مسلمون ومسيحيّون يكسرون الحدود والحواجز في “المخلّص” ونحن نبني جدرانًا!/ مطانس فرح
علينا جميعًا، مسيحيّين ومسلمين، عَلمانيّين ومؤمنين، مشاهدة فيلم “المخلّص”، لهدف التّمتّع والفخر والاعتزاز بما يقدّمه فنّانونا ومبدعونا؛ وأساسًا، لنتعلّم معنى المحبّة وتقبّل الآخر
<
|مطانس فرح|
شاهدت، يوم الجمُعة الأخير، في قاعة “كريچر” في كرملنا الفرنسيّ الحيفاويّ، الّتي غصّت بالمئات، فيلم “المخلّص”، للمُنتج والمخرج الفِلَسطينيّ العالميّ روبرت ساڤو (يوسف قمر). وعلى مدار ساعتين ويزيد، مرّت كرمشة عين، أخذني المخرج والممثّلون و”المخلّص” إلى مكان آخر.. شاهدت عملًا فنّيّـًا فِلَسطينيّـًا عالميّـًا يضاهي أكبر الأعمال الفنّيّة العالميّة وأضخمها، من حيث الإخراج والتّمثيل والتّصوير والموسيقى والملابس والدّيكور؛ يُذهلك -بل يُنسيك أحيانًا- أنّك، أساسًا، أمام عمل عربيّ فِلَسطينيّ ضخم بامتياز.
مع بداية العرض يظهر على الشّاشة الفنّان الحيفاويّ الفِلَسطينيّ القدير يوسف أبو وردة، الّذي يجسّد دور القدّيس لوقا، فيروي لنا قصّة الفيلم حسَب إنجيله (إنجيل لوقا)؛ فيجعلك تتسمّر على كرسيّك مُغرمًا لا مرغمًا؛ مبهورًا لا مُرهبًا؛ ما بين الشكّ واليقين أنّك أمام عمل عربيّ فِلَسطينيّ محلّيّ؛ لكنّ اليقين يغلب الشّك، عندما يتوالى ظهور الممثّلات والممثّلين الفِلَسطينيّين والعرب، واحدًا تلوَ الآخر على الشّاشة الذّهبيّة، لتعلم وتتأكّد أنّك تشاهد فيلمًا فِلَسطينيّـًا ضخمًا، عالميّـًا بامتياز، ولتؤكّد وتثبت للجميع، بكلّ فخر واعتزاز، أنّ شعبنا الفِلَسطينيّ يملك طاقات فنّيّة وإبداعيّة وتِقنيّة وفكريّة مهولة، بمستوًى راقٍ ومُبدع ومميّز، يضاهي وينافس أكبر الأفلام العالميّة.
وجدت في “المخلّص” المسيح الأقرب إلى قلبي ونفسي وفكري، من بين عشرات شخصيّات أجنبيّة جسّدته في السّابق؛ ربّما لأنّه “منّا وفينا”، أقرب إلى بيئتنا ولغتنا وفكرنا ومجتمعنا وصورتنا، أيضًا.. وجدت المسيح شرقيّ الملامح، فِلَسطينيّ الفكر، رمزًا للسّلام والصّدق والمحبّة والعطاء والتّضحية، من خلال قصّة تناولت المعنى الحقيقيّ للمعاناة. لفّ العمل الفنّيّ الطّابع الدّينيّ بفكر ولمسة عربيّة إبداعيّة، تناقش قضيّة أزليّة هي حياة المخلّص، لتطرق الأبواب من أوسعها من خلال لغتنا الأمّ، لغة قريبة غير مُدبلَجة، على غرار جميع الأفلام العالميّة الّتي أُنتجت من قبل.
لقد استطاع مُنتج هذا الفيلم ومُخرجه مدّ الجسور وجسر الهوّة بين المُسلمين والمسيحيّين وغيرهم، ضمن فيلم سينمائيّ فِلَسطينيّ-عربيّ-عالميّ، جمعهم في “المخلّص”، في أضخم عمل في تاريخ السّينما الفِلَسطينيّة؛ بينما نحن من جرّاء تخلّفنا وحقدنا وجهلنا وتقوقعنا وتراجعنا دينيّـًا وأخلاقيّـًا وفكريّـًا وسياسيـًّا، نعمل بخلاف ما جاء في الفيلم؛ فبدل أن نعمل على المحبّة والتّآخي وتقبّل الآخر والتّخلّص من التّطرّف الدّينيّ والطّائفيّ، نبني بين أبناء الشّعب الفِلَسطينيّ الواحد جدرانًا تزيدنا استقطابًا وتطرّفًا وتخلّفًا وجهلًا وغباءً وكراهيَةً وحقدًا، ستؤدّي بنا إلى التّهلكة لا إلى الخلاص.
