البساطير… كهوّية!/ فيروز التميمي
ربما أنّ أحمد الذي أطلّ على الشاشة الرسمية السورية، من دون روب عمله وكنزته البالية، من دون تأتأته الطبيعية ورجفة صوته الطبيعية- ربما ما زال حياً لم يمت كما نتمنى ونرجو. لكن.. للمرة الأولى يكون عدم التأتأة وعدم الرجفة في الصوت دليلاً على الرّعب لا على الطمأنينة
البساطير… كهوّية!/ فيروز التميمي
|فيروز التميمي|
بالبساطير تتعرف السلطات الفاجرة إلى أفرادها. هكذا فعلت السلطات السورية من دون أن تحمرّ خجلاً، ردًّا على المشاهد المخزية التي تناقلتها الشبكة العنكبوتية المباركة، لأفراد أمن سوريين يدعسون على رؤوس شباب من منطقة البيضا ببساطيرهم الوطنية!
مشهد الشباب الملقين ووجوههم للأرض كان صدمة أولى؛ ظننتُ هذا المشهد حصريًا على إسرائيل المجرمة في التعامل مع الفلسطينيين، ولم أفهم الصورة إلى أن سمعت التسجيل الصّوتي المرافق والذي يطلب فيه الأمن من المدعوس عليهم الهتاف لبشار وسمعت المسبّات النابية التي لا يمكن الخلط بينها وبين أيّ مكان آخر!
السلطات السورية الضليعة في نظرية المؤامرة، نفت المشهد من أساسه! وادّعت أنّ الصوت مركّب على الصورة. السلطات لم تتعرف إلى لهجة أهل البيضا، ولا إلى ملامحهم، لم تتعرف إلى البَسطة الصَبّة المعروفة في البيضا، ولم يتعرف النظام الوطني إلى هواء الوطن، لم يتعرف إلى لون ربيع البيّاسة. لم يجد النظام السوري سوى البساطير يحتكم إليها هويةً لأفراده! ولم يجد كذبة أفضل من القول بأنها ليست بساطير بشار بل بساطير البشمركة العراقيين وأنّ المشهد بكامله ملفّق ومسقط على النظام البريء.
لكنّ الشاب الأشقر الذي يرتدي روب العمل المهترئ ويقف أمام الكاميرا وهو يتأتئ ويرتجف، قال إنه من المدعوس عليهم. الآن، ربما أنّ أحمد البياسي ما عاد، ربما بالفعل كسر مدير المخابرات عنقه دوساً ببسطاره- الهوية، ربما داس رأس أحمد بتوحش حتى الموت! وربما أنّ أحمد الذي أطلّ على الشاشة الرسمية السورية، من دون روب عمله ومن دون كنزته البالية، من دون تأتأته الطبيعية، ومن دون رجفة صوته الطبيعية- ربما ما زال حياً لم يمت كما نتمنى ونرجو. لكن.. للمرة الأولى يكون عدم التأتأة وعدم الرجفة في الصوت دليلاً على الرّعب لا على الطمأنينة.
نفق درعا-المكسيك
كذبات الموظفين الصغار من عيّنة بثينة شعبان، إلى جانب أنها تثير القرف والملل أعلاه، فهي تقصير في أداء المهام الرسمية!
“فقر الخيال أو الهَمالة في القيام بالمهام الرسمية”- هذه هي التهمة التي أتخيّل أنّ الثورات العربية يجب أن توجّهها إلى أفراد الأنظمة الساقطة، بدءًا برأس الهرم ووصولاً إلى قاعه.
فخطابات الحكّام المنقلعين المُملّة والمكرّورة على طريقة: لا أنوي الترشح، وأنا ضد التوريث.. الخ الخ، يمكن عزوها إلى فقر خيالهم أو قلّة هيبتهم، لكنّ كذبات الموظفين الصغار من عيّنة بثينة شعبان، إلى جانب أنها تثير القرف والملل أعلاه، فهي تقصير في أداء المهام الرسمية! القرف من “قلّة مروّتهم” والبلادة في تدبيج الكذبات التي تشكّل جزء رئيسياً من وصفهم الوظيفي الذي يقول إنها من مهامهم ومسؤلياتهم إضافة إلى تأليف السيناريوهات المضادّة للحقيقة.
لكن كذبة نفق درعا-المكسيك تفوقت على كثير من الكذبات التي تنافسها، لا بإتقان الوقاحة لكن بكمّ التياسة فيها! جميع كذباتهم مخزية لكن أغباها كذبة هذا النفق الذي ادّعى النظام السوري أنه يصل المندسّين بمصادر السلاح. وقال إنه تحت الجامع العمري في درعا وتناقلت القنوات الرسمية صُوره. ففي شهر 3 من العام 2009 تم تناقل نفس الصورة عن الأسوشيتدبرس للنفق ذاته لكن في المكسيك! نفس النفق بالسنتمتر وحتى بذات الخرقة المُدندلة من سقفه، وقالت حينها السلطات المكسيكية إنه يتم تهريب المخدرات فيه.
لا بأس، فليسمّه النظام السوري نفق درعا-المكسيك وحينها سيمكنه الاستفادة من هذه الحبكة لتثبيت روايته الخيالية الثانية عن حبوب الهلوسة!
ودمع لا يكفكف يا دمشق
نشأتُ على حب دمشق؛ من جدي، الشيخ المهيب، اليتيم خرّيج التكايا السليمانية في دمشق، الذي كان بنُحوله الحنون وعينيه اليتيمتين يحدّثنا عن الشام كأنما يروي أساطيرَ: عن بردى الذي تثلج البطيخة حين توضع فيه صيفاً، وعن التكايا السليمانية التي درس فيها.
وحين قطعت الحدود من الرّمثا إلى درعا أول مرة -وكنت طفلة- أحسستُ بأنّ الأنظمة مسخرة! وأنّ الحدود نكتة، وأنّ أولي الأمر فينا يظنوننا نملاً، ليرسموا بالطباشير حدوداً ويتوقعوا منّا الإلتزام بوقف جريان نسغنا من حوران إلى حوران!
وحين وصلنا الشام، أضفتُ إلى أساطير جدي: آذان الفجر، أرضية الأموي الرخامية الباردة وبسطات خضار كالجواهر في ساحة المرجة. وكنت أحبّ دمشق كلّ مرة من جديد كلما أنقذني بيت الشعر الذي يوجع القلب لشدّة رقته وحزنه، في المبارزة الشعرية بيني وإخوتي؛ بيت الشعر الذي كررته عددا من المرات بإخلاص يكفي لتسونامي عربي من الدمع.
والآن ورغم كل هذا الحب.. ورغم هواي الحوراني.. فإنني أقف عاجزة مثل نملة. فيا دمشق اعذريني: “جلال الرزء عن وصف يدقّ”.
5 أغسطس 2011
اول يوم اقرا لك لكنك مميزه ويا حبذا تزوديني ب الايميل