إعادة تقويم لـ “إرث رابين”!/ أنطوان شلحت
. |أنطوان شلحت| الذكرى الـ 16 لاغتيال رئيس الحكومة الإس […]
إعادة تقويم لـ “إرث رابين”!/ أنطوان شلحت
.
|أنطوان شلحت|
الذكرى الـ 16 لاغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إسحق رابين التي جرى إحياؤها في إسرائيل أخيرًا اتسمت بتصعيد هجوم اليمين الاستيطاني المتطرّف على ما يسمى بـ “إرث رابين”، وذلك في ظل استطلاع جديد للرأي العام الإسرائيلي أجرته “جمعية واجب المصالحة” وتبيّن منه أن الذين ما زالوا يتماهون مع هذه الذكرى في صفوف الجمهور اليهودي لا تتجاوز الـ 57 بالمئة، بينما تهبط نسبة الذين يتماهون معها في أوساط المتدينين اليهود إلى 26 بالمئة.
وانعكس الهجوم اليميني السالف، مثلاً، في مقالة كتبها حين بن- إلياهو، وهو محاضر جامعي سابق في “كلية أريئيل” الاستيطانية، ونشرها في الموقع الإلكتروني التابع لإذاعة القناة السابعة الناطقة بلسان المستوطنين، واعتبر فيها أن هذا الإرث يفتقر إلى أي ثراء فكري أو روحي، وفي الوقت ذاته ينطوي على إثـم سياسي خطر للغاية يتمثل في “اتفاق أوسلو” الذي تسبب برأيه بـ “مزيد من سفك دماء اليهود”، ودعا إلى إلغاء مراسم إحياء ذكرى ذلك الاغتيال، وإلى تقديم شمعون بيريس، رئيس الدولة الحالي، باعتباره شريكًا لرابين في اقتراف ذلك الإثـم، إلى المحاكمة بتهمة “إلحاق كارثة قومية بإسرائيل”.
وفي مقالة أخرى في الموقع نفسه دافع البروفسور هيلل فايس، المحاضر في جامعة بار إيلان وأحد أبرز “رموز” المستوطنين، عن الجرائم التي ترتكبها عصابات “جباية الثمن” الإرهابية ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر، مشددّا على أنها توفر الحماية لـ “السيادة الإسرائيلية على يهودا والسامرة” (الضفة الغربية)، وذلك في إثر الهجوم الذي شنّه رئيس الكنيست رؤوفين ريفلين وغيره من ساسة إسرائيل على هذه الجرائم في سياق الجلسة الخاصة التي عقدها الكنيست في مناسبة إحياء الذكرى السنوية الـ 16 لاغتيال رابين.
وفي الواقع فإن بن- إلياهو وفايس يمثلان اليمين الإسرائيلي المتطرّف، والذي دفعت ممارساته الأخيرة معلقة سياسية بارزة في صحيفة “معاريف”، هي ياعيل باز- ميلاميد، إلى أن تطالب المعارضة بالتصدي لسيطرته شبه المطلقة على الحياة السياسية في إسرائيل.
وقد ادعت هذه المعلقة، من ضمن أمور أخرى، أن المستوطنين لا يمثلون أغلبية الشعب في إسرائيل، ومواقفهم لا تعكس إرادته الحقيقية. ونوهت بأنه على الرغم من أن اليمين يحظى بتأييد الأغلبية في استطلاعات الرأي العام، إلا إن هذا التأييد ليس موجهًا إلى اليمين المتطرف الذي يسيطر على حكومة إسرائيل وعلى الكنيست، وإنما إلى ما وصفته بـ “اليمين المعتدل العقلاني والمؤيد لسلطة القانون”، والمتمثل وفق قراءتها في أشخاص مثل دان مريدور وبيني بيغن ورؤوفين ريفلين، الذين قالت إنهم “يتصرفون اليوم كمعارضة فاعلة أكثر بكثير من المعارضة المفترضة”.
وثمة في إسرائيل من يعتقد أن رئيس الحكومة الحالية بنيامين نتنياهو ينتمي إلى هذا “اليمين المعتدل والعقلاني”، وبينهم الكاتب عاموس عوز.
فما هي وجهة نظر نتنياهو إزاء “إرث رابين”؟.
