غالب هلسا.. الحياة والكتابة معاً / محمد الأسعد
لم تكن الكتابة بحد ذاتها هي موضع احتجاج الروائي الأردني بلا شك، بل إن اعتراضه كان على استبدال الرغبة في أن يحيا الإنسان بحرية، بالرغبة في كتابة المزيد من الحكايات على حساب الحكاية الأساسية: العيش.
| محمد الأسعد |
هل من الممكن معادلة الحياة بالورق؟ كان هذا السؤال الذي عبّر فيه غالب هلسا (1932 – 1989) ذات يوم عن احتجاجه على الروائي السوري الراحل هاني الراهب (1939 – 2000) الذي قال إنه امتنع عن التدخين ليعيش بضع سنوات أكثر، فيتمكن خلالها من كتابة المزيد من الروايات.
لم تكن الكتابة بحد ذاتها هي موضع احتجاج الروائي الأردني بلا شك، بل إن اعتراضه كان على استبدال الرغبة في أن يحيا الإنسان بحرية، بالرغبة في كتابة المزيد من الحكايات على حساب الحكاية الأساسية: العيش.
الآن، وبعد مرور ربع قرن على وفاته المفاجئة ذات يوم دمشقي يصادف تاريخه هذا اليوم، نتذكر من غالب فكرته الجوهرية: الحياة نصّ في حالة تفاعل وجدل بين الناس، وبينهم وبين الطبيعة والعالم من حولهم؛ أي أنها نصّ لم يُكتب بعد، ولن يُكتب. ولا يمكن لأحدٍ الادعاء أنّه حوّل الحياة إلى نصّ مكتوب، وأوقف جدل الإنسان مع ما يحيط به. سيظل كل هذا؛ نحن وما يحيط بنا من وقائع وأوهام وأحداث وصور وذكريات، في حالة يمكن أن نسميها “ما-بعد-النص”.
نحن وما يمكن أن نكتبه ونعيه أو نفكر فيه، مؤجلون، أي أننا منفتحون على ممكنات شتى، ولسنا سجناء تسلسل خيطي تتعاقب فيه الصور والأحداث والأفكار. لهذا السبب، ومنذ اللحظة الأولى التي رأيت فيها غالب مطلع ثمانينيات القرن الماضي، جذبتني إليه نزعة التفكير بالملموس من الأشياء، والنفور من الأفكار والشخصيات المجردة، تلك التي تفتقر إلى مكان وزمان محددين. ولا أشير هنا إلى كتابه “العالم مادة وحركة” الذي تناول فيه أفكار “النظّام” المعتزلي وغيره، بل أشير إلى منحى تفكيره المتجه دائماً نحو غير المفكر به.
ونحن نسير ذات أمسية بمحاذاة بيوت ذات طراز عربي تقليدي، قال غالب فجأة، وكأنه يحدث نفسه: “في القَصَص العربي القديم، كان العربي يخرج من بيته باحثاً عن الطعام، ويدور هنا وهناك طيلة نهاره، ثم لا يجد شيئاً، فيعود جائعاً في نهاية المطاف إلى بيته. كان هناك بيتٌ دائماً”!
كانت هذه الفكرة كشفاً بالنسبة إلي، إلا أنّ طريقة نطقه بها بتروّ وهدوء، أشعرتني أنه فكر بها طويلاً. ربما لأن هاجس الافتقار إلى بيت، وسنوات التشرد الطويلة التي عاشها بعيداً عن مسقط رأسه في قرية ماعين، ظلا يلازمانه. وسأعرف في ما بعد أن هذه لم تكن طريقة تفكير فقط، بل وطريقة حياة أيضاً.
أعني أنك هنا أمام كاتب غير عادي، مأخوذ بكلمات من قبيل “البيت” و”العائلة” و”الأصدقاء” و”القرية”، أي بكل دلالة تنبئ عن مدلول حياتي ملموس وحميم؛ بحياة منسية، مجهولة، مهمشة أو مهملة، بممكنات في طريقها إلى أن تكون، أو أنها كانت ولكن النسيان تغلب عليها، فأصبحت مهمة الكاتب الفنان أن ينقذها من العدم، أن يشكّلها في نص، لكي يمنحها فرصة البقاء والتغلب على الزمن.
ها هنا دمج بين ما يحياه الكاتب وما يكتبه، حتى أنه لا يمكن الفصل بين طريقة حياة هلسا وطريقة كتابته، كما أن معرفة الأولى تجعلنا ندرك أدبه بشكل أعمق. ولا يمكن أن يُفهم هذا الموقف إلا في سياق فكرة عن الكاتب والكتابة مغايرة كلياً للفكرة التقليدية الشائعة؛ أي فكرة أن الكتابة مهنة شبيهة بمهنة ممثل يرتدي لها مسوحاً سرعان ما يتخلص منها حين تنتهي المسرحية. كتابة نص أدبي ليست تمثيلاً، ولا يمكن تشبيهها بالتمثيل، بل هي سعي إنسان إلى أن يحيا ويكون ملء الحياة دائماً، سواء كتب أو حاضر أو سار في جوار سور حديقة، أو جلس في مقهى.
إنه يكتب مثل ذلك الياباني الذي يرى الجمال في نزوات الطبيعة وفوضاها وليس في تنظيمنا لها. إن الحديقة اليابانية التي تنتشر في أرجائها أوراق الأشجار المتساقطة والحجارة الخشنة أجمل بما لا يقاس من حديقة ورد إنجليزي مهذبة.
لهذا كتبتُ ذات يوم؛ من الصعب أن تتذكر إنساناً مثل غالب من دون أن تشعر أنه لا يصغي إلى رنين الكلمات، صخبها أو صمتها؛ بل تتذكره منجذباً، وهو يتجول أو يكتب أو يفكر أو يلاحظ، إلى ما هو حيّ مع إحساس غامر يحيط بكل تصرفاته بأنّ لا شيء يعادل الحياة.
هذه حالة قلت عنها آنفاً إنها “ما-بعد-النص”، وأعني وضعية تتحول فيها الكلمات إلى ذاكرة تنبض وتقول ذاتها بتلقائية من دون مهارات من تقانة أو مفارقات لفظية. نحن جملة احتمالات يمكننا أن نتذكر ما يأتي بالطريقة نفسها التي نتذكر فيها ما مضى وانقضى. أي أننا قادرون على الرحيل في الزمن، متخطين فيه الحدود الفاصلة بين حاضر ومستقبل. بهذه الروحية، بعفويتها وبساطتها، قرأت روايات هلسا.
إنها أعمال تجريبية ناطقة، وليست أعمالاً خرساء يتناولها القارئ كما يتناول مصفوفات من أرقام ورموز؛ لا وجود لرموز في عالم هلسا، بل الأشياء التي تحضر بذاتها ولذاتها. لا وجه ينوب عن وجه، ولا حياة تنوب عن حياة؛ لكل كائن في هذه الدنيا خصوصية وملامح، وله نبرة وصوت ولون، ولا فن من دون اكتشاف الخاص، بل والأعمق خصوصية حتى آخر نقطة. وهل يستطيع الفنان التقاط كل هذا إن لم يكن حيّاً ممتلئاً بالحياة؟
عن “العربي الجديد”