قد يكون أنّ العولمة نجحت حيث فشلت الدولة القومية!/ مرزوق الحلبي
حُوصر الناس لعقود بين نصّيْن: نصّ السّجون والمعتقلات وإرهاب الدولة، وبين نصّ المنافي والغربة. وهما نصّان كان العرب آخر المبدعين فيهما وأطولهم عهدا وأكثرهم تفننا!
قد يكون أنّ العولمة نجحت حيث فشلت الدولة القومية!/ مرزوق الحلبي
|مرزوق الحلبي|
للحدث الاجتماعي أو السياسي في العادة أكثر من سبب واحد وحيد. وهذا ما يوجّهني في محاولتي تفكيك التحولات الجارية في المجتمعات العربية. لا بدّ من تراكمات وعوامل تضافرت وتقاطعت وتنافرت كقوى دفْع أحدثت ما نشهده منذ شهور قليلة على طول البلاد العربية وعرضها.
أما التفكيك فهو السعي التأملي المعرفي لمعرفة الإجابات عن جملة من الأسئلة تتصل بعوامل أفضت إلى سلسلة الأحداث التحويلية في عدد من الأقطار، وفي تزامن لافت. ومن هنا فإن مسعانا هنا سيتأسس على مقاربة مسببات الحدث المتواصل المتنقل كسيرورة من خلال الإشارة إلى التفاصيل ليس بوصفها جزءا من المشهد بل كدالة على التيارات الجوفية التي أنتجت المشهد. وهو مشهد اختلفت وتطابقت تفاصيله من بلد إلى بلد. بمعنى، أننا لا نرى الخصوصيات إلا ضمن المشهد برمته. وهو مشهد سيرورة وصيرورة في آن. جريان بدأ ولما توقف. وتشكّل حاصل للواقع والمشهد.
■
السيرورة في راهنها تداعٍ لمباني “العقل العربي”، ليس كما توقف عند حدوده الراحل الجابري، بل كما صاغته تجارب الدولة العربية القومية في العقود الأخيرة. وهو عقل ظلّ الفرد العربي في إطاره “موعودا ومبعودا”. بمعنى، أنه كان مطالبا بالانتظار والتريّث، بإرجاء طموحاته وتعليقها إلى حدود الإلغاء، بمنح اعتماد للدولة دون أية ضمانات، بالتنازل عن كل شيء للنظام المونارخي، عن الحرية والكرامة والفعل الإرادي، من دون أي مقابل سوى التدحرج من سيء إلى أسوأ. مؤجّل في تحقيق ذاته ومُبعد عن صنع القرار. عقل أنتج ثقافة ذات بُعد واحد واتجاه واحد، بُعد السلطة وجهتها ومصالحها. ثقافة حالة الطوارئ كما نظّر لها كارل شميدت في الحقبة النازية والتي تتلخّص في استثمار القوة لفرض القانون على عكس دولة العقد الاجتماعي المفترضة التي تخضع فيه القوة لسلطة القانون. وها هي الناس تحاكم القوة المتجسّدة في الأنظمة السياسية الأبوية. كأنّ الناس اكتشفت تشخيصات فرويد وعمدت متأخرة إلى قتل شخصية الأب فيها من خلال الانقلاب على الأنظمة وتشويه صورة الأب المرسومة خارجها والمحفورة فيها وكسر تماثيله وأصنامه في أذهانهم وفي ساحاتهم. وهو فعل يتفق مع تعريفات الحداثة القائلة بقتل الله طريقا للتحرر على غرار ما فعله آدم الذي عصاه بتفضيله المعرفة. ناس اختاروا العصيان والمعرفة على ما تعنياه من مغامرة لا وضوح فيها سوى حرية الاختيار والقول والتجربة والخطأ.
السيرورة في راهنها تداعٍ لمباني “العقل العربي” كما صاغته تجارب الدولة العربية القومية في العقود الأخيرة. وهو عقل ظلّ الفرد العربي في إطاره “موعودا ومبعودا”
الحاصل الآن هو محاولة متأخّرة لفتح باب الأمل الموصد منذ عقود. فالعقل العربي المشار إليه أغلق أبواب الأمل بالشمع الأحمر، بعد أن صادر الماضي والحاضر. دول استهلكت ثلثي عمر الفرد فيها. ولما قرّرت وضع يدها على المتبقي من العمر، على تطلعاته ومجرّد تفكيره، ولو في حيزه الخاص بينه وبين نفسه بشيء ما أفضل، خرجت الناس لتستردّ على الأقل قدرتها على الأمل والتمني، قدرتها على تصور المستقبل ورسمه. أناس تنازلوا عن حرياتهم وكراماتهم متأملين في انفتاح الغد على ما يعوّضهم أو ذريّتهم، ولما أغلقت بوابات السماء أمام الأمل المتواضع خرج الناس لفتحها. هكذا فُهمت ظاهرة التوريث التي جسّدت بالنسبة للناس “أن ما كان وما هو كائن قدر الفرد العربي ومستقبله”. أُسَر وشِلَل خطفت الدولة على كل ما تعنيه واختزلتها في أناها المتضخم بمؤازرة الأمن والعسس تارة، والنفط تارة أخرى! خرجت الناس الآن لفتح البوابات كي لا يأخذوا منها آخر ما تبقى لها، الأمل.
