“ريترو” بلا نوستالجيا/ علاء حليحل
الحريّة في النصوص المنجزة ملموسة يمكن للإنسان أن يشمها ويتذوقها، وهذا بتقديري خيار جميل جدًّا لدى فرحات، في انتهاج هذا النوع من الكتابة، والتحرّر من قيود السّرد “المتين” الموجود في الرواية والقصّة عادة، لأنّه يكتب عن تاريخ لا يودّ له أن يكون تاريخًا
“ريترو” بلا نوستالجيا/ علاء حليحل
.
{ألقيت هذه المداخلة في حفل توقيع كتاب “ريترو” لفرحات فرحات، في نادي حيفا الثّقافيّ، يوم الخميس 22/11/2012.}
|علاء حليحل|
“في البداية أودّ أن أثني على الجمالية في الإخراج الفني (دار راية للنشر)، والمرافقة للجمالية الأدبية، وبرأيي هذا أمر مطلوب دائمًا، بحيث أنّ الجمالية الفنية والإخراجية للكتاب جزء من المشروع الجمالي العام.
“ريترو هو عنوان مخادع، لأنّ ريترو لِمَن يتتبّع الأخبار الفنيّة والثقافيّة والأزياء والموضة كلمة ارتبطت بعصرنا الحديث، بمن أو بما يحاول أن يرجع إلى موضات قديمة، كالعودة إلى أزياء ريترو وتسريحات ريترو. ونجاح فرحات يكمن في أخذ هذه الكلمة وتحويلها إلى حالة ذهنيّة إنسانيّة، يستحضر فيها الجميل وغير الجميل من تاريخه، مناقضًا مفهوم “الموضة” الكامن في الكلمة. إنّ عنوان الكتاب خيار جميل ومفاجئ، لأنّ مَن يقرأ العنوان ومن يَعي استخدامات الكلمة حداثيًّا، سيُفاجأ للإيجاب.
“سأبدأ بتعريف الكتاب على أنه “محطّات مبعثرة”: أنا أعتقد أنّ الاختيار دقيق جدًّا، خاصّة وأنّ فرحات يُنجز كتابًا ليس بالرواية وليس بالمجموعة القصصيّة، من الناحية البنيوية بالأساس، وأعتقد أنّ هذا منحه حرّيّة كبيرة في الكتابة بدون قيود وبدون ضابط زمنيّ خطيّ. فهو ينتقل بين الأزمان بحرّيّة وبدون ضابط مكانيّ أيضًا، والشخصيّة المركزيّة التي تتحدّث في الكتاب، “الراوي”، تأخذ كامل الحرّيّة ومطلقها في التحدّث عن أيّ شيء، بلا حاجة لرابط أو مبرر يأتي قبل أو بعد اللحظة المعطاة. لكن هناك روابط طبعًا، ولكن ليس بالحدّة أو بالمطلب الصارم الذي يتطلّبه عمل روائيّ أو مجموعة قصصيّة لها عمود فقريّ تستند إليه.
“الحريّة في النصوص المنجزة ملموسة يمكن للإنسان أن يشمها ويتذوقها، وهذا بتقديري خيار جميل جدًّا لدى فرحات، في انتهاج هذا النوع من الكتابة، والتحرّر من قيود السّرد “المتين” الموجود في الرواية والقصّة عادة، لأنّه يكتب عن تاريخ لا يودّ له أن يكون تاريخًا، وهذه ليست كتابة تاريخيّة، وهي بعيدة جدًّا عن كتابة الحنين (نوستالجيا) التي نعرفها ونخبرها في السِّيَر الذاتيّة في فلسطين، وفي العالم العربيّ أيضًا.
“يتعامل فرحات مع المحطات التي كَتب عنها بخفّة دم وسخرية ذاتيّة، وبكثير من الكلبيّة، Cynicism. أعتقد أنّ هذا النمط وهذه الروح الطاغية على الكتاب منحاه الكثير من الجاذبيّة والدفء والقرب من القارئ، وهذه نتيجة يتمنّاها أيّ كاتب بتقديري وبأيّ طريقة يكتب بها.
“الزمن في الكتاب ليس زمنًا مشتهى أو مقدّسًا كما اعتدنا. أنتم تعلمون أنّ الأبطال يكتبون سِيَرًا ذاتيّة، وكأنّ زمانهم كان أفضل الأزمان ويجب العودة إليه وليس لغيره، وحتى إنّ غير الأبطال مَن يكتبون ذكرياتهم، يحاولون أن يُسبغوا هذه الفترة بمثاليّات وكلمات كبيرة وبمحطات مزعزِعة، تودّ أن تُعلّم البشريّة دروسًا. أنا أعتقد أنّ اختيار فرحات كان الاشتغال “ميجوري” بدل الاشتغال “ماينوري”، بمعنى: أن يتحدّث عن الأمور الكبيرة التي يمكن أن تُستشفّ من النصّ الدفين هنا، بالكتابة عن المواضيع الصغيرة والمشاعر الشخصيّة وعن المواقف الإنسانيّة الحزينة. هذه النزعة التي ميّزت كتاب “ريترو” هي سرّ نجاحه، وأنا أعتقد أنّ أيّ افتعال كان يمكن أن يقع به فرحات، كافتعال الدراما أو افتعال الأهمّيّة في الكتابة والصياغة، كان سيوقعه في مطبّ كبير. بالعكس؛ فالدراما والأهمّيّة في الفترة التي يتحدّث عنها فرحات والفترات الكثيرة المشحونة في الكتاب، تكتسب أهمّيّتها من منطلق بسيط جدًّا، وهي أهمّية الإنسان والفرد في نقاط ضعفه وقوّته، وفي نقاط الحيرة والخجل والدفء وفي نقاط الحميمية والحزن والفرح. فهذه كلّها تبني الإنسان، وهذا ما يبنيه الكتاب، وأعتقد أنّ هذا هو نجاحه البارز.
