أرز بالفول/ دينا أبي صعب
أستيقظ بعد دهر، أدبّ على أربعٍ، حتى الشعر في رأسي له ألم، والأظافر تئزّ كمِخرز. أتثاقل، أتهاوى، أترنّح، أعرج، أتخبط، أموت وأعيش
أرز بالفول/ دينا أبي صعب
.
|دينا أبي صعب|
معلق بالهواء من قدميّ، يرشح الدم من رأس أنفي، ويقطر من شعري المبلل بالبول والخثر، أفكر بطبخة الأرز بالفول التي لا تتقنها زوجتي. رفعتُ الغطاء عن الطنجرة وأعدته كمن يَصفع وجهَ الأرز بالفول صفعًا:
“أرز بالفول؟” صحت بأعلى صوتي ليصل صوتي إلى الغرفة المجاورة، “أكل الفطائس حرام، الله ينجينا من عذاب النار والفول آمين”.
لم آكل يومها، وها أنا معلق في غرفة الحجز رأسًا على عقب، لا أفكّر بالجوع الذي تعتّق على مهل منذ أربعة أيام في معدتي، ولا أشعر بالحبل يشنق كاحلي ويحزّ كسكين على الجرح، ولا يزعجني هذا الحكاك المستمرّ في ظهري، لا تصله اليد المُدمّاة هي الأخرى، التي استحال لونها أسودَ؛ لا أفكّر في شيء إلا في متعة الرفض… أن اقول لا لكتلة الذلّ المعلقة بحبل هذه، لجسدي استحال كتلة ورم واحدة، لرائحة الخراء المعشّشة في أنفي مُذ بال المحقق على رأسي، لصحن الأرز بالفول، لدرس تربية مدنية لا يُعلم إلا قلة التهذيب.
بين صحو وغياب، يدخل الرجل الوحش مجدداً، يركلني عند الكلية اليسرى، أترنح كرقاص ساعة، لا أئنّ، ولا أفتح عينيّ. يثقبني برأس حاد، لا أقوى على الآخ، يقطع الحبل القريب من السقف، أسقط ككيس خيش على رأسي وأتكوّر بعضي فوق بعضي، لا أرفع يدًا ولا أسدل جفنًا. هو الموت من الداخل. كلّ الامور من بعده سواء. هذا الذلّ ما عاد يخترقني، وهذا الوجع ما عاد يفعل بي. كلّ ما أريده الآن هو ذاك الصحن الدافئ بكل ما فيه من بيت وعائلة وملح ومذاق مرّ وعمل يوميّ بليد. يد زوجتي تسكب الأكل لا تسقط منه حبة أرز واحدة؛ طرف ثوبها؛ مخاط فوق فم طفلي؛ حذاء ابنتي المقطوع؛ سيارتي الصّدئة تحتاج أربعة دواليب منذ العام الماضي وأنا اقول لها غدًا غدًا. لا أريد الكثير.
ساقني الرجل بثيابه المدنية إلى سيارة، طمّش عينيّ وقال لي:
“يا ابن الكلب تتعامل مع هؤلاء الكلاب ضدنا؟”
من أنتم؟ من هم؟ قلتُ في نفسي، هؤلاء الكلاب زملاء لي في العمل، ورفاق الجامعة، وكل من أعرف. هم كلاب نعم، ولكن أنتم من تكونون؟ ما وصفكم؟ وإلى أيّ فصيلة أبقار تنتمون؟ أنا على الأرض، لن أخرج من هنا إلا نصف حيّ، وأنتم ستسوقون غيري لتعلقوه كذبيحة.
يقول المحقق: “تبيّن أنك بريء، ستخرج من هنا، لكن لا تكرّر فعلتك هذه ثانية، تعبنا كثيرا في تعذيبك، ولا ينقصنا يا ابن القحبة”.
أعود إلى البيت زحفًا، نصفي لا يقوى على الحراك، ونصفي الآخر محطّم كزريبة خنازير. أستحمّ ساعتيْن، كمن خرج من اغتصاب. حثالة علقت فوق روحي، والبول يغلف الروائح كلها. أنام أيامًا ولا أفيق. زوجتي تبكي، الأطفال هادئون خوفا على غير عادة.
أستيقظ بعد دهر، أدبّ على أربعٍ، حتى الشعر في رأسي له ألم، والأظافر تئزّ كمِخرز. أتثاقل، أتهاوى، أترنّح، أعرج، أتخبط، أموت وأعيش، أرفع ظهري رويدًا وأصل المطبخ. أرفع الغطاء عن الطنجرة، أجدها فارغة، ألعق برودة المعدن الفارغ وأشعر بالامتلاء.
(20 أيار 2012)