حُوصر الناس لعقود بين نصّيْن: نصّ السّجون والمعتقلات وإرهاب الدولة، وبين نصّ المنافي والغربة. وهما نصّان كان العرب آخر المبدعين فيهما وأطولهم عهدا وأكثرهم تفننا! إما أن تبدع أدب سجون أو مَنافٍ أو كليهما- عبد الرحمن منيف ومحمد الماغوط مثالا. أي أن قدرة المواطن العربي على كتابة سيرته تمت في السجن فقط أو في المنفى وقلما في الوطن! عندما نظّر ستيوارت ميل للحرية ولحقه دفوركين، فإن أهم ما ركّزا عليه هو اعتبار الإنسان مخلوقا عاقلا وأن منتهى حريته هو امتلاكه الإرادة والقدرة على الاختيار وكتابة سيرته الذاتية بقلمه. وقد افترضا أن منتهى الدولة الحديثة والديمقراطية هي إتاحة مثل هذه الشروط للفرد! أما الثقافة العربية المشار إليها فقد فهمت الأمر على نحو خاص بها فأنتجت كل شروط كتابة السيرة الذاتية على الطريقة العربية، في المنافي والسجون. ويسعى الجيل المنتفض الآن إلى تغيير هذا النسق الثقافي. فانبرى يكتب سيرته الذاتية بلوحة المفاتيح المتاحة عبر الفيسبوك والتويتر وما هو أبعد أو أدنى، في ساحة التحرير وفي تونس وبنغازي وصنعاء واللاذقية ودرعا، وعبر خطاب مبثوث مصوّر لفضائيات ركبت موجة الحدث وطارت فوق الأثير تحاول أن تكونه. خروج مشبوب مسكون بالتوق والرغبة في التحرّر من إرث السجون وأحمال المنافي، من غربة في الوطن ومن غربة بعيدا عنه. خروج شاعري صعب على طريقة المأساة الإغريقية من غربة مزدوجة في المكان وغربة في الزمان، نحو رحاب أمل يصنعونه بأيديهم نصا جديدا حيويا، نزقا شبابيا وأهزوجة لشمعة تضيء وفكرة تتشكّل عالما جديدا وحلما بكل الألوان!
إكسل هونت الواقف خارج وقتنا ذكّرنا بأولئك غير المعترف بهم، بمواطني مصر وسكان العمارات القديمة في دمشق ومزارعي الوديان في اليمن، لم يكن على علم بأن أجيالا عربية تقرأ نبوءته المتصلة بنقد السوسيولوجيا أو الأصح تنبض بما وصفه. وهي التي يسكنها عار التهميش والتغريب والاستخفاف وفقدان الكرامة الشخصية والجمعية. فكانت الثورات في شق منها خروجا من خانة المهمشين غير المرئيين إلى صدر الوقت وباب الكاميرا التي اضطرت إلى فتح كل العدسات والفلاشات لهؤلاء الذين لم يراهم أحد من قبل، ولم يحصهم إلا باعتبارهم عبئا ديموغرافيا أو اقتصاديا، أو مجرّد رعاع أو غوغاء أو لومبورن متسكعين في الوقت الضائع منه ومن الدولة ومن العرب جميعًا.
