مُدرّج الخريف الأكبر/ فاطمة عاصلة
لم جئت أمي؟ أكي تطمئني لأنّ الموسم ليس موسم قطف الاطفال من نعوش الحلم، بطرف بندقية؟ أم جئت لتريني مجردة من تهمة “الحجر” و”إحراق العجل”؟ من تهمة الجلوس بظلّ زيتونة، وترقب قميص أخضر لصبغة حمراء؟
مُدرّج الخريف الأكبر/ فاطمة عاصلة
|فاطمة عاصلة|
.
أمي، قبلة وخريف
أيلولُ مَدرّجُ الخريفِ الاكبر، سُقوطٌ يزداد وقعَهُ كلما اقترب، تتوارى الاشكال بظلالها. أخرُجُ منِّي، يَدخلُ الاثنان؛ طِفلُ تِشرين اللقيط.
أكتوبر… وقبلة تستفيق في الذكرى، أتحسّس خدي، أرقبه، أفتش في المسام عن معنى الهبوب.
و”قبلة اكتوبر” وشمٌ زاده غبار السنين وضوحًا.
.
ربما في اليوم الرابع -لم أعد أذكر- ففي الفقدِ يتجردُ توالي الايام من معناه. لكن الظلمة لا؛ كان الوقت فجرا، وثمانية أعوام في سرير النوم تتأهّب لترث ذاكرة من دون دراية.
يَطُلُ وجه امي، امي… يفض بهاء حزنها الاعمق رداءَ العتمة، تقبِّل طفلة نائمة، تصحو على دفء الشفاه.
أتترك نيران الصرخة كل هذه الرطوبة؟!
لم جئت أمي؟ أكي تطمئني لأنّ الموسم ليس موسم قطف الاطفال من نعوش الحلم، بطرف بندقية؟ أم جئت لتريني مجردة من تهمة “الحجر” و”إحراق العجل”؟ من تهمة الجلوس بظلّ زيتونة، وترقب قميص أخضر لصبغة حمراء؟
(أنا لم أكن ألبس الأخضر).
.
أفتح عينيَّ. قبالتي نافذة مشرّعة على حضور أمي، قليل من ضوء المصباح يتسلل الى وجهها المحتَلُ بكل اسلحة الفاجعة.
أكانت تطل على رعشتي، تنتظر على النافذة صحوتي، لتتأكد من وصول الامانة… على ظَهر قُبلة؟!
- تبسَّمَتْ.
- تبسمتُ (أو تبسمتُ فتبسمتْ لا يهم، ففي المهام الصعبة تختلط النهايات بانجازها).
لا، لم يكن وقوفها على النافذة لتنظيفها كالعادة، ولم تترك شيئا ما بين حوافيها. كانت تتأكد من وصول الامانة، ابتسامة من انجز مهمة بنجاح غير متوقع.
.
تأكدتِ أمي؟ لم حملّتني قُبلة تثقل ذاكرتي كلما تبدلت الفصول وسقطَ تشرينُ عند أعتابي؟ لخصتِ روايات المشاهد كلها، دسستها في قبلة البستها ثوب الحداد ووشمتِها على خذ ذاكرتي، إلى أن يُمحى اسمي أنا في خرف مكتوب .
.
أنا يكفيني هذا الوزن المتضخم كل عام… أنا يكفيني هذا الاحتفاء… ويفيض… يفيض.
.
“عرس ع السكت”
أتدري “بنت الجيران” التي لا تربطني بها صلة وثيقة انها الوحيدة في هذا الكون التي احفظ “تاريخ زواجها” وأعرف متى تحتفل بعيده كل مرة؟ كيف تعرف؟
أيدري سائق الباص اني في كل مرة اراه ارغب بالقول: “بتعرف اني بعرف قديش مرق عزواجك وباليوم”؟
.
“تحت الشجرة” في بيت الجيران عروس، تحيطها حسرة النساء على الثوب الابيض.
في العرس هدوء تام.
يرنّ الهاتف للمرة الألف هذا اليوم، تسقط السماعة، وفي العرس هدوء تام.
تنتظر امي سيارة تقلها (لا يحضر سؤال “أين”.. م كلو بروح لهناك اسا) تروح، تجيء، بصمت مدوٍّ، بضجيج صامت، وفي العرس هدوء تام.