لقد تغيّب نتنياهو عن الجلسة الخاصة للكنيست المذكورة آنفًا بسبب وفاة والد زوجته، وألقى النائب الأول لرئيس الحكومة ووزير الشؤون الإستراتيجية موشيه يعلون كلمة بالنيابة عنه قال فيها إن الشعب في إسرائيل موحّد حيال ضرورة التوصل إلى السلام لكن من دون أن يتنازل عن حقه في الحياة في البلد، وعن حقه في الدفاع عن أمنه وسلامته، فضلاً عن كونه موحّدًا حيال مطلب الحفاظ على القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل إلى الأبد.
ومع ذلك فإن فحوى الكلمة التي كان رئيس الحكومة ألقاها في الجلسة السنوية الخاصة السابقة للكنيست في هذه المناسبة والتي عقدت يوم 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2010 يشي بماهية وجهة نظره تلك.
ففي تلك الكلمة اقتبس نتنياهو فقرات طويلة من آخر خطاب ألقاه رابين في الكنيست يوم 5 تشرين الأول/ أكتوبر 1995، أي قبل شهر واحد من اغتياله، وتحدث في سياقه عن رؤيته بشأن جوهر التسوية مع الفلسطينيين، والتي ليس من المبالغة القول إنها بقيت ترخي بظلالها على التطورات اللاحقة، ومما قاله فيه: “إننا نعتبر أن الحل الدائم (للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني) سيكون في إطار أراضي دولة إسرائيل التي ستشمل أغلبية مناطق أرض إسرائيل – كما كانت عليه الحال أيام الانتداب البريطاني – وسيُقام إلى جانبها كيان فلسطيني سيكون وطنًا لمعظم السكان الفلسطينيين المقيمين في قطاع غزة والضفة الغربية، ونريد أن يكون هذا الكيان أقل من دولة ليصرّف بشكل مستقل حياة الفلسطينيين الذين يخضعون له… وستتجاوز حدود دولة إسرائيل لدى تطبيق الحل الدائم خطوط ما قبل حرب الأيام الستة حيث أننا لن نعود إلى حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967… وسيتم تثبيت الحدود الأمنية للدفاع عن دولة إسرائيل في غور الأردن في أوسع معنى لهذا المفهوم”.
وأضاف رابين: “إن القدس ستكون موحَّدة بصفتها عاصمة إسرائيل وتحت سيادتها لتشمل أيضاً معاليه أدوميم وغفعات زئيف”، مؤكدًا ما يلي: “لقد توصلنا إلى اتفاق، وتعهدنا أمام الكنيست بعدم اقتلاع أي مستوطنة في إطار الاتفاق المرحلي، وبعدم تجميد البناء والنمو الطبيعي… إننا نعي الفرص والمخاطر على حد سواء، وسنعمل قصارى جهدنا لاستنفاد الفرص وتقليص المخاطر”.
لعل الملفت للنظر هنا هو أن نتنياهو استقوى بمواقف رابين بمدى ما تنطوي عليه من إسناد لما أكده لاحقًا في كلمته نفسها فيما يتعلق ضرورة عدم تجميد أعمال البناء في المستوطنات، وضرورة أن تكون الدولة الفلسطينية العتيدة منزوعة السلاح وتعترف بإسرائيل كدولة الشعب اليهودي.
ومما قاله في هذا الشأن على وجه التحديد ما يلي: تقتضي الحاجة أن أبدي هنا والآن ملاحظتين قصيرتين: الأولى بشأن البناء والتجميد (في المستوطنات)، حيث سبق أن قلت إن تجميد أعمال البناء لهو إجراء مؤقت كان بمثابة بادرة حسن نية لم تقدم عليها أي حكومة سابقة، وأعتبر كلام رابين في هذا الخصوص إقرارًا آخر بصحة هذا الأمر، بالإضافةً إلى حقيقة أن البناء في المستوطنات القائمة في “يهودا والسامرة” لا يتناقض مع السعي للسلام والتسوية. أما الملاحظة الثانية فأرجو التعقيب من خلالها على ما قاله رابين لدى تطرقه إلى الكيان الفلسطيني الذي سوف يقوم من أنه “سيكون أقل من دولة”، ولا أعلم تحديدًا مغزى كلامه في حينه إلا إننا نتحدث الآن عن وجود دولة منزوعة السلاح تعترف بدولة الشعب اليهودي، إذ لا نريد أن نحرم الفلسطينيين من حق تقرير المصير ولا نريد التحكم بهم. إن ما نرغب فيه هو أن تكون الدولة اليهودية معترفاً بها ومحمية. وإن إصرارنا على قضية الأمن لا يأتي من باب النزوات أو التبريرات.