علينا جميعًا، مسيحيّين ومسلمين، عَلمانيّين ومؤمنين، مشاهدة فيلم “المخلّص”، لهدف التّمتّع والفخر والاعتزاز بما يقدّمه فنّانونا ومبدعونا؛ وأساسًا، لنتعلّم معنى المحبّة وتقبّل الآخر، من منطلق إنسانيّ ومجتمعيّ، لا من منطلق دينيّ فقط، بعيدًا عمّا تفرضه على مجتمعنا، اليوم، طُغمة متطرّفة ومتخلّفة وحاقدة؛ دعونا لنرى الأمور ونحكم عليها بنظرة ثاقبة وواعية وفكريّة مغايرة، كما رآها مُخرج “المخلّص” ومُنتجه؛ برؤية أقرب إلى عاداتنا ومجتمعنا وفكرنا، غير شبيهة بالرّؤية الأوروپيّة أو الأمريكيّة الّتي تناولتها الأفلام السّابقة، ولا بالفكر الأوروبيّ أو الأمريكيّ عن مجتمعنا العربيّ.
وبما أنّ المخرج روبرت ساڤو (يوسف قمر)، من مواليد مدينة القدس وسكّان النّاصرة، نشأ وترعرع في مجتمع يسوده عداء بين شعبين (يهوديّ وعربيّ)، وضع نُصب عينيه أهدافًا عدّة من أجل التّغيير والقضاء على الجهل والتّطرّف والعيش بشكل أفضل؛ ومن لبّ النّضال والصّراع والتّطرّف الّذي عاشه، قرّر أن يكرّس حياته لخلق عالم أفضل، وأن يعمل من أجل تغيير روحانيّ، يأمل -من خلاله- أن يعتبر المجتمع الفرد فيه (الشّخص) إنسانًا قبل كلّ شيء؛ حيث إنّه يصبو إلى مجتمع يعامل كلّ أفراده بعدالة اجتماعيّة ومساواة تامّة، من دون تمييزات عرقيّة أو إثنيّة أو سياسيّة أو طائفيّة أو فكريّة.
وقد استطاع ساڤو -بكلّ جدارة وإبداع وتميّز- تحقيق حلم راوده منذ أزيَدَ من عقد، بإنتاجه وإخراجه -للمرّة الأولى في تاريخ السّينما العالميّة، وبعد مُضيّ أكثر من مِائة عام على سلسلة من الأفلام الأجنبيّة، الأمريكيّة والأوروپيّة- فيلم “المخلّص” باللّغة العربيّة الفصحى، بمشاركة نُخبة من كبار نجوم الفنّ العربيّ، المحلّيّ والعالميّ. وعن ذلك قال ساڤو: “بات لدينا كعرب فيلم بلغتنا عن السّيّد المسيح، وهذا إنجاز كبير بحدّ ذاته”، مؤكّدًا أنّ الممثّلين والفنّانين ساهموا في نجاح هذا الفيلم الضّخم.
وأشار ساڤو أنّه تمّ تصوير مشاهد الفيلم على مدار شهر تقريبًا، في كلّ من الأردن وبلغاريا. وقال: “اخترت بلغاريا لأنّني استطعت بناء الدّيكور المناسب في الأستوديوهات العملاقة الّتي تمّ فيها تصوير أضخم الأفلام العالميّة، مثل: “كونان” و”چلادييتر” وغيرهما. لم أصوّر في فِلَسطين لأنّ ملامح القدس والنّاصرة وبيت لحم لم تعُد على ما كانت عليه زمن المسيح.. وفي بلغاريا قمت باسترجاع القدس كما كانت عليه قديمًا بأسوارها وحاراتها، كما أنّ التّصوير في فِلَسطين كان شبه مستحيل لسبب منع الاحتلال دخول بعض الفنّانين، وخصوصًا العرب منهم، للتّصوير فيها”. وقد تمّ التّحضير لهذا المشروع الفنّيّ الضّخم الّذي يجمع الفنّ والرّوحانيّة في الأراضي المقدّسة، على مدار أزيَدَ من أربع سنوات، في فيلم يرى المسيح برؤية مغايرة عن الرؤية الأوروپيّة!
