جوليانو وميلاي؛ نحن و”الهبلان” وفيتوريو/ فراس خوري
قتلوك لكن لم يقتلوا “الفكرة”. لن يمنعونا عن التفكير: لا الأحتلال ولا الرجعيين ولا السلفيين ولا المنتفعين ولا الفاسدين في فلسطين. لن يمنعونا عن التفكير. سنفكّر يا جول من أجلنا ولروحك، حبيبي
جوليانو وميلاي؛ نحن و”الهبلان” وفيتوريو/ فراس خوري
|فراس خوري|
ميلاي
بدأت أكتب هذه الفقرة في الليلة التي قتل فيها جوليانو مير-خميس ثم توقفتُ بسبب التحضيرات لمراسيم الجنازة والتواجد في مسرح “الميدان” وجنين. بدأتها متأثرًا عاطفيًا يملأني الحماس وكلّما كان يمر يومٌ كنت أشعر بأنّ رغبتي بالرثاء تقلّ. شعرت وبتأثير المجتمع من حولي في الأيام الأخيرة بأني إذا رثيته أكون قد عظّمتُ من شأني؛ فبطبيعة الأمر سأذكر معرفتي بالشخص وأنني عملت معه. شيئا فشيئا بدأت أشعر بأنني أفقد إنسانيتي وتأثري لصالح تلك الكلمات المؤثرة التي أكتبها، ثم أنه لا بدّ أن يقارَن رثائي برثاء آخر ويقيّم على نحو ما اعتدنا أن نقارن الرثاء منذ أن رثى كلٌ من أبي فراس والمتنبي أختَ سيف الدولة. شعرتُ باغتراب إزاء كلّ ما أكتب وإزاء كل ما يحدث من حولي.
كم هو محرج أن بدأ البعض يستغل موت جول للوقوف أمام الكاميرا أو لمقابلة في جريدة أو لإلقاء كلمة أو للغناء فجأة! شعرتُ بفراغ يملأني. أردت البكاء على جوليانو وعلى مسرح “الحرية” وعلى مخيم اللاجئين جنين وعلى فلسطين، لكنّ كلّ ما من حولي حبس دموعي حتى فتحت مخارج دموعي ميلاي جوليانو مير-خميس البريئة عند قبر أبيها. رميت ما كتبت في الماضي وبدأت مجددًا. لا مجال للشك بصدق كلام ميلاي؛ فميلاي ابنة جوليانو وهي –كأبيها- تخلو من أيّ زيف. وقفتْ ميلاي صامدة تخاطب جمهوراً لترثي أباها وتدعونا لاستمرار النضال. لم أرَ في حياتي علاقة أب بابنة خاصة مثل علاقة جول بميلاي. إنهما بحق إنسانٍ واحد يكملان بعضهما بعضاً. لم يكن جول مفهوماً دائماً ولكني متأكد من أنّ أكثر إنسانٍ فهمه وأحسّ به هي ميلاي- نصفه الآخر. كانا وكأنهما يبثان على موجةٍ خاصة ملكاها وحدهما. كان جول أكبر فخرٍ لميلاي ولكن كان أكبر إحراج لها أحياناً، بالضبط حين يأخذها إلى عرض فيلم في تل أبيب ويقف بعد انتهاء الفيلم أمام مئات الأشخاص ليعارضهم ويجادلهم ويهاجمهم، فتشدّ هي بإطراف ثيابه راجيةً أن يجلس.