ما تقدّم يعني، وفق المنطق البسيط، أن المشكلة ربما ليست كامنة في وجهة نظر نتنياهو ونظرة اليمين العامة إزاء “إرث رابين” فحسب، وإنما أيضًا بل وأساسًا في أن هذه النظرة تتطابق مع المدلول الحقيقي لهذا الإرث، وخصوصًا جراء تشديده على وجوب أن تكون أي تسوية للصراع مستندة إلى تلبية “حاجات إسرائيل الأمنية” بموجب مفهومها المتعلق بهذه الحاجات والذي يعتبر من دون ضفاف. وبالتالي فإن عملية إعادة تقويم هذا الإرث لا تفتري عليه أو تشوهه، ولا تفارق غاية وضعه في سياقه الصحيح.
عند هذا الحد يجدر بنا، على صلة بعملية إعادة التقويم نفسها، أن نذكر ما يلي:
أولاً، بالتزامن مع الذكرى الـ 15 لاغتيال رابين في العام الفائت (2010) كشف الموقع الإلكتروني التابع لصحيفة “يديعوت أحرونوت” مضمون بعض الرسائل التي سبق أن كتبها في إثر توقيع اتفاق أوسلو ردًا على رسائل وجهها إليه مواطنون إسرائيليون والمحفوظة في “أرشيف الدولة”، وشدّد في إحداها على أن أمن إسرائيل يشكل بالنسبة إليه خطًا أحمر في أي اتفاق سلام في المستقبل.
ثانيًا، أشار يوسي بيلين، أحد مهندسي اتفاق أوسلو، في سياق مقالة نشرها في صحيفة “هآرتس” في 6 أيلول/ سبتمبر 2010، إلى أنه في أثناء المفاوضات على ذلك الاتفاق (المرحلي) اقترح على رابين أن تستغل إسرائيل الفرصة السانحة لإطلاق مفاوضات بشأن الحل النهائي، إلا إنه رفض ذلك كليًا، كما أن خليفة هذا الأخير في رئاسة كل من الحكومة الإسرائيلية وحزب العمل شمعون بيريس رفض في ذلك الوقت ورقة مبادئ تتعلق باتفاق السلام النهائي توصل إليها بيلين مع محمود عباس.
ثالثًا، منذ اغتيال رابين في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1995، لا يكف كثير من المعلقين، بما في ذلك في إسرائيل، عن طرح الأسئلة التالية: ما هو المصير الذي كان اتفاق أوسلو سيؤول إليه لو لم يتعرّض للاغتيال؟ وهل كان سينجح في التغلب على المعارضين في الداخل والوفاء بالتزامه في شأن التوصل إلى اتفاق دائم في الألفية السابقة؟ وهل كان سيُغيّر موقفه إزاء تقسيم “القدس الموحدة”، كما غيّر توجهه على نحو مفاجئ فيما يتعلق بالتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية؟. ولا شك في أن الأجوبة عن مثل هذه الأسئلة ستظل معلّقة على أفق مجهول إلى الأبد. لكن على الرغم من ذلك فإن أمرًا واحدًا يبدو أكيدًا، وهو أن عملية الاغتيال جعلت جوهر “إرث رابين” محصورًا، بكيفية ما، في ما تقدّم من عناصر مشدودة أساسًا إلى المفاهيم الأمنية الإسرائيلية التقليدية، على الأقل من وجهة نظر القابضين على زمام القرار في المؤسسة السياسية الإسرائيلية في الوقت الراهن، والذين لم تبدر عنهم حتى الآن أي إشارات تثبت توفّر نية جادة للجنوح نحو طريق التسوية، بينما تتراكم إشارات أخرى إلى أنه من المتوقع ألا تبدر عنهم نية كهذه على الإطلاق.
[نُشر في ملحق "المشهد الإسرائيلي" الصادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار]