تدخين/ فرحات فرحات
|فرحات فرحات| اِنتظرني أبي وقد نزلت عليه السّكينة وبرود […]
تدخين/ فرحات فرحات
|فرحات فرحات|
اِنتظرني أبي وقد نزلت عليه السّكينة وبرودة الأعصاب حتى أعود إلى البيت من المدرسة. يعود سبب الانتظار إلى وشاية وصلته من زوج خالتي حين ضبطني أنا وشلة من الأولاد متلبّسين بتدخين السجائر في كرمه المزروع بشجر الخوخ. أعتقد أنه استشاط غضبا ليس على تدخيننا السجائر فحسب، بل لأننا قطفنا أكثر من سطل خوخ لم يستوِ بعد من شجراته حيث فردنا الثمر على الأرض وغمسناه بكمشة كبيرة من الملح. كان بامكانه أن يضربنا، فقد وقعنا في يده متلبسين في الجريمة، لكنه وبـّخنا وقال إن الأمر لن ينتهِ عند هذا الحدّ. كنا شلة من الأقارب والأصدقاء، في الصف السادس أو السابع، لا يتسع فضاء القرية لمرحنا وشقاوتنا.
وصلتُ البيت وأبي ينتظرني وبجانبه دفتر صغير، أوراقه بيضاء بلا سطور، كنا نسميه دفتر الرسم. انفرجت أسارير أبي وعلت وجهه ابتسامة، إشارة ً منه كي أطمئن، ثم بدأ محاضرته العلمية التربوية عن مضارّ التدخين. وحتى يضمن أنّ محاضرته تغلغلت ووصلت أعماق إدراكي، كان لا بدّ من وسائل إيضاح. هنا بدأ دور دفتر الرسم، فقد انتزع صفحة منه ثم أشعل سيجارة من دون فيلتر، أعتقد أنها من نوع “دوبك 10″، امتصّ منها نفسًا عميقًا ثم قرّب الورقة إلى شفتيه مخرجًا دخانًا كثيفًا جعل منها نقطة صفراء بفعل النيكوتين. نظر إليّ وكأنه عالم في مختبره خرج للتوّ باكتشاف علمي عظيم: أترى مساوئ الدخان وما يفعله لرئتيك؟ قلت له بهدوء: ما دمت تعرف هذه الحقيقة فلماذا تدخن أنت؟
من يومها انقطعت وسائل الإيضاح بيني وبين أبي بينما ترسّخت علاقتي مع التدخين اللهم إلا بعض القطيعة هنا وهناك لم تدُم طويلاً.
لم يعد في هذا العالم موطئ قدم للمدخنين. أصبحنا منبوذين ومطاردين مثل القاعدة وطالبان. لا يخلو مكان لا توجد فيه إشارة ممنوع التدخين. باختصار، لا وجود لنا في هذا العالم المثالي. مثالية تقتل بقدر ما فيها من زيف ومغالاة. لا أحد يريد أن يموت من سحابة دخان سيجارة ترنحت بجانبه، لكنهم يموتون بالآلاف من وجبات الطعام السريع (junk food) المشبعة بالكولسترول وبالمواد الحافظة. وإذا مرت هذه الوجبات عليهم بسلام، لن يستطيعوا الإفلات من المبيدات الحشرية على مختلف الخضروات والفواكه. وإذا نجوْا بأعجوبة من ذلك، تلقتهم الشاحنات والمركبات الكبيرة وهي تنفث الوقود المحروق وكأنها حيوانات قديمة من الأساطير اليونانية ترشف النار أمام أيّ خطر يعترض طريقها. وإذا أفلتوا من ذلك فلا بدّ أن يواجهوا مصانع البتروكيماويات التي يعانق دخانها الملوث سماء العباد في احتضان أبدي. هل قلت شيئًا عن اللحوم المطعمة بالمواد الكيماوية حتى تحافظ على نضارتها وطراوتها أو عن المفاعل النووية التي تنفجر من وقت لآخر لتذكّرنا بهيبتها وسلطانها علينا؟ القائمة تطول وتطول وتطول وتبقى السيجارة المسكينة الوحيدة المستضعفة أمام برلمانات العالم أجمع.
