القاهرة: كنت هناك في 19 نوفمبر/ راجي بطحيش
. |راجي بطحيش| > 1 أدخلوها آمنين: أصل إلى المطار، أش […]
القاهرة: كنت هناك في 19 نوفمبر/ راجي بطحيش
.
|راجي بطحيش|
>
1
أدخلوها آمنين: أصل إلى المطار، أشعر بفراغ بسيط فالمطار (ومع كل محبتي الرومانسية للبلد) بعيد عن مركز المدينة وهو في منطقة شبه صحراوية أو صحراوية تماما. كما أنني لم أفهم حتى لحظتها لماذا جئت إلى هناك.
أتفق مع سائق الأجرة مستسلما لفضولي على سعر ليتضح بعدها أنه ضعف السعر المتبع. نخرج من أرض المطار وندخل أرض مصر الجديدة (الحي وليس العهد). تصفعني ريح باردة خفيفة ورائحة وقود محببة واللافتات الانتخابية.
آه. بالطبع لا توجد صور لمبارك ولكن ثمة لافتة تستفزني تشير إلى “متحف سوزان مبارك لفنون الطفل” أو شيء من هذا القبيل.
أسأل السائق لأحطم حيرته أو حيرتي: إذا كيف الأوضاع؟
السائق: زفت.
أنا (بلهجة استاذية لا أعرف من خولني التحدث بها): هذه فترة انتقالية ومن الطبيعي أن تكون معقدة.
السائق: لا يا أستاذ.. لم يتغير شيء.. كل شيء يتراجع للوراء كما أنه زاد علينا عدم وجود الأمان، والله يستر من الغد.
هذا ما كنت أخاف منه طوال الوقت.. الغد أو مليونية 18.11.11.
السائق مرة أخرى: إسمع يا استاذ. إنت نازل فين؟
أنا: الزمالك.
السائق: بكره خليك في الأوتيل متنزلش منو. البلد حتولع والعسكر والإخوان حيكسرو بعض.
نلج نفقا صغيرا مكتوب على مدخله: “أدخلوا مصر آمنين”.
.
2
الفلول والطعمية: أستيقظ في يوم المليونية الموعودة مثقلا بمشاعر الإسلاموفوبيا اللعينة.. ومع هذا لم أشعر بالاسترخاء والعذوبة والصفاء كما شعرت في مساء الأمس وأنا أتجول وحدي في شارع 26 يوليو بالزمالك وأنا أدخل منطقة التحرير وطلعت حرب للقاء الأصدقاء وأنا أجلس معهم في التكعيبة وفي حانة قررت أنها حقيرة من دون أن أستأذن أحدا (تذكرني بحانة “وردة” في فيلم الباطنية).
أتخذ قرارا إستراتيجيا ألا أبقى في الفندق. سأذهب لفيلم خالد يوسف الجديد في مجمع سيتي ستارز حتى تنتهي المليونية. نخترق المدينة شبه الخالية والمكفهرة من مركزها ونحو أقصى شمال شرقها. لا أشعر بالخوف وكأن ليس ثمة ما أخسره، لكن سائق الأجرة بالذات ينقل لي خوفه الذي لا يخيفني بدوره عن الماسونية والبهائية و”الشاذين” والكفار، وعن كل ما هو آت.
أدخل فيلم خالد يوسف الجديد “كفّ القمر” وأفكر بالمليونية. هل حدث الصدام؟ هل انفجرت البلد أم لا؟ وكيف أجلس هنا على حافة التاريخ لأشاهد فيلما سينمائيا في قاعة خاوية إلا من سيدة مسنة وابنتها، وهل تعرف المرأة ما الذي يحدث في الخارج؟
يحكي الفيلم عن المركزية الذكورية/القضيبية التي تنتج الطاغية مما يتواءم ولو بقليل مع ما يحدث أو سيحدث أو قد يحدث هناك على بعد عشرة كيلومترات من مدينة نصر.
أخرج من السينما لأكتشف الفخ الذي وقعت فيه. ألوف وألوف من الناس يملأون المجمع التجاري.. يلتهمون الطعام السريع والبطيء ويرتشفون الكابوتشينو الذي يفوق ثمنه ثمن تذكرة السينما. يتجوّل الملايين من الناس في المجمع بصحبة أكياس ماركات جوتشي وفالنتينو وفرساتشي ولاكوست وجيس تكفي وحدها لحلّ المشاكل المالية لنصف سكان حي شعبي في القاهرة. ثم كيف يمكن أن يرتدي صبي بعمر ابني حبيب بدلة دولتشي آند جابانا بآلاف الدولارات. إذا أنا في معقل الفلول.
أعود إلى “وسط البلد” لألتقي بأصدقائي. أدخل ميدان التحرير لأول مرة وهو شبه مغلق من جهة طلعت حرب.
يا للبهاء؛ لقد بدأ الاعتصام.
.
