Green Park/ راجي بطحيش
|راجي بطحيش| تكاد النسوة يقتلنَ بعضهنّ في السباق نحو آخ […]
Green Park/ راجي بطحيش
|راجي بطحيش|
تكاد النسوة يقتلنَ بعضهنّ في السباق نحو آخر رداء ورديّ في “السّيل” لن تلبسه أحداهن مرة، إلا عندما ستتأكد يومًا من أنّ زوجها الذي يرقد إلى جانبها قد نام أخيرًا.. أو ربما أكثر من ذلك… لتشعل من بعدها سيجارة تلو الأخرى وحدها في شرفة تطلّ على هاوية قاعها موحل ثم تدفنه.. ربما.
أهرب من أدغال أوكسفورد.. أفرّ من هناك ولا أفكر في قميص أو حذاء الفرصة الأخيرة في أحد الحوانيت باتجاه “بوند ستريت”، ولا أفكّر بفنجان كابوتشينو في “كوستا” شارع الرشيد… آسف… إدجوار رود… كابوتشينو مُحلى بمسحوق الجاسوسية الساذجة في سبعينيات القرن الماضي… ليس لأنني لست تافها.. بل إنني تافه؛ من يقضي آخر ثلاثة أيام في حياته يشتري أقمشة ومنسوجات وأطنانًا من البولياستر لن يرتدي معظمها ولن يرتدي من اشتراها لهم جلّها.. معتقدا أنه استغلّ التنزيلات الهائلة وجنى أرباحا مذهلة وضحك على أهل “بلاد الإنجليز”- هو تافه لا محالة.
أنعطف من “ماربل آرتش” جنوبًا. لقد اتخذت قراري المصيريّ لن أقضي يومي الأخير في عاصمة الضباب “أين هو” وأنا أتجول بين محطات القطار السفلي المكتظة والخانقة لتنفرط الأكياس الودودة للبيئة بلحظة حاسمة ما عند اندفاع الحشود من مخرج إلى آخر وتتحلل إلى عواملها وأجد نفسي منحنيًا على الأرض لألملم خيبتي وسراويلي الداخلية الجديدة التي كلفت كل رزمة سباعية منها جنيهًا إسترلينيًا واحدًا؛ سأتمرّد على تلك المدينة الافتراضية التي تقبع في أعماق الأرض وتكاد تلامس نواتها وسأمشي “منتصب القامة أمشي… مرفوع الهامة أمشي” بأكياس التكستيل ومشتقاته.. وقراري هو أن أمشي تلقائيا من ماربل آرتش باتجاهGreen Park وقصر باكينجهام، ثم وست منستر آبي فووترلوو لأستقلّ القطار نحو لندن بريدج وبيت أصدقائي.
أمشي أنا وأكياسي.. أو أكياسي وأنا في طريق بارك لين -طريق الأثرياء العرب والمافيا الروسية- أمرّ عبر محطة سيارات أجرة يحتاج المرء لقرض سكنيّ طويل الأمد لسداد تكلفة استغلال خدماتها. تقف نساء عربيات.. الكثير من النساء العربيات والخليجيات تحديدًا (نسيت أننا رسميّا في الصيف) تغطي هؤلاء النسوة رؤوسهنّ بالغالب ولكن ثمة ظاهرة غريبة، حيث يرتدينَ بناطيل لاصقة، لامعة بألوان فاقعة، تكاد تنفلق عن مؤخراتهنّ. أمرّ عبر سلسلة الفنادق ولنقل المهاجع الفخمة؛ هنا سيكلفني فنجان شاي مع قطعتي بتيفور بحجم مسطح الإبهام كلَّ ما حشدته من ميزانيات لشراء قوافل الملابس التافهة التي أجرّ %10 منها فقط. هنا “هلتون بارك لين”: بالقرب من هنا انتحرت، أو سقطت أو ألقي بسعاد حسني عام 2001 وتحديدًا في حي “ماي فير” الراقي، في مثل هذه الأيام، وها هو “الدروشستر” الذي قضى فيه عمي “سهيل” أيامه الأخيرة عام 2001 أيضًا، قبل عودته إلى محطته القاهرية والموت هناك وحده، بشكل غامض ومجهول إلى حدّ القهر. وها أنا أحاول استحضار الرجل مرة أخرى لغرض في نفس يعقوب؛ آخ لو أعرف ماذا حدث في السّاعات الأخيرة؛ أشتري صحيفة عربية من حانوت لا يبيع كتبي..
أدخل Green Park أنا وأكياسي وصحيفتي العربية وساندويتش جبنة وبندورة مجفّفة وعلبة كولا وكوب كابوتشينو كرتونيًا وكعكة جزر. لن أجلس على مقعد.. سأجرب جلسة العشب لمرة واحدة على الأقل. سأقوم بنزهة على الطريقة الرنسانسية الملكية بما أنّ الحديقة قرب القصر الملكي. لماذا لا يوجد لدينا عشب نجلس عليه في بلادنا وكلما جلسنا على شيء يشبه العشب ينتظرنا خراء كائن ما؟ أفتح عبوة الطعام وأتناولها على طريقة أبناء الذّوات المارّين من هنا في طريقهم من لقاء مع أحد الأمراء إلى حفل تشريفات في سفارة لإحدى دول الكومونولث. تحلق فوقنا مروحيات، ليس بعيد عن هنا تتغوّط الملكة في مرحاضها الذهبيّ المرصّع بالثلج. أغيب عن الوعي المكثف قليلا، أشعر بأنني خارج المكان وخارج جسدي وكأنني أشاهد حياتي وحاضري من بعيد. ألامس العشب الأخضر، أشعر بغياب شديد ونادر وممتع في آنٍ؛ سكينة عظيمة. هل رحلت؟ أتذكر فجأة تلك المرأة التي قالت لي في إحدى القراءات الأدبية إنني “بعيد” ويا للوقاحة- فكيف أكون قريبا في قلب هذا/ذاك الجحيم من الأسئلة؟
يقترب مني سنجاب بديع- أتذكر حبيب. اشتقت له ولكنني أملك تلك الآلية القاسية لتجاهل من أشتاق لهم كي لا أموت لوعة. أفيق من غيبوبتي اللذيذة قليلا. أفتح الصحيفة: “اعتقال الشيخ رائد صلاح”. الآن فهمت لماذا كاد الضابط الإنجليزي يطلق النار عليّ عند الحدود البحرية بين هولندا وبريطانيا عندما قلت له إنني كاتب، واكتفى بأن يطلب مني بشرٍّ بأن أحدّثه بدقة عمّا أكتب.
أنظر إلى المروحيات فوقي، أفزّ من غيبوبتي العشبية، أكمل مساري نحو ووترلوو. أصطدم بمظاهرة حاشدة في وستمنستر حول حقوق المعلمين المالية. ألمح من بعيد في ساحة المظاهرات الكونية علم فلسطين وعلم الكويرية، ثم تهبّ ريح ماطرة شديدة تكاد تمزّق أكياسي الورقية. لن ألملم خرقاتي في معقل “العدالة” البشرية هذه المرة. أبحث عن أول ممرٍّ تحت-أرضيّ لأعود غانمًا، أتجوّل في رحاب الحاضرة الافتراضية.
10 يوليو 2011
لم افهم