يا غاليين عليا يا أهل اسكندرية: لقاء كمال الطويل ومحمد قنديل/ ياسر علوي
الكوبليه الأول في مقام النهاوند أيضا، مع عربة قصيرة في مقام الحجاز كار كرد، وكأن كمال الطويل يعلن من البداية أنه يفهم أن الإسكندرية ليست وكالة من غير بواب، وإنما لها صاحب اسمه “سيد درويش” يجب تحيته عبر المرور على الحجاز كار كرد.
| ياسر علوي |
-1-
في الفن والغناء والثقافة المصرية مكان فريد لمدينة الإسكندرية. ذلك أن الإسكندرية في خيال مبدعي مصر المحروسة ليست فقط مدينة جميلة، وإنما هي بالأساس وقبل كل شيء آخر، فكرة، واستعارة أدبية وتاريخية وسياسية.
فهناك من يتكلم عن الإسكندرية، باعتبارها الأعجوبة، البوتقة الثقافية التي صهرت حضارات العالم شرقا وغربا بشكل منفتح ومتسامح. تجد هذا مثلا في أدب الروائيين السكندريين أو المغرمين بالإسكندرية (من إبراهيم عبد المجيد وإدوارد الخراط وحتى أسامة أنور عكاشة، الذي اعتبرها “السؤال والجواب، ومفتاح اللغز” بحسب المقدمة الشهيرة لمسلسله الجميل “زيزينيا”). يمكن أيضا أن تكون الإسكندرية هي المنفى (كما في رواية السمان والخريف لنجيب محفوظ مثلا)، أو الشاهد على تلاطم عالم يولي وآخر يبزغ (ميرامار).. لكنها في كل الأحوال، ليست مجرد مدينة.
نفس الكلام، يمكن أن يقال عن الإرث الغنائي المميز للإسكندرية، المتمثل ليس فقط في الأغاني المحلية للمبدعين السكندريين، وإنما أيضا من خلال الأغاني البديعة التي وضعت عن الإسكندرية. وسنستمع اليوم لواحدة من أروع هذه الأغاني، من كلمات محمد علي أحمد، ألحان كمال الطويل والأداء لمحمد قنديل، مقام نهاوند.
كمال الطويل ملحنا شعبيا
-2-
ليست مشكلة ابتذال “الغناء الشعبي” بجعله مرادفا لكل غناء سوقي، هي فقط فيما يضمره هذا الفهم السطحي من تعال واحتقار للذوق الشعبي، بجعله مرادفا للابتذال وفقر الخيال، وإنما فيما يؤدي له أيضا من تعمية على كنز موسيقي عظيم من الإبداع الشعبي الأصيل. فالغناء الشعبي باب موسيقي ثري يضم ثلاثة ألوان أساسية:
أ- الغناء الفلكلوري، مجهول المؤلف و/أو الملحن، الذي تنتجه بيئات محلية مختلفة في أعمالها وأفراحها ومآتمها.
ب- الأغاني المحلية التي وضعها فنانون اشتهروا في بيئاتهم المحلية، ولكن لم يتح لأكثرهم الوصول للجمهور القاهري، ومنه إلى سائر أنحاء مصر والوطن العربي.
ج- الأغاني القاهرية المستوحاة من الفلكلور التي تستلهمه وتعيد تقديمه للجمهور الواسع.
إلى هذا اللون الأخير تنتمي أغنيتنا اليوم التي تعد واحدة من ألحان قليلة جدا، وضعها كمال الطويل في هذا القالب.
والحقيقة أن كمال الطويل بدا غير مؤهل لإنتاج أغان شعبية أو حتى شرقية، بالنظر لخلفيته الاجتماعية والطبقية من ناحية، ولعجزه من ناحية أخرى عن العزف على أي آلة شرقية، فقد كان يضع ألحانه بواسطة البيانو، أو بواسطة فمه، أي عبر غناء هذه الألحان والنقر على أي سطح خشبي لمصاحبة هذا الغناء (باب، منضدة…إلخ)، ثم تدوين أفكاره مباشرة على النوتة الموسيقية.
-3-
لهذه الأسباب، بدا كمال الطويل غير مؤهل– نظريا على الأقل- لإنتاج فن شعبي ذي قيمة. أما عمليا، فإن لحنيه لمحمد قنديل “بين شطين وميه” و”يا رايحين الغورية”، ولحنه الوحيد المبهر لعبد المطلب “الناس المغرمين” يظهران بجلاء قدراته العظيمة في مجال التلحين الشعبي، والتي عاودت الظهور في أعماله الاستعراضية التي كاد أن يقتصر نشاطه الفني عليها منذ نهاية الستينيات (مثال: ألحانه في أفلام خللي بالك من زوزو، ومولد يا دنيا، وشفيقة ومتولي).
