ياسر خنجر في ديانة القمح والغمام / فوّاز طرابلسي
تفتح مجموعة “السحابة بظَهرها المحنيّ” الأبواب على عالم يضج بسنابل القمح والورد والزيت والأنهر واليمام والغمام والشجر والحمام والمطر. فهذه القصائد أفعال إيمان وطقوسٌ وشعائر لديانة وثنية يحلو لي أن اسمّيها “ديانة القمح والغمام”، فيها يبحث ياسر خنجر عن صوته الشعري المميّز وعن الإيقاع الشعري والنبض، بمثل الدأب والتصميم اللذين يناضل بهما.
|فوّاز طرابلسي|
أعترف لكم بأني أشعر بمزيج من الغُربة والرَهبة. الرهبة لأني استخدم السكايب لحضور احتفال لهذا الجمع السوري – الفلسطيني في حيفا بفلسطين. فأنا في فلسطين وأنا أيضاً في جولان سورية. والغربة لحضوري، ولو صورياً وافتراضياً، في بلد ممنوع عليّ أن أدخله.
يسعد مساكم، أول الأمر. ولنبدأ بالتعارف.
تعرفت إلى رندا مدْاح وياسر خنجر بصدفة غريبة. قادني “جون برجر” إلى رندا وقادتني رندا بدورها إلى ياسر. طلبتُ من الصديق الناقد الكبير نصاً للعدد الأول من مجلة «بدايات» فأرسل لي نصه الكثيف الجميل عن معرض لشخوص رندا في رام الله. هكذا اكتشفت فن رندا ورافقتها وهي تنتقل من التعبير عن العذاب والمقاومة تحت الاحتلال والضمّ الإسرائيليين للجولان إلى العذاب والمقاومة ضد الاستبداد الدموي للنظام السوري. أكدّتْ لي رندا ما قد اكتشفته سابقاً عن بصريات الغزو الإسرائيلي للبنان والحرب الأهلية في لبنان خلال الإعداد لكتابي “غيرنيكا-بيروت”، أعني أن الحروب تطرح الأدب والفن أن يبتكرا أبجديات جمالية شاذة وعنيفة ترقى إلى مستوى شذوذ الحروب وعنفها، جمالية تشوّه وتفكّك وتخلّع وتفجّر، ما يمكنها من التعبير عن تلك المسافحة الغريبة بين المعدن واللحم البشري.
من خلال رندا وياسر، وأيضا من خلال منير فخر الدين، تعرّفت إلى جولان، البشر والأرض يكسوان جولان الخريطة ويحييانها. وقد كان الجولان خريطة صامتة بالنسبة إلينا حيث أن الصمت الذي فرضه النظام السوري على الحديث عن الجولان المحتلّ والمضموم في سورية أطبق أيضاً على لبنان وعلى لبنانيين.
لنعد إلى التعارف. عندما شاهدت صورة ياسر خنجر، بدا لي كائناً رعوياً من عهود المقلاع، بالمقارنة مع صورة رندا الاسمهانية . لم يخيّب ياسر ظنّي. ما إن قرأت له على الفايسبوك حتى وجدت الشاعر يسمّي نفسه “رفيق الرعاة”، ويفتتح ديوانه بلغة الأناشيد القديمة:
لم يكن شعرها فالتاً في الحقول
رَغمَ أَنَّ القمحَ ينمو كثيفاً فوقَ كفّيها.
لَم تَدُس مرّةً أَرضَ السؤالِ عن السّبَب،
كانَ يَكفيها كُلّما فَتَحَت شَفَتيها
أَن تَطيرَ سُنونُوّةٌ صَوبَ أحلامِها .
لَم تَسرِق مِنَ اللّيلِ نَجمَةً حينَ غَفَت،
وما حَلُمَت بِغَيرِ قَميصٍ جَديدٍ
أخفّ قليلاً مِنَ الرّيح
لست ناقداً أدبياً بل مجرد متذوق للشعر. ومتذوّق انتقائي فوق ذلك. ورّطني ياسر خنجر في محاولتين للكتابة عن شعره. المرة الأولى لكتاب مقدمة لـ “السحابة بظهرها المحنيّ” التي نحتفل بها في هذه الأمسية. نجحت في أفشال محاولة ياسر الأولى وفشلت في الإفلات من هذه الثانية التي تجمعني الآن بكم. قررت المغامرة في الحديث عن شعر ياسر، لاكتشافي طاقته على الإيحاء، ولأن ياسر يسعى وراء ما يجعل الشعر شعراً، أعني تلك البدائية التي تخترق الحواجز بين البشر والطبيعة وبين البشر والألوهة.