شارك في فيلم “المخلّص” قُرابة مئة ممثّلة وممثّل؛ من بينهم: شريدي جبارين (أم الفحم) الّذي جسّد دور المسيح؛ حنان حلو (حيفا) الّتي جسّدت دور مريم العذراء؛ عدنان طرابشة (المغار) الّذي جسّد دور التّلميذ/القدّيس بطرس؛ أشرف برهوم (ترشيحا) الّذي جسّد دور يهوذا الإسخريوطيّ؛ محمّد بكري (البعنة) الّذي جسّد دورَي هيرودس البنطيّ والشّيطان؛ يوسف أبو وردة (حيفا) الّذي سجّد دور (الرّاوي) القدّيس لوقا؛ أيمن نحّاس (حيفا) الّذي جسّد دور يوحنّا المعمدان؛ ميلاد مطر (حيفا) الّذي قام – إضافةً إلى مشاركته في التّمثيل – بتشكيل واختيار طاقم الممثّلين المناسب للأدوار المختلفة في الفيلم؛ أسامة مصري (حيفا) الّذي اهتمّ -إضافةً إلى مشاركته في التّمثيل- بالتّرويج إعلاميّـًا للفيلم؛ إلياس عبّود (حيفا)؛ كمال زايد (حيفا)؛ جميل خوري (حيفا)؛ إيهاب حمام (حيفا)؛ نسرين فاعور (كابول)؛ هنري أندراوس (ترشيحا)؛ لطف نويصر (النّاصرة)؛ راضي شحادة (المغار)؛ نسرين سطيلي (عكا)؛ محمود صبح (شفاعمرو)؛ ميساء عبد الهادي (النّاصرة)؛ إيهاب سلامة (الرّامة)، إضافةً إلى مجموعة أخرى من الفنّانين، إلى جانب أكثر من عشرين فنّانة وفنّانًا أردنيًّا، أمثال: زهير النّوباني، عبير عيسى، نادرة عمران، غسّان المشيني، عبد الكريم القواسمة، نبيل الكوني، بدر قبّاني، ناريمان عبد الكريم؛ وغيرهم من الممثّلات والممثّلين العرب والأجانب، من: فِلَسطين، الأردن، لبنان، سورية، مصر، العراق، بلغاريا، وفرنسا. كما شارك في الفيلم مئات التّقنيّين والفنّيّـين والمِهْنيّين، من فِلَسطين والأردن وبلغاريا والعالم العربيّ، إضافةً إلى عشرات الممثّلين “الكومبارس” (بالإيطاليّة: Comparsa – ممثّل “زائد”/إضافيّ، يلعب دورًا ثانويّـًا في عمل فنّيّ، لا تظهر له أهمّيّة ملحوظة، لكنّه غالبًا ما يساهم في خلق مُناخ طبيعيّ للمشاهد عند الحاجة).
يُذكر أنّ فيلم “المخلّص” شارك في مِهرجان السّينما لدول شرق المتوسّط وشِمال إفريقيا “المنار”، في صوفيا (بلغاريا)، وحصد الكثير من ردود الفعل الإيجابيّة المشجّعة ولاقى استحسان جميع مَن حضره. وسيشارك الفيلم، قريبًا، في عدد كبير من المِهرجانات السّينمائيّة الدّوليّة، بعد أن كان قد أقيم له افتتاح مَهيب في العاصمة الأردنيّة عمّان، بمشاركة معظم الفنّانين والفنّيّين المشاركين في الفيلم، وبحضور إعلاميّ مكثّف؛ وهو مستمرّ، طبعًا، في جولاته في قرى البلاد ومدنها. وستتمّ ترجمة الفيلم إلى أكثر من 25 لغة، وسيُعرض في مختلف المحافل الدّوليّة وعلى كبرى الشّاشات الذّهبيّة العالميّة.
لقد أبدع الفنّانون والفنّانات، ونقلوا لنا صورة فنّيّة محلّيّة عالميّة مُشرّفة، بحِرْفيّة عالية جدًّا لفريق عمل مُذهل، كامل متكامل، شمل الإخراج والتّمثيل والتّصوير والموسيقى والملابس والدّيكور، وغيرها من العناصر الّتي ساهمت في نجاح هذا العمل الفنّيّ الضّخم، الّذي يشرّف مجتمعنا الفِلَسطينيّ، وينهض به.
على كلّ واحد منّا ضرورة مشاهدة “المخلّص”، لا من منطلق دينيّ أو عَقَدِيّ (عقائديّ) فقط، بل لمعرفة الآخر، أيضًا، وتقبّله.. وقد آن الأوان أن ينظر كلّ واحد منّا إلى نفسه ويعمل على التخلّص من تخلّفه وجهله وتطرّفه وحقده وضغينته للآخر؛ فيكفينا قيودًا سياسيّة وفكريّة ودينيّة، فعلًا..!
فيلم “المخلّص” عمل فنّيّ مميّز جدير بالمشاهدة، سيترك -بدون أدنى شكّ- بصمة فِلَسطينيّة دامغة في فلك السّينما العالميّة..
شاپّو ساڤو..!