تُطل النسوة في العرس فجأة على صرخة امي، على إلحاحها للخروج مشيا على الاقدام (والمطر). لسواعدهن الآن وظيفة أخرى غير تلك التي جاءوا بها… العرس ع السكت.
أمي تسأل، أمي تجيب، وفي العرس هدوء تام. تهدأ أمي مرّة، تثور مرّات، مراسيم العرس تغرق بأغاني الصمت… أكثر…أكثر.
“بسم الله الرحمن الرحيم…” في العرس هدوء أتم كل وجوهه، “ولا تحسبن الذين قتلوا…” في سبيل الموت تخرج امي.
تخرج أمي، أدخل الى غرفتي، أرقب الحائط الابيض (كم مرة بتزعل امك على ابسط الامور، جربت مرة يبكيها بحرقة الي بزعلوا الارض الي عم تكفف دموعك؟ نفسهن الي عن يسرقوا الريحة من الحبق؟). أرقب بياض الحائط الخالي من أي شائبة، وفقط الان عرفت لمَ الابيض لون الكفن.
خرجت امي، ربما العروس خرجت ايضا، وانفضّ النسوة الى عرس آخر -ليست هي- بل هو من كان سيلبس الابيض فيه، لو أن الموت كان شجاعا واكثر عدلا… لو ان القدر لم يأتِ برما بتصفيقه لبنادقهم فرحا بارتمائه كل مرة في احضان جندي.
أتدري العروس اني اكتب عنها الآن؟
.
الزقاق كائن حي
أيلول مدرج الخريف الاكبر، الاثنان طفل تشرين اللقيط… يدخل، يبسط الطاغية سطوته على كل السطوح، يحل حبره على اوراق الربيع، هو الموت طاغية والا فكيف له رائحة، “رائحة الموت” (كلما سمعتها كنت اضحك قائلة: “شو هالشاعرية؟) أضحك الآن (أسًى) من سخريتي لسخافتها (قبل ذاك اليوم).
نعم، للموت طقوس، للموت مواكب تسبق قدومه، وموجز يسبق نشرة أنباءه المفصلة.
“الزقاق كائن حيّ”- لم يخبرني أحد غير الطريق.
هذا الزقاق كائن حي، يحيي كل عام ذكراه بنفسه، يشعل شمعة أخرى في جسدي، ويسعل… ينفث رائحة اكتوبر في أرجائه، يلون جسده بذات اللون (الأصفر) وشيء ما أشبه بالسحاب، شيئا ما من مخلفات الحدث يكسوه…
يسعل، وتستعيدني الأصوات، الزقاق كائن حي، يشغل أسطوانته: “مولّعة بالقدس”، أذهب، أعودُ، أحدق بشدة في الحفر والثقوب كأنها تحمل عني الصّدى.
الزقاق كائن حي، “شارون فات عالاقصى”، كنت اركض بلا سبب، بلا وجهة، وجه او واجهه، يسعفني الوقت ليصفعني فيما بعد.
الزقاق كائن حي: “شفتوا بالبلد تحت أخرى مولّعة”، “بقولوا في شباب متصاوبين”.
عري شجرة التين، هبوب الريح، الثقوب في الارض، السماء، خطاي، ركضي والزقاق، كلها ترقص على ذات الايقاع.
.
عشرة أعوام سبقت، وأخرى تلت، مشطت قدماي الايام، عتقت تحت حجارته، بعض الرفاق وكل الكلام في زحمة من الاحداث والمواسم، لم تمت حياته الفريدة، او تمتص عطر تشرين وصوت الخريف من جدرانه.
ماذا كنت أفعل هناك؟ أكنت ألبس التراب ثياب الحداد لتلبسني- كل يوم ذكرى أعبرها- نسخة الحدث؟
إحدى عشرة نسخة مطابقة لم تنتقص لحظة، بل زادت، زادت وفاضت حتى امتلأ الصوت:
فليخلد الزقاق الحي… فليخلد الزقاق الحي.
.
أسيل:
ضحكة لها شهية رغيف نضج على الحطب لتوّه-كما أحبه.
لك الآن كل أرغفة الحياة الطازجة
ولنا ذكرى بوجع..
أيُمّحى… بلفظ :
” ش ه ي د”؟!
(20/9/2011)