ألبوم “زهر اللّوز”: بلغة الجمال تردّ الأغنية على الخراب/ أسماء عزايزة
يتمّ راهناً إطلاق هذا العمل الموسيقي في جولة عروض في فلسطين والجولان المحتلّ بدءاً من منتصف أيلول الجاري. فيه، لا تواجه الأغنية الواقع بلغته، لا تواجه الحرب بالشعار، لا تواجه الدمار بأغنية تصرخ بنبرة عالية ومباشرة، بل بلغة نقيضة تمامًا؛ بلغة الجمال الإنساني ونقائه. ربما لم تعد تلك اللغة حيّة في شاشات التلفزة أو في عواصمنا العربية، بيد أنها جزء عضويّ من كينونتنا كبشر.
| عن “ملحق فلسطين، السفير” - أسماء عزايزة |
يبدو، لوهلة، أنه ضربٌ من الهذيان؛ أن تفتح ملف “وورد” لتكتب عن ألبوم موسيقيّ جديد، بينما أغلقت للتوّ صفحات الإنترنت التي تقطر منها دماء السوريين واليمنيين، والعرب بشكل عام، بلا هوادة. لكنّ مشاهد الموت قد تولّد مليون شكلٍ لردّ فعلك. والخراب، إذ يحيطك من كلّ مكان، قد يواجَه بأغنية من أغاني ألبوم “زهر اللّوز” لـ”تريز، يزن والأصدقاء”.
نصٌّ سياسيّ، لكنه لا يلطم
يتمّ راهناً إطلاق هذا العمل الموسيقي في جولة عروض في فلسطين والجولان المحتلّ بدءاً من منتصف أيلول الجاري. فيه، لا تواجه الأغنية الواقع بلغته، لا تواجه الحرب بالشعار، لا تواجه الدمار بأغنية تصرخ بنبرة عالية ومباشرة، بل بلغة نقيضة تمامًا؛ بلغة الجمال الإنساني ونقائه. ربما لم تعد تلك اللغة حيّة في شاشات التلفزة أو في عواصمنا العربية، بيد أنها جزء عضويّ من كينونتنا كبشر.
الفنانة تريز سليمان، ابنة حيفا، تقدّم، عدا عن صوتها المحكَم والمتين، نموذجًا إضافيًا في كتابة الأغنية. مرّة في الحب، حيث تلجأ إلى الكلمة البسيطة، ولكن إلى استعارات ذكيّة وتراكيب شعريّة رقيقة؛ كما في “رقصة لتنين” أو “تيجي نحلم”: “رح أترك إيدي معلّقة بطراف لمخدّة/ بلكي غزالي يحنّ ويرجع الصّدى يودّي/ تهليلة ترجّع غزالي لعندي/ أغفى أنا أصحى وأنا غزالي إيده ع خدي”. ومرّة في الواقع، الذي ولّدته الظروف السياسية والمعيشية المترهلة؛ فتكتب فيه تريز بسخرية، وكأنها تواجهه شخصيًا، عينًا بعين. قد يجوز أن نقول إنها أغنية سياسية، ولكنها لا تضعف أمام هذا الواقع، ولا تلطم، بل تتعالى عليه. نجد هذه النبرة في أغان كـ”ضي زغير”: “في ضمّة ولو بعد الكسرة/ أحرار وإسمن أسرى/ في عالم طقّت من الحسرة/ ألوان تحت الرماد”. أو في “شخَر القمر”: “لو فيو القمر يعتب كان طفّى من زمان/ شايف الحُر مغلّب شايف كوكب خدران/ لو فيو القمر دندل راسه وشخّر كمان/ شايف الغلى مشنشل شايف رِخص الإنسان”.
موسيقى لا تذكّر الأذن بشيء
لا شكّ أننا نجد في الموسيقى المؤلّفة في ألبوم “زهر اللّوز” تجاورًا حميمًا مع النصّ. الفنان يزن إبراهيم، ابن الجولان السوريّ المحتلّ، التقته تريز في العام 2010. ومنذ ذلك الحين، وجدا فضاءً موسيقيًا متمايزًا، يجمع كلمتها وصوتها بلحنه وجيتاره. بدأ يزن يبرز كعازفٍ وملحنٍ متمرّس. وبمشاركة الموسيقيين: حسن نخلة وعمرو مداح وشادي عويدات ورامي نخلة وهيلانة خاطر، من الجولان أيضًا، يضع في “زهر اللّوز” لحنًا، إن وصفته بلغة غير متكلّفة وبعيدة عن أدوات النقد الموسيقي، أقول إنه لا يذكّر بشيء. يجيء من تأثيرات مساحات موسيقية عالمية؛ كالبوب والجاز والروك والموسيقى الشرقية. لكنه لا يخلص تمامًا لأيّ منها. يقدمّ هؤلاء الموسيقيين، ومن خلال تركيبة صوتيّة تخلقها الجيتارات والدرمز والإيقاعات والكمان والساكسفون والأكورديون والبيانو، نموذجًا لافتًا للأغنية “المحليّة” الحديثة. تلك التي لا تتكئ على موروث موسيقيّ جاهز، أو ذاكرةٍ سمعيّة ناجزة، بل على ثقافة ومعرفة واسعتين تكونان عندهم أرضًا خصبة للإبداع المجدِّد والمتنوع. فتارةً تأتينا ذات إيقاع وكأنه يتتابع ليفجّر شيئًا في نفس المستمع، وتارةً تأتي رقيقة وبالغة الحساسية. وفي كلا الحالتين، تبدو النغمة الواحدة مستقلة ومدروسة ومحكمة، ضمن الصورة العامة للحن والتوزيع.
إن غياب شركات الإنتاج الموسيقي في فلسطين أثقل كاهل الفنانين لعقود. ربما ظهرت مبادرات عابرة هنا وهناك، إلا أن مشروعًا استراتيجيًا حاضنًا لم يكن على الخارطة. الموسيقي سامر جرادات من رام الله يطمع في حمل هذا الثقل، وفي دفع مسألة الإنتاج والعرض للعديد من الموسيقيين والفرق إلى الأمام. وكانت فرقة “تريز يزن والأصدقاء” إحداها. والألبوم، الذي شاءت الفرقة وصفه بـ”الخلطة الشاميّة”، تقدمه حيفا والجولان السوري المحتل ورام الله، متجاوزًا الحدود الذي رسمها هذا الخراب، ومؤكدًا على أن الإنسان، صانع الفن، هو “زهر اللّوز”، وهو سيّد من يتجاوزها.