النقر على جدار الرحم: السؤال الأول/ رجاء غانم
حول العرض الراقص”الطريق العمودي” لفرقة أكرم خان في قصر رام الله الثقافي ■ “هذا العرض وضعنا أمام حقيقتنا الإنسانية الأبسط والأكثر تعقيداً في آن واحد: ما السبب الذي أتينا جميعاً من اجله إلى هذه الحياة؟’
النقر على جدار الرحم: السؤال الأول/ رجاء غانم
|رجاء غانم|
كان موعداً غير متوقع بالتأكيد حضور العرض الراقص “الطريق العمودي” لفرقة أكرم خان في اختتام مهرجان رام الله للرقص المعاصر. أقول غير متوقع هنا لأنه بالفعل كان عرضاً يفوق كل التوقعات وربما يتفوق على الكثير ممّا رأيته من عروض رقص حديث حاولت تلمس شكل جديد من أشكال هذا الفن الرائع.
الفكرة هنا قادمة من البنغال ومن أكرم خان هذا الفتى الأسمر الذي صعد إلى خشبة المسرح وزينت ابتسامته المتواضعة أرواحنا التي لعبت بها رياح العرض كما يجب وكما يليق بفنٍ من العيار الثقيل.
العرض عبارة عن أسئلة تتناوب الواحد تلو الآخر وليس بالضرورة الحصول على إجابات مقنعة أو على الأقل مطمئنة حتى نكمل لعبة الدوران في متاهة الأسئلة، وكأننا محكومون بهذه اللعبة منذ أتينا إلى هذا العالم ومنذ أن لامست يدنا جدار الرحم للمرة الأولى، فكان السؤال الأول للإنسان: ماذا يوجد هناك في الوراء؟
لا تقف الأسئلة في هذا العرض عند بداهة السؤال الأول بل تمتد وتتشعب وتعلو وتهبط أسئلة تشكل جوهر وجود الإنسان وكينونة حضوره في عالم يجهل أحياناً لماذا وصل إليه.
نلمس هذا من مشهد البداية. الجدار الشفاف الضخم الذي يملأ المسرح ويد صغيرة تحاول تلمسه أو نزعه أو فكّه أو محاورته بأيّ شكل من الأشكال ولكنها تفشل في النهاية في اختراقه؛ فالحاجز حاجز بين المعرفة والجهل بين الوصول والضياع، بين الحياة والموت، بين ثنائيات كثيرة يظلّ كل منا بطبيعته البشرية يركض لاهثاً بينها محاولاً وصل هذا الخيط الذي قد يفسر جزءاً من الحقيقة.
في رحلة الاكتشاف والسّفر داخل حياة الإنسان يظهر الجّسد على المسرح؛ يظهر بحضوره الفيزيائي، بحركات متقنة وتقنيات رقص محترفة ولكنها مصبوغة بروحانية عالية وكأن الإنسان في رحلة تفتيشه عن ملامحه ووجوده تعثر بهذا الجسد الكتاب ففتحه واطّلع على ما فيه وتعجب كيف يطيعه هذا الجسد ويحمله كالغيمة فوق المستحيل. اكتشاف الجّسد الحيّ الملموس المُسَيْطَر عليه بمعنى ما لم يخفف من حريق الأسئلة الأخرى لكنه كان نافذة لرؤية جسد آخر وحب آخر ومعرفة أخرى الجسد هنا مفتاح وبوابة لا من أجل إيجاد جواب شافٍ، بل من أجل فتح أفق جديد أمام الروح التي تضجّ بذاتها وبجحيمها.
ولكن حتى طريق الجسد كما جسّده خان لم يُفض إلى راحة وبحبوحة. فعن طريق الجسد لمس الإنسان الحب والدفء والسكينة ولكنه بالمقابل وعن طريق هذا الجسد عرف الغيرة والكراهية والخيانة والاشتهاء والأنانية وكأنّ الطريق إلى الطمأنينة التي يؤمنها الجسد أحياناً باعتباره كيانًا ملموسًأ وماديًا ومضمونًا لم تعد كافية ولا مُرضية، لأنّ الأسئلة تزيد في معركة الوجود البشري وتناقضات مشاعره وحتى هذا الجسد يتآمر علينا أحياناً ويغدر بنا. وهنا يظهر الحبّ كمخلِّص وكمرفأ للإنسان في رحلته الشاقة هذه- الحب الذي هو أول الأسئلة وفاتحة الجسد والروح.
تظهر هنا نفحات الصوفية الجميلة التي اختار خان أن يلمسها ويوحي بها دون استحضارها بشكل مثقل على العمل. استحضر روحها بما يليق براقص ومدرب رقص محترف يدرك أدوات عمله بفنية عالية. انتفضت الأجساد على المسرح بشكل ملفت. الغبار يتطاير من ثياب الراقصين والراقصات على المسرح (الغبار الذي هو التراب، المادة التي أتى منها الإنسان وإليها يعود بحسب المعتقد الموحّد). كان هذا الغبار طريقنا للسؤال الأول أو النقرة الأولى التي كانت لكل منا على جدار الرحم: ماذا في الوراء؟ هذا الغبار الطالع من الجسد ومن التراب (في لحظة مقاربة للولادة) دفعني بشكل مخيف لتخيّل هذه اللحظات كما لم أفعل من قبل وكأنني للمرة الأولى أشمّ رائحتي بعد النزول من الرحم وأتلمس بيدين مغلقتين عينيّ وجفنيّ وكأنني للمرة الأولى أستذكر لحظة وقوعي على الحياة.
أقول هنا إن عملاً مسبوكاً بهذا القدر من الجمال والإتقان لا بدّ أن يورطنا معه. كيف لا وقد لعبت الموسيقى دوراً لا يقلّ عن دور الأجساد وتقنية الأضواء فكان العرض وكأنه عرض للرقص والموسيقى التي وظّفها المؤلف بشكل متناسق لتدقّ كما الساعة وتذكرنا بعنصر الزمن الذي يلفّ كل حياتنا ومواقفها ويتحكم في كثير من خياراتنا.
هذا العرض وضعنا أمام حقيقتنا الإنسانية الأبسط والأكثر تعقيداً في آن واحد: ما السبب الذي أتينا جميعاً من اجله إلى هذه الحياة؟ وعندما سيسقط الجدار ونعبر أخيراً البوابة الأخيرة للموت ماذا سيكون هناك؟ وهل سيختفي غبار الأسئلة أم انه سيتكثف ويزداد؟ وكأن الطريق كان عمودياً طوال الوقت ولم ينتبه أحد إلى ذلك. منذ النقرة الأولى حتى النقرة الأخيرة التي عبر بها الراقص نحو “ما بعد” فأسقط هذا الجدار الضخم في لحظة ختامٍ رائعة لعرض استثنائي. وكأن هاتين النقطتين فقط هما الحقيقة المطلقة وكل ما عداهما وهم وسراب.
7 أكتوبر 2012
nothing