3
السبت 19 نوفمبر: لا أحب أيام السبت عامة وكم كنت أتمنى لو كان هذا السبت مختلفا عمّا سبقه وقد كان؛ تحدث صحفية لبنانية على الفطور في الفندق شخصا مصريا أعتقد انني أعرفه من عالم السينما، كما يخطط مجموعة من السياح الأمريكيين يومهم في الأهرامات. أفزّ عن المائدة.. لن أستسلم لكسل الفنادق هذا اليوم. يجب أن التقي بأكبر عدد من الأشخاص في يوم واحد. موعد في الزمالك مع مدون مصري كويري ولقاء مع الكاتب ربيع في السادسة في “وسط البلد” وبعدها لا أعرف إلى أين سيقذفني ليل القاهرة.
أمرّ في الساعة الواحدة من قلب ميدان التحرير. أقلّ من مئتي شاب وشابة يقفون معتصمين في جزيرة وسط الميدان بشكل لا يعيق حركة المرور.. أميز منهم نوارة نجم على ما أعتقد. أتجوّل في محيط ميدان طلعت حرب وأقتني بعض الكتب. أجلس في مقهى. يراقبني رجل بملامح أمنية قاسية من سيارة أمن مركزي عالقة في الزحمة. أدفع الحساب وأقوم. أمرّ بسيارة أجرة عبر ميدان التحرير. لا زال المعتصمون هناك. كانت الساعة 14:50 أي قبل عشر دقائق من اندلاع الأحداث رسميا. أجلس في مقهى في الزمالك مع ناشط كويري يحدثني عن مخاوف الكويريين من الأمن وصعود الإسلاميين للسلطة. نغادر المقهى باتجاه “وسط البلد”، ترتفع اصوات تغطية اعتداء الشرطة على المعتصمين. ندخل مركز المدينة عبر جسر علويّ يطلّ على ميدان “عبد المنعم رياض” و”التحرير”. تتصاعد ألسنة اللهب والدخان الأسود. يتصل بي “ربيع” ويطلب مني ألا أصل “وسط البلد” لأنّ الأمور تأزمّت إلى ابعد الحدود. أبلغه أن الموضوع صار متأخرا وأنني سأجلس في حانة “الحرية” في باب اللوق وأنتظره. لا يصل “ربيع” وأجد نفسي جالسا في أقرب نقطة ممكنة من شارع “محمد محمود” الذي أصبح شهيرا عالميا خلال ساعة وقليل. تتقدم اللجان الشعبية وتطلب من أصحاب المحلات إقفالها. يلمّ صاحب الحانة النقود بسرعة من الزبائن ويحاول أن يتخلص من فتاتين أمريكيتين لا تتوقفان عن الضحك الهستيري والتقاط الصور لزجاجات الستيلا الفارغة أمامهما وأمام الشاب المصري المرافق الذي كان يخطط بدوره لليلة ملتهبة. أغادر المقهى في الاتجاه المعاكس للميدان (أو هكذا كنت أعتقد). يهاتفني صديق ويطلب مني مغادرة وسط البلد فورا والبقاء في الزمالك.
أكاد ابكي من نسمات الغاز المسيل للدموع البعيدة القريبة.
ها انا سجين الزمالك والساعة لا تزال السابعة. وخلافا لسيتي ستارز فالزمالك ليست معقلا للفلول بل لأولئك الذين يعيشون على عبق الماضي الأرستو-استعماري (راجع كتاب خارج المكان لإدوارد سعيد). لماذا أسجن دائما في هذه الأماكن؟ أتجوّل كالهوانم والبكوات بين محال الأنتيكات والتحف والمقاهي والمشغولات الشرقية باهظة الثمن التي تحوي فيما تحوي مشغولات للنخبة والأجانب حول ثورة 25 يناير. أحاول أن أقتل الوقت في مطعم “توماس” الفرنسي والذي أفتتح في الزمالك عام 1922. أقتل الوقت على شرط ألا أصل لنقطة تحتم علي مشاهدة التلفزيون المصري الذي كان يحرض مباشرة على قتل الثوار.
.
4
أجلس مساء/ليل الأحد مع مجموعة من الكتاب والشعراء في سطح الكارلتون المطل على كل شيء.
كيف يضحك هؤلاء ويشعرون بهذه الثقة والسعادة وهم يعددون إصابات أصدقائهم وبهلوانيات الميدان والضحايا المفترضين.. إصابات هم مرشحون لها في كل لحظة معطاة..
بحجة التعب ورغبتهم بالعودة لبيوتهم نغادر المكان. أودعهم وسط الشارع. يطلب مني نائل أن أقبل له تراب فلسطين.
أدخل سيارة الأجرة. يشغل السائق “أسمر يا اسمراني” لعبد الحليم. نصعد كوبري 6 اكتوبر نحو غرب المدينة العظيمة..
متأكد أنا أنهم لم يذهبوا إلى بيوتهم، بل عادوا إلى الميدان..
25 نوفمبر 2011
السرد جميل.