-4-
والحقيقة، أن كمال الطويل هو ثاني اثنين حملا عبء مواصلة رسالة التجريب والتجديد الفني التي بدأها ثالوث المجددين الكبار في موسيقى القرن العشرين (سيد درويش/محمد عبد الوهاب/ومحمد القصبجي). الملحن الآخر هو العبقري العظيم محمد فوزي، الذي سأعود له في مقال قادم.
نرى هذا الميل التجريبي، في مرور كمال الطويل على مختلف أشكال وقوالب الموسيقى العربية، فلديه تجربة قصيرة، ولكنها رائعة في تلحين الموشحات. ولديه تجربة مذهلة في تلحين القصيدة بمضمون شديد الحداثة، افتتحها بعمله الرائع “لا تلمني”، الذي يمقل تجربة رائدة في تلحين القصائد بإيقاعات رشيقة وموسيقى سريعة.
كما أن لدى كمال الطويل أيضا تجارب شديدة الطرافة في التعامل ضمن التقاليد اللحنية التي وضعها ملحنون آخرون، والتجريب في إطارها ووضع بصمته الفنية عليها.
هكذا، نجد كمال الطويل مثلا “يتسنبط”– نسبة للسنباطي العظيم- ويلحن لأم كلثوم قصيدة “لغيرك ما مددت يدا”، ثم “يتشرف”– نسبة للعبقري محمود الشريف- وهو يلحن لعبد المطلب “الناس المغرمين”. وفي كل هذه الأعمال، لا يكتفي كمال الطويل بإشباع رغبته في التجريب في ألوان مختلفة، وإنما يظهر أيضا سعة وعمق اطلاعه على التقاليد اللحنية المختلفة، وقدرته على وضع بصمته الخاصة على كل منها.
وبخلاف هذه الأعمال “التجريبية”، يندرج القسم الأكبر من أعمال كمال الطويل تحت ثلاثة عناوين أساسية، هي:
أ- الأغاني الرومانسية القصيرة والحديثة، التي ظهرت منذ الخمسينيات، وندين بالفضل فيها أساسا لثنائي العباقرة كمال الطويل، ومحمد الموجي. ولكمال الطويل هنا إنتاج ضخم غنى عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة أكثر من ثلثيه.
ب- الأغاني الوطنية، التي يعتبر كمال الطويل في رأيي أهم من لحنها في القرن العشرين، وله في هذا المجال سجل ضخم يتمثل ليس فقط في أغانيه مع صلاح جاهين التي غناها عبد الحليم حافظ، وأغنياته الوطنية التي أدتها سعاد حسني أو عفاف راضي أو الكورال، وإنما أيضا في نشيده الرائع “والله زمان يا سلاحي” الذي غنته أم كلثوم، والذي ينفرد في التراث الغنائي العربي بكونه اللحن الوحيد الذي اعتمد نشيدا وطنيا في أكثر من بلد عربي (فقد بقي نشيدا وطنيا في مصر حتى نهاية السبعينيات، وفي العراق حتى مطلع الثمانينيات).
ج- الأغاني السينمائية، التي مثلت منذ نهاية الستينيات (حينما توقف تقريبا تعاونه الفني مع عبد الحليم حافظ)، المتنفس الأساسي لإبداع كمال الطويل، وتراوحت بين الألحان الشعبية القحة (مثال: أغاني فيلم شفيقة ومتولي) والألحان التجريبية (من أول التجريب بألحان شبه أوبرالية مع ماجدة الرومي في فيلم “عودة الابن الضال”، إلى أجواء موسيقى الفلامنكو في فيلم “المصير”).
بين شطين وميه: البشر لا الحجر
-5-
بين شطين وميه هي إحدى أغنيتين فقط تعاون فيهما كمال الطويل مع محمد قنديل (الثانية هي رايحين الغورية). والأغرب أنهما من إنتاج سنة 1948، أي بعد عامين فقط من احتراف كمال الطويل التلحين، وقبل لقائه فنيا مع عبد الحليم حافظ. ولست متأكدا من سبب انقطاع التعاون الفني بين الطويل وقنديل، رغم تصريح الطويل أكثر من مرة أن محمد قنديل هو في رأيه أجمل صوت رجالي في القرن العشرين (وهو بالمناسبة رأي سبق وأن قالته أم كلثوم، وكرره محمد عبد الوهاب قبل أن يتبناه كمال الطويل بلا تحفظ).