تفتح مجموعة “السحابة بظَهرها المحنيّ” الأبواب على عالم يضج بسنابل القمح والورد والزيت والأنهر واليمام والغمام والشجر والحمام والمطر. فهذه القصائد أفعال إيمان وطقوسٌ وشعائر لديانة وثنية يحلو لي أن اسمّيها “ديانة القمح والغمام”، فيها يبحث ياسر خنجر عن صوته الشعري المميّز وعن الإيقاع الشعري والنبض، بمثل الدأب والتصميم اللذين يناضل بهما وقد بات نزيل المحبسين: سجون الإحتلال الإسرائيلي والإستبداد البعثي في سائر سورية. وكم هو فاجع، وموجع، وصحيح أن يعلن أن السجّان واحدٌ يبدّل ثيابه بين سجن وآخر وبلغتين متعاديتين ما يؤكد أن “للسجناء هنا وهناك / قلب واحد / يثمَلُ في وحي الانعتاق”.
وهذا قبل أن يعلن نظام الاستبداد حربه على أطفال سورية ليصيح به الشاعر: “لا توقف المجزرة / يا سيّد القتل / هناك طفلةٌ أفلتت /من مخلب الموت “. وهي ثورة. وللثوار أبجدية واحدة “يبدلّون الحياة كي تصير ذات معنى”، لكن ثمة من لا يريد للحياة معنى إلا الموت، فتردعه ديانة القمح والغمام بهذا التحذير القرمطي : “كلُ صلاةٍ لربٍ بخيلٍ/ لا يمنح الخبز، صلاةُ كفر”. ووحده الشِعر يستطيع أن يختزل مأساة النزاع الدموي الطائفي المذهبي في منطقتنا بمثل هذه المعادلة التي تتحدث عن شهيدِ “خذلته مئذنةٌ تكبّر/ بإسم قاتلِهِ”. مع ذلك فالشهداء ليسوا يطالبون بالثأر، يطالبون الأحياء بأن يكملوا الدرب الذين بدأوا والحلمَ الذين حَلُموا.
وكما في قصص الرعاة الأقدمين، فزمن الحرب والحبس والموت، هو زمن الحب الجسدي الذي يتحدّى الألوهة “لا حاجة لي لاعتناق الالوهة / ما دامتْ أصابعي مدرّبةً على المشي/ إلى أسرار شهقَتِكِ”، إلى أن يتلو الشاعر الصلاة الاخيرة: “البابُ مفتوحٌ لشهوتك/ فأخلعي عنك الصلاةَ وجسمي/ واحملي غيمةً في قلبك المشتاق/ وحدُه الغيم سيرشدك إلى شهقة العشب”.
وها نحن عدنا كذا نعود إلى الأول وإلى بدئه: القمح والغمام.
لست أريد الإيحاء بأن هذا المقتطفات تلخّص كل المجموعة. إنها ناظمها إذا جاز التعبير. وهنا لي ملاحظتان:
الأولى، أن هذه المقتطفات يخالطها قدرٌ لا بأس به من زؤان النثر الذي لا بد لشعر القمح والغمام أن يذروه مع الريح.
والثانية، أن شعراً بهذه الطقوسية يجب أن يٍعنَى أكثر بالإيقاع، خصوصاً وأنه يطمح إلى أن تحلّق سُحابَتُه مع غَمام ماياكوفسكي.
كتبت هذا النص يوم ٢٥ أيار، نوّار كما يسمّى في جبل لبنان، وكان يوم الاحتفال بالذكرى الرابعة عشرة لتحرير الشريط المحتلّ من الجنوب اللبناني من الاحتلال الاسرائيلي. خلال حصار بيروت، كتبتُ يوميات أصدرتُها بعنوان “عن أمل لا شفاء منه». ما دمنا في سيرة جون برجر، فقد وضع اصبعه على الجرح عندما زار فلسطين، فتحدث عن “اليأس غير المهزوم” الذي يحرّك الشباب الفلسطيني. واظنه هو نفسه اليأس غير المهزوم الذي يحرّك شباب الجولان وسائر أرجاء سورية.
بعد أن تفجّرت الثورات وإرتدّت عليها ردّات، أجدني أتساءل هل يكفي الاستقواء بمرض الأمل الذي لا شفاء منه أم الأحرى إستمداد القوة من اليأس الذي لا يُهزَم؟ لا جواب لدي ولكن عزائي أن ما يجمع بين الاثنين هو اللا. فلا ولا ولا.
مبروكة المجموعة الجديدة، يا ياسر. للجولان التحرر من الاحتلال ولسورية الحرية. ولفلسطين التحرر من الاحتلال وانتزاع حق تقرير المصير والعودة.
(كلمة الكاتب والمفكر اللبناني فوّاز طرابلسي في أمسية إطلاق ديوان “السحابة بظهرها المحنّي” للشاعر السوري، ابن الجولان، ياسر خنجر)