بينما تظهر الثقافة العربية الحديثة عاجزة عن بناء الدولة القومية التي جاءتها متأخرة، رغم تجاربها، يواصل الزمن الشاب الذي لا يشيخ السير غير آبه بها، نحو الحداثة السائلة، زمن ما بعد القومية، حقبة انحسار مفهوم الدولة وضموره لصالح مفاهيم العولمة. بينما يقف على بُعد منها ومنا يورغن هبرماس، آخر رموز مدرسة فرانكفورت، يرى بعيني روحه اضمحلال النظام الديمقراطي في ظلّ عولمة مندفعة لا تلوي على شيء. فماذا تكون محصلة بناء الدولة الحديثة في زمن الحداثة الفائقة، أم ماذا مع الديمقراطية في هذه الدولة في زمن بهذه السيولة والسرعة؟ كيف تُبنى الهويات من جديد في زمن زهوّ الكيانات الكبرى، وكيف ستتدبّر الهويات العربية أمرها في دول تحت وطأة العولمة؟ وهي سيرورة قد تكون ضاغطة مثلما يُمكن أن تشكّل فرصا وفضاءات مفتوحة على مداها. وهو ما يبدو أن شباب الثورات قد التقطوا بثّه فنجحوا فيما أخفقت فيه المعارضات العربية التقليدية من أحزاب وحركات شكّلت الأييدولوجيا زادها وإسارها في آن. فتنتها الأيديولوجيات فحرفتها عن المجتمع. نُخب دارت في فلك ذاتها نرجسية مزهوة بـ”وعيها” و”إدراكها” لحركة التاريخ متعالية مستعلية إلى أن جاء الجيل الرابع بعد الخيبات المتراكمة ليعلن خروجه على الدولة الضامرة وعلى معارضيها الذين باتوا منذ عقود جزءا من المشهد وتكريسه. جيل المعرفة غير المؤدلجة والوعي بحقوق طبيعية للإنسان الفرد قبل الدولة وبعدها، قبل الأيديولوجيا ورغما عنها. جيل أقام مؤسساته الصغيرة لكن المثابرة مدركا أهمية الإمساك بزمام الأمور وبتلافيف الفكرة المشرقة القادرة، دون عناء كبير أو تكلّف، التواصل مع فئات الشعب وتطلعاتها ومواجعها.
أناس تنازلوا عن حرياتهم وكراماتهم متأملين في انفتاح الغد على ما يعوّضهم أو ذريّتهم، ولما أغلقت بوابات السماء أمام الأمل المتواضع خرج الناس لفتحها. هكذا فُهمت ظاهرة التوريث
لم تكن التحولات الحاصلة الآن مسكونة بالعنف إلا ذاك الذي فرضته الأنظمة كردّ فعل على حضور الفكرة المسائلة والناقدة. فانبرت تكسّر المرايا بدل الاشتغال بوجوهها القبيحة الدميمة وبماضيها القمعي. وثمة علاقة بين فكرة المجتمع المدني وبين استراتيجيات العمل المدنية. استراتيجيات تنزع في العادة فتيل العنف السلطوي جزئيا أو كليا. هذا فيما تصرّ ثقافتنا على أن تكون متميّزة في هذا الباب، أيضا. فلأن “المدني” و”المدنية” والمواطنة والحقوق والتنورّ، كلها سِيَرُ تصيبها بمسّ أو بهستيريا، فإن بعض هذه الأنظمة انقض على ما بدا لها البديل المطلق لذاتها وإرثها وحاضر المجتمعات التي سادتها. فقدت “توازنها” ـ على اعتبار أن القعود على كراس تحميها ألأسنة والمخابرات بدل الشرعية هي كذلك ـ حيال هذا “المدني” الطالع إليها رغم غياب المواطنة وتغييب المجتمع. هي، الأنظمة، سرّها في أجهزتها وأقبيتها السريّة، و”المدني” سرّه في فكرته المشرقة وعلانيته ولا عنفه. عودة بصيغة عربية مصرية تونسية أساسا على تجربة غاندي الهندي الذي أفنى جزءا من طاقاته وكاريزماه في الذود عن الخيار اللاعنفي، ليس بسبب من مكونات مساعدة له في الثقافات الهندية وفلسفاتها، بل من تيقّظ مدرك لأبعاد الخيار العنفي على شعبه وتطلعه إلى بناء نظام ديمقراطي خلفا للاستعمار! أو أن الثوريين العرب الحاليين أدركوا بعمق التجربة المتوارثة عُقم مفهوم الثورة والانقلاب والعنف كوسيلة غير عادلة لتحقيق أماني وتطلعات عادلة مئة بالمئة، كما ألمح غورباتشوف في بدايات البيرسترويكا. وربما أنهم تحرروا من إسار أيديوليجات راديكالية تطرح نفسها خلفا لأنظمة مستبدة كنوع من قلب العملة ذاتها على وجهها الثاني. فأتوا بالبدائل لا بالنقائض، وأتوا بالمعقولية لا بالمطلق.