-6-
واللافت في كلمات الأغنية أولا هو أن الغزل الذي تحويه لا يركز على الإسكندرية “كفكرة” أو حتى “كمدينة”، وإنما تتغزل في فقط أهل المدينة!!
نحن إذن أمام أغنية شعبية بالمعنى الحرفي للكلمة، مربط اهتمامها هو الساكنين بين “الشاطئين” (أبي قير شرقا والأنفوشي غربا، الحدود التقليدية للمدينة) والماء. فالبشر لا الحجر ولا حتى “الفكرة السكندرية” هم موضع عشق هذه الأغنية.
-7-
القضية الثانية، هي أن الأغنية، بعكس أغلب الأغاني التي تغزلت في المدينة، تقال بوضوح على لسان شخص قاهري، أو على الأقل شخص غير سكندري!!
فالكلمات، المصاغة في قالب الطقطوقة (مذهب و4 كوبليهات)، تتحدث عن أهل الإسكندرية بضمير الغائب طوال الكوبليهات الثلاثة الأولى.
فالمذهب يحكي بشكل عام عن حالة العشق لأهل إسكندرية، وكأنه يستحي أن يحدد محبوبا بعينه! ثم ننتقل تدريجيا من العام إلى الخاص في الكوبليهات. فنسمع في الكوبليه الأول عن مواصفات المحبوب التي يرددها الناس، ثم يفصح الكوبليه الثاني عن معاناة العاشق من خصام محبوبه، وننتقل في الثالث إلى قرار العاشق بأن يتحول من الشكوى للفعل، بالبحث عن المحبوب وزيارته.
أما في الكوبليه الرابع، فيلفت النظر أن الحديث ينتقل لمخاطبة المحبوب بضمير المخاطب، متعهدا بأن “يشيله في عينيه”، في تورية طريفة يفهم منها المستمع اللبيب أن المراد قد تم، وأن قصة الحب وصلت إلى النهاية السعيدة التي تستوجب مثل هذا التعهد!!
-6-
هذا من حيث المضمون، أما الشكل، فالمذهب عبارة عن مربع كل شطوره متطابقة القافية (ميه/عينيا/عليا/إسكندرية). أما الكوبليهات فمصاغة كلها في صورة مربعات، تتطابق قوافي الشطور الثلاثة الأولى في كل مربع، ثم يعود الشطر الرابع بنا إلى قافية المذهب.
هكذا نجد في الكوبليه الأول مثلا 3 شطور بقافية موحدة (قالو لي/ ووصفولي/لولي) ثم نعود إلى “التيه واخده غيه” بنفس قافية المذهب. وتتكرر اللعبة في الكوبليهات الثاني (ظالمني/مقاسمني/مخاصمني ثم “بيا” على وزن “إسكندرية”)، والثالث والرابع.
-7-
أما اللحن، فحدث ولا حرج. مقدمة موسيقية شجية في مقام النهاوند تؤديها الكمانجات والقانون بشكل يكرس الطابع الشعبي للحن من أول لحظة، ثم يؤدي قنديل المذهب بمنتهى السلطنة، ينوع ويرتجل عربا في كل جملة، ولا يكرر حرفا مرتين.
يلي ذلك إعادة للمذهب بكورال نسائي، لكننا لا نستمع في الإعادة لكل ما فعله قنديل في المذهب (فلا يوجد بصراحة أي كورال في الدنيا يستطيع أن يكرر ما فعله محمد قنديل)، وإنما يؤدي الكورال ما يمكن اعتباره “ملخص المذهب”، أي المذهب خاليا من الإعادات والعرب الرهيبة التي حيانا بها قنديل في مستهل غنائه. هذا “الملخص” هو الذي سيتكرر بين الكوبليهات.
-8-
الكوبليه الأول في مقام النهاوند أيضا، مع عربة قصيرة في مقام الحجاز كار كرد، وكأن كمال الطويل يعلن من البداية أنه يفهم أن الإسكندرية ليست وكالة من غير بواب، وإنما لها صاحب اسمه “سيد درويش” يجب تحيته عبر المرور على الحجاز كار كرد (المقام الذي لحن منه سيد درويش أشهر أدواره “دور أنا هويت” وأشهر طقاطيقه “أهو ده اللي صار”). أما الكوبليه الثاني فيبدأ في مقام البياتي قبل أن يعود سالما للنهاوند، ومن ثم إلى المذهب.