وميلاي هي أكبر فخرٍ لجول. عندما كنتُ أذهب إلى مخيم اللاجئين في جنين وإلى مسرح “الحرية” كنت أشعر بالحماية والطمأنينة بسبب وجود جول في المنطقة (ولست وحيداً بل أنا وكل أصوات اليسار من كل أنحاء العالم التي قبلت أن تزور مخيم لاجئين يقبع خلف جدران وأسلاك كهربائية وداخل جدران فكرية شائكة باتت سامة ومميتة). فما هو إذاً كبر تلك الحماية التي شعرتها ميلاي في حضن جول والتي ستفقدها منذ الآن؟
جوليانو
“مهنة أعدائي إطلاق النار على الفكرة”، قال الشاعر مريد البرغوثي. هذا ما أرادوا فعله في جنين. فليس جول المقصود إنما “الفكرة” من وراء جول التي لا تلائمهم وما هي هذه “الفكرة”: “الفكرة” هي أن نكون متساوين من دون علاقة بقوميتنا وديننا وجنسنا. “الفكرة” هي فلسطين من دون احتلال. “الفكرة” هي التحرّر الجنسي؛ “الفكرة” هي النزاهة والشفافية التامة في العمل؛ “الفكرة” هي حرية الفكرة ولأجل هذه “الفكرة” قـُتل جول. حين يقتل إنسان يسأل أقرباؤه: “من كان أعداؤه”؟ كان أوجب أن يسأل الناس: “من كان أصدقاء جول”؟ أعداء جول هم أعداء “الفكرة” وهم كثيرون في غابتنا المظلمة.
يكذب من يقول إنه يستوعب ويعي الموت ويفهم معناه؛ فبعد لحظات فقط من موتك وجدت نفسي أفكر في أمورٍ لا تتعلق بشكل مباشر بكبر المأساة والفاجعة: صرتُ أسأل نفسي إلى أين سيذهب كلّ ما كنت تعلم وكل تجربتك الواسعة في الحياة؟ شعرت مصدوماً بأنه ممكن لكلّ هذا أن يزول معك! ألا يرثه أحدٌ؟ أو يخزن ويحفظ في مكانٍ ما؟ إلى أين سيذهب كلّ ما في دماغك من أفلام ومسرحيات شاهدتها وكتب قرأتها؟ إلى أين سيذهب كلّ هذا؟ هل سيختفي معك أيضاً؟ أعلم وأعي يا أخي أنّ إرثك سيبقى، وأنّ أفلامك ومسرحياتك ستذكرنا بك. ولكن إلى أين ستذهب قدرتك الرائعة في التحليل والنقد للفنون؟ هل سيختفي هذا معك أيضاً؟ إلى أين ستذهب قرائتك الثاقبة للنّصوص؟ إلى أين ستذهب شجاعتك؟ إلى أين سيذهب هذا المُحرّك الذي يصرخ من داخلك أفكارًا وتمثيلاً وفكاهةَ وحركة دائمة شبه لا إرادية أحيانا؟
لم أرَك يوماً نائماً. لا أستطيع أن أتخيلك نائماً. هل كان يرتاح المحرك ليلأ؟ إلى أين سيذهب كل هذا الجنون يا جول؟
منذ سنين وجوليانو مير-خميس يمشي حاملاً صليبه على ظهره متوقعاً أن يُصلب في أية لحظة. وبرأيي هذا لا ينبع من كونه بطلاً مستعداً للتضحية بحياته من أجل هدفٍ إنسانيٍ سامٍ -كالرواية الكلاسيكية- بل إنّ طريقة حياته الخطرة هذه هي ناتج حتمي لوعيه الكبير. فهو أراد لنفسه أن يعيش بحرية: حرية الفكر والقول والعمل. هذه هي الحرية التي أرادها جول لنفسه ولكل الناس، وحريته في غابتنا من الممكن أن تكون كلفتها الحياة نفسها. كان جول يعيش في تحدٍّ دائم لنفسه وللمجتمع من حوله. فالخوف والقيود من الممكن أن تجعلك سجيناً وتجعل عالمك أضيق من زنزانة السّجن.
قصة جول إذاً هي قصة كلاسيكية منذ عيسى المسيح حتى تشي جيفارا. فهؤلاء أيضاً أرادوا أن يعيشوا حرية الفكر والقول والعمل وكان هذا أهمّ لديهم من أي شيء آخر. كانوا يعيشون الحرية وحينها فقط يدعون إليها. لقد كان عالم جول كبيرًا واسعاً بلا حدود. كان هو وفكره حُرّين طليقين يجوبان الفضاء، ومن هناك استمدّ الرّجل قوته أكثر من مبادئه ومعتقادته التي كان يغيّرها بكلّ جرأة بموجب التغيرات من حوله، متحرراً من أيّ رابط بأية جهة أو عامل.