ومع هذا وذاك ما يحدث الآن لا يُمكن مفهمته بسوسيولوجيا الدولة القومية فقط. فقد لا تكفي عُدّة هذا الحقل العلمي لإدراك ما حصل ووجهته. فأوليخ بيك وزيغموند باومن ومارتن ألبرو يحثون على اقتفاء أثر ماكس فيبر الذي دعا إلى مفهمة جديدة للقضايا الكبرى كلما تقدم الزمن حقبة في إثر حقبة. فقد يكون مفيدا لنا ولمحدثي الثورات أن يروا ما تصنعه أياديهم وألسنتهم ولوحات مفاتيحهم/ن من خلال سيرورة العولمة التي ـ حسب بيك على الأقل ـ تفك الارتباط بين السويولوجي وبين الجغرافي. وهي حسب هبرماس تضعف الدولة القومية ونظامها الديمقراطي الليبرالي لجهة التأثّر بقوى تعمل من خارج الدولة. فلأن رأس المال عالمي والعمل محليّ، لأن المصالح فوق قومية والسياسات محلية، فقد نشأت تحولات كبرى في مفهوم الهويات وفي معاني الأفكار المؤسسة للحداثة. وأمكننا أن نرى إلى شباب الثورات وخطابه نوعا من الاتصال الدافئ بما هو مشرق من سيرورة العولمة، بذاك الخطاب المنتشر عن العدالة والكرامة الإنسانية، بتلك اللغة الكونية المتشكلة في الفضاء الأثيري عن رفض كل أشكال القهر والدكتاتوريات التي تصادر الحريات وتكمّ الأفواه وتمنع مجرّد الكلام. لغة النصوص المتطورة من رحاب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأدبيات المحكمة الجنائية الدولية ونصوص حقوق الإنسان الأوروبية. لغة الإنسان السيد على نفسه وخياراته الوافر المكانة والكرامة. نصوص عابرة للقوميات والمسافات والدول ولغة متحركة على متن فضاءات هي جغرافيا مستقلة لتشكّل الهويات والقِيَم والتطلعات والمواقف خارج النص السلطوي الجامد في ثقافة عربية متقهقرة. نُخب المعرفة المقارنة والتواصل القادرة على اختراق حواجز الدولة وسلطة إنشائها نحو أفق جديد أكثر معقولية وأقلّ وطأة. أجيال جديدة ترفض أن تبقى في الخلف وعلى مرمى خطوة منها فرص تفتحها العولمة وتضعها أمامها على طبق من فضة. سيرورة نجحت حيث فشلت الدولة والمجتمع وثقافتهما. فقد صادرا الأمل كما أشرنا بعنف وإصرار غريبين فأتت العولمة على حركتها التي لا يُمكن صدها لتفتح أبواب الأمل من جديد. وها هي الأجيال الجديدة تستثمر الفرصة وتخرج من هذه الأبواب نحو إعلان ذاتها ولغتها الجديدة بديلا. وهي بهذه النضارة وهذا الألق الفاتن. وهذا بالذات ما يعرّضها لنيران العساكر في ليبيا وسوريا واليمن. الفكرة النيّرة كالسهم لا يُمكن ردّها إذا انطلقت. تفتح الدنيا العربية على كل الاحتمالات وأهمها المعقولية الثانية إذا اعتبرنا أن التحرر من الاستعمار معقولية أولى.
نُخب دارت في فلك ذاتها نرجسية مزهوة بـ”وعيها” و”إدراكها” لحركة التاريخ متعالية مستعلية إلى أن جاء الجيل الرابع بعد الخيبات المتراكمة ليعلن خروجه على الدولة الضامرة وعلى معارضيها
قد ينشأ من هذه التحولات وضع مفارق في التاريخ الحديث يتجسّد في القفز إلى الدولة العربية ما بعد القومية، إلى لجّة العولمة بدون الخوض في إعادة بناء الدولة القومية. ليس لأنه مشروع فشل عربيا، بل لأنه مشروع يأتي متأخرا عن زمانه. سيُحسن الثائرون الجدد صنعا لو فتحوا تجاربهم ـ التي فتحت الدنيا العربية على كل الاحتمالات ـ كالميناء على خيرات المعارف والتجارب الإنسانية الكونية ليكتبوا فصلهم فيها. نقول هذا وإغراء الانكفاء إلى حصن الهويات القاتلة التي يحذرنا منها علي حرب وأمين معلوف ماثل أمامهم وأمامنا. لقد تأخرت الثقافة العربية لأنها طرحت الهوية صنما والجماعة لوحا من الفولاذ. انكفأ المشروع العربي لأنه لم يقرّ لا بالتعددية ولا بالاختلاف. انعطبت القومية العربية لأنها انبنت على الذاكرة الجمعية فقط وراوحت في الحاضر تعيش ماضيا تليدا دون أن تقترح مستقبلا. قومية ولدت مشبوبة وعاشت مجروحة جرحا ثقافيا بالغرب وقبلاته، كما أثرانا جورج طرابيشي فانزلقت إلى إنتاج العطب تلو العطب لتترسب في التجارب كل المواد والأنساق المسمومة التي استخدمت من جديد في عملية بناء هي الهدم بذاته. حلقة مغلقة على ذاتها وأهلها إلى حدود غياب الأمل وانسحاق الكرامات. وثورات تبدأ من هنا!
(نشر من قبل في “الأوان”؛ دالية الكرمل ـ أواخر آذار 2011)