وفي الكوبليهين الثالث والرابع، يستعرض كمال الطويل ثراء خياله الموسيقي وقدرته التعبيرية بشكل شديد الطرافة. فكما رأينا عند استعراض الكلمات، ما يميز الكوبليهين الأخيرين هو أنهما يمثلان تحولا من وصف المحبوب والشكوى من خصامه إلى فعل محدد، هو البحث عنه ومن ثم زيارته.
لهذا، فقد اختار كمال الطويل أن يلحن الكوبليهين من مقام واحد، هو مقام العجم (بشكل يتناسب مع وحدة مضمونهما)، ولكنه استخدم في الكوبليهين، نوعين أو صيغتين مختلفتين من مقام العجم، وفي هذا مؤشر على خيال واستيعاب عميق من كمال الطويل للكلام الذي يلحنه. لماذا؟
لأن التنوع بين لحني الكوبليهين الثالث والرابع، في إطار وحدة مقام العجم، هو المعادل اللحني، للتنوع في صيغة الخطاب (من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم) في إطار وحدة مضمون الكوبليهين الثالث والرابع!!
هذا شغل ملحن يفكر بعقله، ولا يلحن فقط بوجدانه كيفما اتفق، وهذه بالتحديد هي الوصفة المطبقة في جميع ألحان كمال الطويل.
-8-
أما صوت قنديل، فماذا يمكن أن أقول عنه أكثر مما قاله أم كلثوم وعبد الوهاب وكمال الطويل؟
أنت لا تشعر بقوة وجمال وتمكن محمد قنديل مما يؤدي إلا عندما ترى مثلا الجهد المضني الذي يبذله كل من يؤدون أغانيه (شاهد مثلا تسجيل نفس هذه الأغنية بصوت المطرب المغربي الموهوب فؤاد زبادي، لتكتشف حجم الجهد المضني الذي يبذله مطرب قوي الصوت والبنية لأداء جمل خرجت من محمد قنديل وكأنه يغني وهو نائم!!).
-9-
في أواخر الستينيات، صرح فريد الأطرش بأن محمد قنديل هو أقوى حنجرة عرفتها مصر بالقرن العشرين. وبعد خمسين عاما، نكتشف دقة هذا الرأي، عندما نعرف أن قنديل استمر يغني لمدة 61 عاما كاملة (من أول أغانيه “يا ميت لطافة يا تمر حنة” سنة 1942 من كلمات أحمد فؤاد شومان، وألحان علي فراج، وحتى آخر أغانيه سنة 2003، وهي تتر مسلسل “الأصدقاء” من كلمات سيد حجاب وألحان ياسر عبد الرحمن)، وأمضى من بينها 57 سنة يغني غناء حيا على المسرح (فآخر حفلاته الحية، كانت “الليلة المحمدية” سنة 1999)، وذلك بدون أن تتغير نبرة أو عمق أو مساحة صوته تغيرا كبيرا مع تقدم العمر (بعكس حالة محمد عبد الوهاب مثلا).
لكن الإنصاف يقتضي أيضا أن نقول إن محمد قنديل هو أبرز نموذج لما يمكن أن نسميه “مطرب صوته أكبر من عقله”، بمعنى أن قدراته الصوتية أكبر كثيرا من مهارته في الاختيار والتسويق لألحانه. وهي ظاهرة تكررت كثيرا بعد ذلك في الغناء العربي، بدءا من وديع الصافي، الذي أخطأ خطأ فادحا في ظني بالإصرار على أن يلحن لنفسه، فتراجع مستوى أغانيه تراجعا خرافيا يتضح من مقارنة ألحان فيلمون، وهبي ومحمد عبد الوهاب، وبليغ حمدي له بألحانه المتواضعة لنفسه، ووصولا لمحمد الحلو، أهم صوت مصري في الربع الأخير من القرن العشرين، والذي لا يوجد مجال للمقارنة بين الألحان التي “اختير لها” من قبل مؤلفين و/أو ملحنين (مثال: تترات مسلسلات زيزينيا أو ليالي الحلمية)، وتلك التي اختارها لنفسه (“عراف” أو “يا بوي يا مصر”!!).
-10-
لذا، فإني أعتقد أننا لم نسمع من حنجرة محمد قنديل الذهبية كل ما كان بوسعها.. لكن، لحسن الحظ، فإن ما تركه لنا، ولو لم يمثل في نظري كل ما كان ممكنا أن نسمعه منه قياسا لقدراته الفريدة، يظل تراثا من أروع ما لدينا من غناء في القرن العشرين.
لهذا لن أختم المقال، قبل أن أترككم مع العمل الآخر لنفس الثلاثي الذي أنتج “بين شطين وميه”، وهو اللحن الرائع “يا رايحين الغورية”، مقام العجم.
استمتعوا وتسلطنوا!