“هناك بُعدٌ آخر في الكتاب استمتعت به، حيث أنني دائمًا فضوليّ لدرجة كبيرة لقراءة نثر لشاعر أو شعر لناثر. فالانتقال بين اللغتين -وأنا أسمّيهما لغتين مع أنّه يكتب باللغة العربيّة ولكن لغة الشعر في مفاهيمها وتوجّهاتها تختلف عن لغة النثر- الانتقال والرقص في هذيْن العُرسيْن يمكن أن يكون رقصًا جميلاً جدًّا، ويمكن أن يكون شيئًا غير جميل في أقلّ ما يُقال، ولكن ما يجعل كتاب ريترو جميلاً وجذّابًا، هو الحالة الشعريّة التي تطغى في أماكن معيّنة، ولا أتحدّث عن مقاطع الشعر في الكتاب، بل أتحدّث عن النثر، ولكن بمزاج شعريّ وبلغة حميميّة. البلاغة المبطّنة تنعكس في الكتاب، والكتاب خالٍ من الإطناب وهذا نادر في مشهدنا الأدبيّ، وعلى هذا نُحيي فرحات، إذ إنّ الكتاب خالٍ من الحشو والمبالغة في النصوص، وليست هناك نصوص طويلة أكثر من اللازم، وكل كلمة محسوبة لديه، ويبدو أحيانًا أنّ فرحات كان خجولاً في الكتابة، وكانت تتبدى رغبته في الاقتصاد والإيجاز، وبالتالي إنشاء البلاغة التي تهمّه كشاعر، فالشاعر يبحث عن البلاغة بطرق عديدة، ولكن أوّلها ومن أهمّ أدواتها طبعًا الإيجاز والتكثيف. هناك حالة تكثيف بارزة في نصوص “ريترو” أنا أعجبت بها جدًا، ولمست الشاعر الموجود في داخل النصوص النثريّة. وأقتبس من ص 101 تحت عنوان “هذاك المرض”:
“قبل ثلاثة أعوام بالضبط وجدت نفسي أشارك القراء عبر بعض المواقع بما أصابني، وأنا ما زلت على مفترق طرق، لا أدري ما هي وجهتي وإلى أين يُوجّهني شرطيّ المرور القابع في السماء. لا أريد أن أشغل بالكم… وأخيرًا أصبت بسرطان المعدة. قلت لأمّي مع بداية هذا الصيف: أشعر أنّ هذه الآلام التي تنتابني ليست عاديّة، ولا أدري لماذا، لكنّي أعتقد أنّ جسمًا خبيثًا قد استوطن بي”.
“هذه رهافة شاعر حين يعلن للناس أنّه مصاب بالسرطان. ليست هناك ذرّة من الدراما وليس هناك نوع من البكاء والحزن والكمد الذي حلّ على جسده المصاب بالسرطان، وأعتقد أنّ هذا ينضمّ إلى نوع من الفكاهة الخجولة. هناك فكاهة سوداء خجولة بين السطور، وهي تنضوي كلّها في الكتابة الرشيقة الخفيفة البسيطة، وهذا هو السهل الممتنع أو سمّوهُ ما شئتم، ولكنّه أيضًا يحتاج إلى مراس ومهارات.
“ألخّص أنّ كتاب ريترو مليء بالدراما ولكن بلا دراماتيكيّة، وهناك سرد ولكن بلا التزام بتاريخ مرتّب، وهناك سيرة ذاتيّة بلا محطّات ترغب أن تكون كبيرة. فالنصّ خفيف ورشيق، وكلمة محطّات التي عَنوَنَ بها الكتاب هي كلمة عبثيّة بالنهاية، كأنّ الزمن قابل للتصنيف وللقولبة. لكنّه ليس كذلك. فهذا وهْمٌ نحن صنعناه، إذ نُقسّم حيواتنا إلى مراحل ومحطّات وتواريخ، لكن الزمن لا يعترف بهذا الانقسام، فالزمن شيء مستمرّ لا يتوقّف عند محطة يبدأ بها أو ينتهي. توجد نصوص جميلة نعتقد أنّها محطّات. وأعتقد أنّ إحدى هذه المحطّات الجميلة هي كتاب “ريترو”.”