقى الغربية، فكانت تلك اللغة الهجينة التي تكلّمت بمفردات اليومي التونسي، وأثارت النكتة واحتفت بالضحك من خلال مزيج موسيقيّ متوسّطي بكل تنوّعه بكل ما فيها من لامبالاة احتفالية، فأرجعت إلى الأذهان ذاكرة تونس الثلاثينيّة الغنيّة- لكن بألوان معاصرة، ذلك عندما كانت البوهيميّة الشوارعيّة تسكن مساحات الكتابة والشعر و الغناء لتصبح تعبيراً حقيقيّاً للشارع. ثلاثينيّات تونس الملونة بصخب تحت السور 6،وأعلامها من المهمشين الذين لفظتهم المدينة، مثل صالح الخميسي وأغانيه الساخرة، أبو القاسم الشابي وأشعاره الممتلئة بالحياة، علي الدوعاجي وأدبه الحافل بالسخرية السوداء، الصادق ثريا، الهادي الجويني، وغيرهم ممن حفظوا تفاصيل المدينة وأودعوها قصاصات من أغانٍ وحكايات.