طه محمّد علي.. ختامه مسك/ علي نصوح مواسي
رحل طه محمّد علي مرتاحًا، لأنّه يدرك تمامًا حجم الحبّ الّذي تركته شخصيّته العفويّة الفكاهيّة في نفس كلّ واحدٍ من معارفه، وكم نبيذيّة نصوصه ومرّة مرارة الجرح الفلسطينيّ في آن
طه محمّد علي.. ختامه مسك/ علي نصوح مواسي
|علي نصوح مواسي|
هناك شاعرٌ يشتري شهرته بأن يكون بوقًا لتيّارٍ سياسيٍّ ما، أو أن يكون مرتبطًا بصانع قرارٍ ما، أو أن يكون محتفًى به ومكرّمًا في بلاطِ حاكمٍ ما، أو أن يكون لطيفًا لطفًا مفرطًا مع كلّ الأطراف، لا يغضب رأيه أو يستفزّ أحدًا، أو أن يكون سقف خطابه أخفض بكثيرٍ من سقف أحلام شعبه، يغرق حتّى الأذنين في مفرادت التّعايش والبحث عن حلولٍ جزئيّةٍ عرجاءَ تعبّر عن عجزٍ يختبئ في اللّاشعور.
وهناك شاعرٌ أو مثقّفٌ قد يعمى عن إدراك وهج اللّحظة التّاريخيّة الّتي يعيشها أبناء شعبه أو أمّته، فيجري بعكس رياحهم، ويصرّ على أن يكون ضدّها، مستهترًا بإراداتهم.
وطه محمّد علي لم يكن شيئًا من ذلك، بل النّقيض..
هذا الانسان الجميل الرّقيق عاش ومات بهدوءٍ بعيدًا عن ضوضاء الاعلام والمنابر الشّعاراتيّة الخطابيّة، واختار لنفسه بساطة الكبار العظماء وجدانيًّا، فما بحث عن مجدٍ، ولا لهث خلف تكريمٍ وجائزةٍ، ولا أنهكه السّعي نحو شعبيّةٍ أو عالميّةٍ برّاقة، إنّما هي من حيث لا يدري، سعت إليه..
كان كلّ عالمه بيتُ ذاكرةٍ حجريٍّ في صفّورية المهجّرة، ومحلّ لبيع التّراثيّات والتّذكارات السّياحيّة في سوق النّاصرة، وما بينهما مجالٌ فجّر فيه طاقةً شعريّةً مفعمةً بالانسانيّة والوطنيّة الصّافية.
كتب عن النّكبة وقريته المهجّرة، ومجازر الاحتلال، والمستوطنات، والاستعمار، والحاكم العربيّ، وسلطة النّفط، والشّهداء، والأنثى، والطّفولة، والعمّال والفلّاحين، والحرّيّة، والحبس، والحبّ، والموت وضحاياه، وعن تفاصيل الطّبيعة والجمادات، عن الجوع والفقر والأغنياء، والأب والأمّ، والجنس، والشّعر، والأئمّة والرّهبان، والشّباب والعجائز، والخيانة، والرّذيلة والفضيلة، والله، والآخر..
كتب عن كلّ شيءٍ، عن تفاصيل لا يقتنصها إلا حسّ شاعرٍ مرهفٍ بالأشياء، وبلغةٍ بسيطةٍ شفّافةٍ رقيقة، لا وزن فيها إلّا وزن الشّعور وموسيقى المعاني، ملأى بتعابير التّراث، وبروحٍ ماغوطيّةٍ حاضرةٍ بقوّة، ولكن بمحلّيّةٍ مكثّفةٍ أكسبته خصوصيّةً مميّزة؛ فمن غيره أمكنه الكتابة عن “حَبِلْ صَبْحَة”؟!
رحل طه محمّد علي مرتاحًا، لأنّه يدرك تمامًا حجم الحبّ الّذي تركته شخصيّته العفويّة الفكاهيّة في نفس كلّ واحدٍ من معارفه، وكم نبيذيّة نصوصه ومرّة مرارة الجرح الفلسطينيّ في آن..
رحل طه محمّد علي تاركًا فيّ الكثير من المعاني، وأعمالًا كاملةً كانت آخر كتابٍ اشتريته بلهفةٍ كبيرةٍ، بطبعةٍ جميلةٍ جذّابةٍ صادرةٍ عن دار راية للنّشر في حيفا هذا العام.
رحل وأبى إلّا أن تكون خاتمته مسكًا كماه، إذ لم يعمى عن إدراك وهج اللّحظة التّاريخيّة الّتي تعيشها شعوب العرب اليوم، فتجد اسمه محفورًا في “قائمة الشّرف السّوريّة” الّتي تتضمّن أسماء داعمي الثّورة، هو ورفيقه، أديبنا الكبير، حنّا أبو حنّا، أمدّ الله بعمره.
كتب الزّميل علاء حليحل مرّةً عن حقارة الصّحافة والصّحافيين متى أعدّوا خبرًا حول وفاة أحدهم قبل تأكيد الخبر، وكانت المقالة يومها عن شاعرنا، وأنا اليوم أدرك كم يبلغ الكاتب من الحقارة عندما يكتب عن شخصٍ يحبّه، فقط عند موته!