لم أستهلك يوما ً أكثر من خمس عشرة سيجارة يوميًا، ولم أعتبر نفسي على مرّ السنين مدخنًا من العيار الثقيل. اليوم، يمكن اعتباري non smoker أو light، إذا صحّ التعبير. فقد خنتُ العهد وهجرت السجائر لصالح الغليون لفترة قصيرة، سرعان ما اكتشفت بعدها أنه غير عملي أولا ً، وثانيًا وهو الأهم، أنه يوحي بالفوقية والترفع وهذا ما أردت والعياذ بالله فقررت الابتعاد عنه. لم يبق أمامي سوى السيجار. أعتقد أنّ حبي له تزامن مع سيجار كلينتون الشهير ولكن لأسباب لا تمت للرئيس بصلة، أهمها أنك تستطيع التمتع بنكهته من دون ابتلاع الدخان مع الحفاظ على رئتين نظيفتين. وبما أنني أدخن عددًا قليلا ً منه يوميًا وبحجم سيجارة عادية، فلا أعاني أيّ عوارض جانبية كالسعال والإحساس بانقباض الصدر. أما متعتي الحقيقية فهو السيجار الكوبي الذي يصاحبني في نهايات الأسبوع وفي جلسات الأصدقاء الحميمة برفقة كأس من النبيذ أو الويسكي. من قال إن الحياة ليست جميلة؟ لكن هناك من يريد أن ينغص علينا عيشتنا. إنها أمريكا، مصدر الشر في هذا العالم؛ فهي التي تحلل وتحرم، تجعلك تولع بالشيء ثم تحرمك منه. هل تذكرون صور نجمات هوليود الفاتنات بشفاههن الحمر وهن يحتضنّ سيجارة أُشعلت للتوّ؟ أو ذلك الرجل على الحصان وسط غابة كثيفة، ينبض حيوية ورشاقة وهو يدخن مالبرو؟ لقد مات المسكين جراء مرض السرطان والله يعلم إن كان يدخن أصلا ً.
في أواخر التسعينات من القرن الماضي، كان بإمكان المدخن في أمريكا أن يجد بعض المقاهي والمطاعم داخل المجمعات التجارية، ممّن سمحوا بالتدخين. كنت أفتش عن هذه الأماكن “بسراج وفتيلة” بغضّ النظر عن نوعية الطعام الذي يقدمونه كي أسعد بسيجارة وفنجان قهوة بعد الوجبة. مع بداية الألفية الثانية، كان منع التدخين في الأماكن العامة المغلقة شموليًا. كنت أشفق على الموظفين في نيويورك، ضعاف النفوس، هؤلاء الذين لم يستطيعوا الإقلاع عن عادة التدخين. تخيلوا موظفًا يعمل في الطابق الخمسين، ينزل إلى الشارع شتاء، بدرجة حرارة دون الصفر كي يدخن سيجارة، هذا إذا استطاع إشعالها في طقس عاصف. وكأنّ رؤساءهم في العمل لم يسمعوا عن زاوية للتدخين أو عن ماكينة لامتصاص الدخان وروائحه. دائمًا كانوا قساة قلوب هؤلاء الأمريكان. ولمن لديه شك، فقد مـُنع المدخنون في الفترة الأخيرة من التدخين في حديقة السنترال بارك في منهاتن وليذهب المدخنون إلى الجحيم!
باختصار، نشعر باختناق شديد وليس بفعل سحابة دخان سماوية من سيجارة مشتعلة.
طلب أحدهم من بائع السجائر علبة، فناوله واحدة كتب عليها التحذير الآتي: “التدخين يسبب الضعف الجنسيّ”. أعاد المشتري العلبة إلى البائع قائلا: لا أريد هذه، أبدلها بأخرى مكتوب عليها الدخان يسبب السرطان”.
يا مدخني العالم اتحدوا!