فلمّا كانت ليلة الخامس والعشرين/ عزت القمحاوي
الثورة لم تقتلع بلاطة من ميدان ولم تخرب عامود كهرباء ولم تضرم النار في قاعة جامعة. الثورة التي يعرفها الثوار سلمية وعاقلة ومتسامحة حتى مع جلاديها
>
|عزت القمحاوي|
إستبدال الشعب: لكي تأخذ عصابة مبارك الابن فرصتها في نهب المصريين اخترعت عصابة مبارك الأب تقنية استبدال الشعب. كان الأمن يعمد إلى إفراغ الموقع الذي سيزوره الرئيس من ناسه ونشر عناصر من الأمن معلوفة جيدا ومؤتمنة على حياة الرئيس وعلى الكلام المتفق عليه سلفا. يحتل بعضهم أسرة المستشفى مؤديا دور المريض، بينما يرتدي البعض الآخر ثياب ملائكة الرحمة المزيفين ويعلق السماعة الطبية في رقبته.
وشهدت السنوات الأخيرة من حكم الرجل المريض وقائع مضحكة، مثل لقائه بالمصادفة مع فلاح في خص على النيل يدعوه إلى كوب شاي على الحطب ويقبل الرئيس الدعوة، يتفاكه مع الفلاح الذي يتضح فيما بعد أنه عنصر أمن، وهناك كذلك المواقف المؤسفة مثل فضيحة استجلاب تلاميذ مدرسة لغات ونشرهم مكان التلاميذ الفقراء الحقيقيين للمدرسة الحكومية التي زارتها السيدة الأولى.
لكن ‘شعب الصورة’ المخترع لم ينجح في حماية مبارك من الشعب الحقيقي، ولم تعوض فلسفة الحفل غياب الحياة الواقعية، فكانت الثورة.
نشيج المنتصرين: في آخر ضوء ليوم الثامن والعشرين من يناير، عندما صدر للشرطة أمر الإستسلام، تخلص بعضهم من ملابسه العسكرية، لكن الملازم العشريني الأكثر وسامة من المتحدث العسكري لم يلجأ إلى هذا الإجراء، بل تسلل في مقدمة طابور قصير من جنوده على رصيف مقهى ‘جروبي’ العريق. الخوف الذي لا تمكن رؤية صفرته إلا في وجوه الأسرى كان يظلل وجوه الضابط وجنوده.
إرتفعت صيحات انتقام، لم تتعد المطالبة بالضرب، وعلى الفور امتدت عشرات الأذرع تصنع سياجا يحمي المنسحبين. وثمة صوت تطمين ناشج بالبكاء انطلق: ‘لا تخافوا أنتم أخوتنا’ صوت أذكره جيدا. ولم أزل أنشج بالطريقة نفسها، كلما هلت الذكرى.
صفرة الجواسيس: ليس أكثر صفرة من وجه أسير الحرب سوى صفرة وجه الجاسوس. في المعركة الأعنف المعروفة في الفلكلور الإعلامي باسم موقعة الجمل، كان المدافعون عن الميدان ينجحون أحيانا في اصطياد بلطجي خرج ليقتلهم لقاء أجر زهيد، ويعودون به إلى مركز الميدان في زفة تطوقه. يمشي كالمذبوح، تتبدل ظلمة وجهه إلى صفرة كابية عندما يدرك أن الطوق البشري حوله مهمته حمايته من أية محاولة انتقام، ولا تلبث صفرته أن تضيء عندما يجد نفسه أخيرا في مكان آمن خارج الطوق. كان كل ما يفعله الثوار معه هو الإستيلاء على بطاقة هويته لتوثيقها إعلاميا وتسليمه بلا أوراق لمندوبي الجيش.
في تلك الليلة الطويلة الظالمة تم تسليم ثمانية وثلاثين أسيرا. والآن، لا أحد من المشاركين في الملحمة يعرف كيف مضت الحياة بالبلطجية الثمانية والثلاثين بعد ذلك. لكن ثلاث سنوات من الصراع جعلت وجوه البلطجية مميزة، اليوم يخدمون سيدا وغدا مع سيد آخر، بعضهم يخدم سيدين في ذات اللحظة، لهم الملامح ذاتها ولا يمكن أن ترى في وجوههم مجددا صفرة الخوف التي بدت ليلة الجمل.
إستبدال الثائر: إستدارت السلطة، تحالف سلطة الماضي، تتعهد بالرعاية الثورة التي قامت ضدها، وضعت دوائر حمراء عند بعض الأشخاص، هؤلاء سيكللون بالغار، سندفع بهم إلى المقدمة بوصفهم القادة الشباب الملهمين، وبقدر ما يجري تضخيم دورهم بقدر ما يتضخم سقوطهم في ساعة آتية لا ريب فيها، سنعلن فيها أن الثورة كانت مؤامرة من حفنة ترتبط بالشيطان الغربي.
وقد حانت ساعة السقوط. تسجيلات التخابر، فضح الحيوات الشخصية. هل يمكن أن تُسمى ثورة تلك الأحداث التي تزعمها شباب مستهترون وملوثون إلى هذا الحد؟
ربما ليست ثورة بالمرة، وربما هي ثورة من دون ثوار، ثورة لها حفل ينوب عنها، ولها أكثر من أب يحتفلون بها اليوم.
هل عرف التاريخ شعبا متنعما تفعل السلطة كل شيء نيابة عنه؟ حتى عندما يرغب في الثورة تثور وتحتفل بالثورة التي أعفته من تبعاتها وتكاليف احتفالاتها. لكن ‘ثوار الصورة’ لن يستطيعوا أن يخفوا الثوار الواقعيين الذين ـ بكل ألم ـ يتابعون اختلاف تحالف سلطة الماضي.
يد ملوثة بحناء العرس، ويد مصبوغة بالدماء. الثورة لم تقتلع بلاطة من ميدان ولم تخرب عامود كهرباء ولم تضرم النار في قاعة جامعة. الثورة التي يعرفها الثوار سلمية وعاقلة ومتسامحة حتى مع جلاديها.
الثورة ليست في حناء الفرح ولا في دماء الانتقام.
(عن “القدس العربي”)