عاش جول حراً ومات حراً بحق. وكما كتب غسان كنفاني الذي كان جول يحبه ويقدره: “إني أحكي عن الحرية التي لا مقابل لها، الحرية التي هي نفسها المقابل”. لا أنفكّ عن التفكير بصورة غسان كنفاني الموجودة في مكتب مسرح “الحرية” وفي أسفلها اقتباس للكاتب: “لا تمُتْ قبل أن تكون نداً”. وبكونك إنسانًا كارهًا للرومانسيات الفارغة والشعارت الطنانة، صدقتكَ عندما رفعتَ هذه الصورة، تمامًا كما أصدق غسان كنفاني في كل ما كتب.
ومثل غسان، أنت لم تمت قبل أن تكون ندًا.
نحن و”الهبلان”
هناك جملة أردّدها كلّ الوقت منذ أن بدأت أستوعب موتك بعد قتلك بثلاثة أيام. الجملة هي “مش مصدّق إنه قتلوك الهبلان!” لا تمرّ ساعة كاملة من دون أن أردّد هذه الجملة وحدي أو أفكر بها. “جول… أنا مش مصدق إنه قتلوك الهبلان!” لقد أطفأ محركك “الهبلان”؛ لقد أوقفوا كل ما أنت عليه بخمس طلقات “الهبلان”. لا أصدق أنك قتلت وأن من قتلك هم “الهبلان”.
“نريد محاكمة القتلة”- هذا هو شعارنا الآن. فإذا لم نحارب “الهبلان” فسوف يكون هناك شهيد فنان فلسطيني آخر. لربما كنت الأول لأنك كنت الأشدّ جرأةً في أشدّ الأماكن حساسية. إذاَ فهي معركة بيننا وبينهم: إما أن نخمد أصواتنا أو نحارب.
لا لن نسكت يا جول. وقد بدأنا نرفع رايات الحرب المباشرة على “الهبلان” مُحبّي علوم الغيب لا غيرها. أحباء أعدائهم “بعلومهم” وأعداء أحبائنا والوطن بجهلهم. حربنا الأولى أعمال فنية أجرأ وأصرحَ وأشدّ انتقاداً تغضب “الهبلان” وتوعّي أصحاب الميول إلى “الهبل”.
قتلوك لكن لم يقتلوا “الفكرة”. لن يمنعونا عن التفكير: لا الأحتلال ولا الرجعيين ولا السلفيين ولا المنتفعين ولا الفاسدين في فلسطين. لن يمنعونا عن التفكير. سنفكّر يا جول من أجلنا ولروحك، حبيبي.
عندما أنتهيت من كتابة هذه القطعة قُتل الصحفي الإيطالي والمناضل الفلسطيني فيتوريوا أريغوني على يد جماعة سلفية في غزة تدعى “الصحابي الهمام محمد بن مسلمة “/”هبلان”. بات الأمر واضحًا الآن يا جول، بات واضحًا وأكيداً من أيّ مكانٍ وكيف علينا أن نستمرّ في نضالنا للحرية.
كان لي الشرف بأن أعرفك.
وداعا أبا جهاد.
وداعاً رفيق.
28 مايو 2011
يا فراس لا مشكله لدي في هجومك على القتله او الذين لا يتقبلون الفكر الاخر
لكن كلمات رجعي ومنغلق واصولي اصبحت ممجوجه لانها تستعمل ضد اي مسلم ملتزم او مسلمه متحجبه حتى لو كانوا ملائكه
ثم يا فراس هل المحجبه مثلا هي “اخر” في نظرك يجب احترام حقها ام يجب طردها من المدرسه الثانويه
حريه الفكر والحريات الشخصيه مش لناس وناس وشيطنه 90% من الشعب تشعرك بالسيطره وبتفش غللك لكنها لا تحل المشكله الموجوده فعلا
16 أبريل 2011
اللـــــــــــــــــــــــــه !
ما انبل مشاعرك فراس وما اروعها.
رحم الله جوليانو ونعم كما قلت هؤلاء “الهبلان” مهزومون لأن القتل هو وسيلة الضعيف ،جوليانو انتصر عليهم حيا وشهيدا .